همتك نعدل الكفة
614   مشاهدة  

طرائف من حياة الموسيقار..سيرة محمد القصبجي

القصبجي


كنا قد انتهينا في اللقاء السابق من محاولة تفسير الغموض والجمود اللذين سيطرا على شخصية القصبجي في مشواره، وسواء على المستوى الفني أو المستوى الشخصي فتحليل سلوك كسلوك المرحوم محمد القصبجي هو أمر من الصعوبة بمكان، فالعوامل التي يمكن أن تكون سببا لذلك كثيرة ومتنوعة، منها ما كان على المستوى الأسري، ومنها ما كان على المستوى الفني في مشواره كملحن ومؤلف موسيقي، وقد تحدثنا بشيء من التفصيل حول هذا الجانب، وبيان ذلك أن القصبجي كان عائلا لأسرة كبيرة تخطى عددها الثلاثة عشر، وكان هو مصدر الرزق الوحيد لتلك الأسرة، وربما شهرة القصبجي زورا بأنه كان بخيلا إنما جاءت من حرصه الشديد على دخله كي يتمكن من إعالة أسرته، أما على مستوى عمله فالقصبجي لم يكن ليبخل أبدا عليه، فقد روى لي أحد الذين عاصروا المرحوم محمد القصبجي وحضروا حفلات كوكب الشرق في وجوده أنه كان يغير أوتار عوده في كل حفل لها، حتى وإن كانت الأوتار بحالتها، بمكان ما بالقاهرة كان يجلس على مقهى محبب لقلبه أمام صانع الأعواد، ويطلب براد الشاي بالنعناع وينتظر حتى ينتهي الرجل من تغيير طقم الأوتار له.

 

نظرة أخرى على شخصية محمد القصبجي: ” طرائف من حياة الموسيقار”.

بيد أن الحزن والمأساة التي يمكن أن تترجم عند البعض بأنها كانت أسلوب حياة عند القصبجي لم تكن أمرا دائما يعيشه محمد القصبجي طوال الوقت، فالرجل في أوقات كثيرة كان يسهر مع أصدقائه الملحنين ويتسامر معهم ويضحك، صحيح ربما تنفيسا عما بداخله أو هروبا من واقع أليم يعيشه، ولكنني في هذا الصدد أذكر ذلك حتى لا يتوهم البعض أن محمد القصبجي كان شخصا متوحدا منطويا على نفسه ويتغذى على الاكتئاب، ففي تسجيل خاص يمتلكه الآن قلة قليلة من الناس يحكي المرحوم الشيخ زكريا أحمد عن إحدى سهراته مع المرحوم محمد القصبجي، وتدور وقائع السهرة أن الشيخ زكريا كانت تجمعه صداقة برجل تركي متقن للغات وكان قد اتفق مع الشيخ زكريا أن يتقايضا كل بما يملك، فالمرحوم زكريا أحمد يعلمه الموسيقى والمقامات أما هو فيتولى تعليم زكريا اللغات، وذات يوم دعاه ذلك التركي لوليمه “حلة محشي” تفنن الشيخ زكريا في وصفها، يقول:
لفافة الكرنب منها ربع حجم تذكرة التروماي، وحجم أصبع المحشي فيها كنواة البلح، فالحلة كان بها قرابة الأربعة آلاف أصبع، وخلال السهرة كان المرحوم محمد القصبجي يتردد على المطبخ كثيرا، يذهب للمطبخ فيمكث ثلاث أو أربع دقائق ثم يعود للجلسة، ثم يذهب للمطبخ فيمكث فترة ثم يعود للجلسة وهكذا دواليك، فظن الشيخ زكريا أن القصبجي قد يكون مريضا ببطنه وأنه يذهب لدورة المياة، وفي إحدى المرات التي ذهب فيها القصبجي قام زكريا ليتفقد حال صاحبه وإذا به يجده في المطبخ يأكل من حلة المحشي، يقول زكريا في التسجيل: أتى محمد القصبجي على الحلة كاملة، وانفعل التركي وأخذ زكريا والقصبجي في الضحك ومعهم كامل الخلعي ثم انصرفوا وهم في حالة هيستيرية من الضحك خصوصا حين قال القصبجي أنه لم يأكلها بل أكلها قط هذا الرجل، فقال له زكريا إن وزن القط لا يكاد يكون نصف وزن الحلة يا قصبجي.

 

القصبجي

وفي سهرة أخرى أراد زكريا أن ينتقم من القصبجي بسبب ذلك الإحراج فأغراه بالنقود مقابل النشان، ومضمون الرهان كان أن يقف القصبجي عند باب الشقة ويبدأ زكريا في النشان بالبيض على فم القصبجي، وكان زكريا على حد تعبيره بارعا في النشان، ومقابل كل بيضة لا تصادف الهدف “فم القصبجي” يأخذ القصبجي 5 قروش في حين إذا صادفت الهدف أكلها القصبجي، يقول زكريا: كنت أتعمد ألا أصيب الهدف كي تزداد أطماع محمد القصبجي وليكون ذلك حافزا له على مواصلة اللعب، ثم يستطرد فيقول: لقد أكل القصبجي يومها قرابة السبعين بيضة، ولم ينقذه مما حل به سوى مادة كربونات الصوديوم التي أحضرناها له من صيدلي فتقيأ على أثرها كل ما أكله، كان يتقيأ من فمه وأنفه على السواء، كالذي ينفث دخان الشيشة.

إقرأ أيضًا…هل سرق مصطفى محمود فكرة برنامج العلم والإيمان من أبو شوشة

 

يقول زكريا: كان على نحالة جسدة أكيلا “كثير الأكل” لا يبدو عليه أبدا، ففي إحدى المرات وبمحل يقدم فاكهة المانجو وضع القفص أمام محمد القصبجي فأكل منه حتى تبقى به ثلاث أو أربع حبات فقط، وبحساب العدد الذي يحتوي عليه القفص تبين أن محمد القصبجي قد أكل أكثر من خمسين ثمرة مانجو، ولم ينقذه أيضا مما كان سيؤول إليه حاله إلا ذات المادة الكيميائية التي جعلته يتقيأ كل ما أكله.

لا ينبغي أن ينظر للصورة من زاوية واحدة فقط، إن الحكم على المرحوم محمد القصبجي بأنه كان شخصا كئيبا رغم المآسي والانكسارات التي عاشها ورغم غرابه حاله لهو درب من دروب الظلم التي تخلد صورة كاذبة عن فنان عبقري مثله، فكل من عاصر المرحوم محمد القصبجي وتقرب منه حكى أنه كان شخصا مرحا في حديثه هادئا في أسلوبه حنونا يعطف على الفقراء والمساكين، وما كان يبدو عليه من وجوم إنما كان مما حمله بداخله من آلام وأوجاع تعددت أسبابها بين الفن والحياة فانعطفت به إلى حيز الحزن دون حول منه أو قوة.

ويقول البعض حول أسباب ذلك الحزن، إن أم كلثوم كانت قد طلبت من المرحوم محمد القصبجى أن يقتصر في عمله على التلحين لها فقط، وربما قصدت أم كلثوم بذلك ألا يقوم بالتلحين لأسمهان تلك المطربة التي شغلت الناس حينئذ، فى ظل المنافسة المشتعلة بين المطربتين، لكن محمد القصبجي رفض طلب أم كلثوم، بيد أن الغريب في تلك الرواية أن محمد القصبجي كان بالفعل قد لحن لأسمهان في الثلاثينيات، وهو ما سنتحدث عنه في حلقة قادمة إن شاء الله، على أية حال فلم يكن القصبجي يدرك بالطبع أن أسمهان سترحل عن الدنيا بعد قليل لكنه القدر، وماتت أسمهان إلا أن أم كلثوم رفضت الغناء من جديد للقصبجى ردا على موقفه، وتوترت علاقتهما مما أدى إلى توقفه عن التلحين لها بعد ذلك، وخسر الجمهور المزيد من كنوز القصبجى، بل خسر الجمهور القصبجي نفسه الذي تأذى من فعل الست فانحبست عواطفه ومشاعره بداخله ومات كمدا متحسرا، ومع هذا فقد ظل ضيف شرف فى فرقة أم كلثوم الموسيقية كإسم كبير وعازف عود من الطراز الأول، وكان يكفى وجوده فى الفرقة وظهوره باستمرار فى الصف الأول لإضافة قيمة كبيرة للفرقة ولما تقدمه، بل وشرف كبير للملحنين الجدد الذين قاموا بالتلحين لأم كلثوم بعد ذلك كبليغ حمدي والموجي وعبد الوهاب، فقد قام بأداء ألحانهم مع فرقة أم كلثوم وهذا فى حد ذاته مكسب كبير لأى ملحن لما يتضمنه ذلك من اعتراف ضمني من المرحوم محمد لقصبجي بجودة اللحن أو هكذا دعوني أقولها، قياسا على تصرفات وشخصية رجل كمحمد القصبجي الملحن الكبير والعواد العبقري.

 

وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان