محمد رحيم ولد نجمًا ورحل وهو على القمة

عندما تحدثت عن أزمة الأغنية المصرية الحالية تطرقت إلى جزئية الألحان وأن الأزمة لا تكمن في عدم امتلاكنا موهوبين قدر ما أن الأزمة تتلخص في سيطرة ملحني التيمة البسيطة على حساب ملحنين الجمل القوية وأن المشهد لم يعد يستوعب هؤلاء الموهوبين القادرين على اجتياز تلك الأزمة بكل سهولة، و ذكرت اسم الملحن “محمد رحيم” الذي تفاجئنا بخبر رحيلة عن عمر يناهز 45 عامًا في صدمة قاسية ومؤلمة وخسارة كبيرة للأغنية المصرية والعربية.

مولد نجم في سن صغيرة

شاب لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، يخطو بثقة وثبات ليصعد منصة أحد مدرجات كلية التربية الموسيقية، حيث يدرس في سنتها الأولى، كي يقدم نفسه لـ حميد الشاعري الذي حل ضيفًا على إحدى ندوات الكلية.

بعد السلام يقول الشاب جملة واحدة مليئة بالثقة والتحدي “عايز اقعد معاك ساعة واحدة بس وأوعدك إنك مش هتندم أبدًا” استفزت تلك الثقة حميد الشاعري المتمرس على إلتقاط النجوم؛ حيث لمح بريقًا في عين الشاب يفصح عن موهبة مدفونة تبحث عن من يطلقها إلى الأضواء والشهرة، لم يتردد حميد في إعطائه موعدًا في نفس اليوم داخل الاستوديو الذي يعمل فيه على إنجاز شريط عمرو دياب الجديد، يذهب الشاب صحبة أحد أصدقائه الشعراء كي يبدأ رحلة أشبه بالحلم الذي على وشك أن يتحقق.

في هذا اللقاء استمع حميد إلى عدة ألحان للشاب ليقطع الحوار دخول “عمرو دياب” إلى الاستوديو، يمارس حميد لعبته المفضلة في المزاح والمقالب ويقدم الشبان بصفتهم أصدقاء من ليبيا؛ ويصر عمرو على أنهم وجوه جديدة خاصة بعدما لمح جيتارًا بجوارهما.

يصر عمرو على الاستماع إلى الأغاني التي استمع لها حميد ويلتقط منها أغنية “وغلاوتك”، التي كان حميد يريد الاحتفاظ بها لنفسه، يدور خلاف معتاد حول من يظفر بالأغنية ليفوز بها عمرو في النهاية.. وتعلن بداية ملحن يدعى “محمد رحيم”، الذي منحه حميد فرصة عمره بالظهور في ألبوم “عمرو دياب” أشهر نجم بوب مصري.

خرج حميد من تلك الليلة وهو يدرك أنه أمام موهبة تلحينية جبارة، كان لا بد لها من اختبار سريع كي يبرهن على تلك الموهبة، أعطى رحيم كلمات من الشاعر” سامح العجمي” كي يلحنها ينجح في الاختبار بل وجعل حميد يغني اللحن مع صديقه “فارس” لتظهر إلى النور أغنية “كحيل العين” التي تعتبر أول أغنية رسمية يظهر عليها اسم محمد رحيم على غلاف ألبوم والتي صدرت قبل “وغلاوتك” بشهر تقريبًا.

نالت أغنية “وغلاوتك” شهرة كاسحة أكثر من “كحيل العين” وأعلنت الميلاد الحقيقي لـ ملحن موهوب كان الوسط الغنائي في حاجة إليه بعد سيطرة سلسلة من ملحني الترابيزة على مشهد الأغنية المصرية، في تلك الأغنية استعاد حميد أسلوبه المميز في دمج الفلامنجو مع البوب بعيدًا عن صخب المقسوم التسعيني.

 بداية الرحلة من القمة

بدأ رحيم رحلته من على القمة؛ بالتعاون مع عمرو دياب من خلال توزيعات صانع النجوم “حميد الشاعري”، لم يكن غريبًا أن يلتقطه “محمد فؤاد” في محاولة أخيرة منه لمنافسة غريمه الأزلي “عمرو دياب” كي يلحن أغنية “أنا لو قلت” من كلمات “مجدي النجار” والتي ظهرت في شريط “الحب الحقيقي”.

أهمية أغنية “أنا لو قلت” تكمن في شئ واحد، هو تشبث محمد رحيم بأفكاره الموسيقية رغم حداثة عهده داخل الوسط الغنائي فأجبر موزع مثل “أشرف عبده” على تغيير أسلوبه في الإخراج الموسيقي ليتناسب مع أفكاره هو، أصر على تنفيذ الإيقاع بشكل مختلف وبعيدًا عن إيقاع المقسوم الذي لا يعرف “أشرف عبده” غيره؛ وعزف بنفسه أرتام الجيتار وتخلص من خطوط الوتريات المزعجة التي يكتبها واستبدالها بكوردات من الكيبورد.

لذا ظهرت الأغنية بشكل مختلف عن توزيعات “أشرف عبده” التقليدية، وتكرر الأمر نفسه بينهما في أغنية “ليه بيفكروني”، التي خرجت بأفكار رحيم وأفصحت عن امتلاكه أسلوب متفرد في التوزيع الموسيقي رغم صغر سنه وفي ظل وسط غنائي تتحكم فيه الأسماء المشهورة فقط.

رحيم منذ صغره وعينه على موسيقى حميد الشاعري، عندما إلتقى الاثنان وجد كل منهما ضالته في الأخر، تبناه حميد بشكل خاص ورشحه للعمل مع نوال الزغبي ومايا نصري في أغاني “الليالي، أخبارك إيه”، ثم قدم مع هشام عباس أغاني “يا من هواه، قلبي، سامع قلبي”، و”سهران” لـ هشام نور، ثم منحه حميد فرصة الظهور في شريط “غزالي” بأغنيتين كتب رحيم واحدة منهم.

مع بداية الألفية كان الوسط الغنائي قد استقبل رحيم بشكل مميز جدًا؛ كانت مرحلة تغيير كبيرة في سوق البوب المصري وكان رحيم أحد علامات هذا التغيير؛ ملحن يعرف كيف يلتقط الجملة التي تعلق في أذن المستمع بسهولة ويعرف كيف يبني لحنًا جيدًا لا يعتمد على تيمة لحنية مستهلكة بل جملة رصينة شديدة العذوبة، بالإضافة لقدرته على التنوع في ألحان ما بين أغاني الـ Hits والأغاني الدرامية.

سطور جديدة في المسيرة

رغم أن مشوار رحيم بدأ بالنجاح مع عمرو دياب إلا أن اللقاء الثاني بينهما تأخر قليلًا، فلم يستعين به عمرو في أشرطة “قمرين، تملي معاك”، حتى عاد للتعاون معه في شريط “أكتر واحد بيحبك” في أغنية “حبيبي ولا على باله”، التي كانت شكلًا جديدًا في أغنية الـ Hits المصرية، بالتعاون مع الكبير “طارق مدكور”.

وحققت الأغنية نجاحًا ساحقًا مكن عمرو من الفوز بجائزة “الميوزيك أوورد” للمرة الثانية في تاريخه، وكتبت سطرًا جديدًا في مسيرة رحيم، الذي بدأت بصمته التلحينية تظهر في أغاني كثيرة مثل “قالتلي خلاص” خالد عجاج، “أجمل إحساس” إليسا، “ليه بيفكروني، ياللي بتغيب عليا، كنا زمان” محمد محي، “جت تصالحني” مصطفى قمر، “يا عالم بالغيب” رجاء بلمليح، “مشتاق” إيهاب توفيق.

تفجرت مواهب رحيم التي لم تقتصر على التلحين فقط؛ حيث قدم نفسه كمطرب لأول مرة من خلال شركة “ميوزيك ناو” من خلال شريطها المجمع، ومنحه المنتج “فايز عزيز” الفرصة في إبداء الرأي في الأصوات الجديدة التي تنتج لها الشركة مثل “نور العربي، هيثم شاكر، حسام حبيب”، ظهرت أغنية “كام سنة” بصوت رحيم وغنى دويتو مع الأب الروحي حميد الشاعري في أغنية “زمان” ولحن 6 أغنيات في الشريط وكان هناك احتفاء به حيث ظهرت صورته على الغلاف بشكل أكبر من المطربين الجدد بجانب الصوتان الأشهر في الشريط “حميد الشاعري، حكيم”.

ضريبة الانتشار في الوسط الغنائي

مع بداية الألفية بدأت القنوات التي تبث الأغاني على مدار الساعة تظهر تباعًا، كان لا بد من تغطية ساعات البث بأكبر قدر من الأغنيات دون الالتفات إلى القيمة الفنية، وبدأ معها طوفان قادم من مطربات ومؤديات من لبنان إلى مصر حيث كانت القاهرة لا تزال المركز الذي يمنح الجميع صك النجومية والشهرة.

استغل رحيم هذا الطوفان بشكل تجاري منحه انتشارًا فنيُا وتأمينًا ماديًا أكثر، تعاون مع مطربات مؤديات مثل “ماريا، قمر” وحاول أن يعيد تقديم شكل الطقاطيق الخفيفة في مشروعه الأهم مع “روبي” حيث وضع حجر الأساس في مسيرتها الغنائية الخاصة ووضح قدرته على التعامل مع الأصوات الخفيفة وجعلها تغني بشكل مريح وغير مزعج للأذن.

كانت تلك المرحلة جدلية جدًا في مسيرة رحيم، ملحن صاحب ألحان قوية ومبهرة مع كبار المطربين والمطربات في الوطن العربي وفي نفس الوقت هو هو نفس الملحن الذي يتعاون مع أصوات مؤدية وقادر على منحها ألحانًا بسيطة تناسب طبيعة أصواتهم الضعيفة جدًا.

لا يمكن لومه على تلك الفترة التي كان يبحث فيها عن الأمان المادي وكانت مسيرة موازية مؤقتة في رحلته الفنية لم يتنصل منها ولم يشطبها من مسيرته، لكنها ضريبة يدفعها الجميع في الوسط الغنائي الذي كان يسير من سئ إلى أسوأ مع نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة.

لقاء مع الملك

أرتبطت ألحان رحيم بأصوات كبار المطربين العرب، لكن ظل لقاء لم يتم بينه وبين الملك محمد منير، كان منير قد جرب الاعتماد على الوجوه الجديدة من جيل رحيم مثل “عمرو مصطفى، أمير طعيمة” لكنه لم يكرر اللقاء معهم.

ذهب رحيم إلى منير لأول مرة حاملًا في جعبته لحنًا بعنوان “بنات الهلالية”، لم يفهم منير الكلمات وأعطاه درسًا مهمًا في كيفية انتقاء الأفكار التي يلحنها وأخبره أن هناك رجلًا يدعى “عبد الرحمن الأبنودي” قضى عمرًا مثل عمره يبحث ويدقق في تاريخ السيرة الهلالية وأبطالها، وأن السيرة ليس بها بنات هلالية، وأخذه من يده إليه لتبدأ فصول جديدة في تاريخ رحيم وتاريخ منير نفسه حيث منحت أغنية “يونس” منير قبلة الحياة من جديد بعد سلسلة من الأعمال المخيبة لجمهوره.

استمر التعاون مع منير في الشريط التالي “أهل العرب والطرب” حيث قدم رحيم “قلبي مايشبهنيش، يا حمام” من كلمات الأبنودي مع بعض الأغنيات الوطنية.

إقرأ أيضا

“المقاومة ليست سببًا للقتل” أول شهداء فلسطين في تاريخ الصراع مع إسرائيل

وهناك مشروعًا في درج منير بطله الأول “محمد رحيم” يسير على نفس تجربة الثنائي “عبد الرحمن الأبنودي” والملحن “إبراهيم رجب” مع العديد من الشعراء؛ منهم الأبنودي مع الشاعر الكبير حسن رياض الذي كتب أول أغنيات المشروع “باب الخلق” لكنه لم يظهر إلى النور بسبب انشغال منير بمرضه ونأمل في أن يفرج عنه في حالة انتهاء بعض الأغنيات فيه.

مسيرة ملهمة ونجاح مستمر

رغم إنتاج رحيم القليل في السنوات الأخيرة من مسيرته إلا أن تجربته تعتبر الأهم في جيله على الإطلاق، لم يكتفي كونه اسمًا مهمًا في سوق البوب الغنائي لكنه صنع مسيرة موازية لا تقل أهمية في الدراما سواء تلفزيونية او سينمائية، التقطه خالد يوسف ليقدم بصوته أهم أغنيات فيلم حين ميسرة “بشعر ساعات” التي كتبها الشاعر الكبير إبراهيم عبد الفتاح والتي تعتبر واحدة من أعظم إنتاجات رحيم على الإطلاق مطربًا وملحنًا، ثم قدم أغنية “مشاعر” للمطربة شيرين عبد الوهاب والتي كانت تتر مسلسل “حكاية حياة” ونالت شهرة فاقت شهرة المسلسل نفسه ولازالت محافظة على نجاحها  المدوي حتى الان وغنى رحيم بنفسه تتر النهاية” بخاف من الغروب” من كلمات الشاعر الكبير “عبد الرحمن الأبنودي”.

ارتباط اسم رحيم بشعراء كبار كان نابعًا من موهبته الضخمة جدًا والقادرة على التعامل مع كلمات حقيقة وصبغها بألحان قوية مبهرة توازي قوة الكلمات؛ بالإضافة إلى تقديره الشخصي لهؤلاء الشعراء الكبار لم يدخل في صراع أجيال معهم وبل وصل جيله بهذا الجيل عبر صوته وألحانه، وهي المسألة التي منحته تميزًا عن جيله ناهيك عن مسئوليته كفنان يبحث عن القيمة وعن فنًا يعيش من بعده.

بعد ثورة يناير إنقلب الحال في مشهد البوب المصري وبدأ مرحلة جديدة دخلت فيها أشكالًا موسيقية جديدة على المشهد؛ مثل المهرجانات والراب والتراب، هذا الأمر جعل إنتاج رحيم قليًلًا جدًا.. يظهر من حين لأخر في أغنية هنا أو هناك. وأصبح يُنتِج أغاني لمزاجه الشخصي في ظل انهيار الإنتاج الموسيقي وفي ظل المشهد العبثي، الذي لم يكن على استعداد لاستيعاب تلك الموهبة الضخمة.

خصوصًا مع الصراعات التي تحكمها شِلة البوب الغنائي، والتي قرر رحيم أن يكون بعيدًا عنها، فلم نجده يظهر في برامج الإثارة وفضح الأسرار.. لا يطلق تصريحات مسيئة لأحد ولا يرد على أي تصريح مسيء إلا في أضيق الحدود.

لكن أحيانًا يأتيك الإنصاف من حيث لا تدري، نال رحيم العضوية الذهبية من جمعية المؤلفين والملحنين في فرنسا ثم نال العضوية الدائمة من نفس الجمعية، لكن الأهم أن ألحانه تسيطر على “تريندات” مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الفيديوهات القصيرة، بعضها تخطى عمره العشرون عامًا مثل “صبري قليل، الوتر الحساس، ياما ليالي، يا سلام، ابن الجيران”.

مسك الختام

ومؤخرًا عادت أغنيته الأولى “وغلاوتك” إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن غناها عمرو دياب في حفل مهرجان الجونة، وساهمت في عودة عمرو دياب إلى قمة قائمة “بيلي بورد عربية” لأول مرة بعد أن سيطرت عليها شيرين عبد الوهاب شهورًا طويلة، وكأن القدر أراد أن يمنحه فرحة مساوية لفرحة البدايات قبل رحيله المفاجئ.

رحيل محمد رحيم خسارة فادحة للمشهد الغنائي الذي لن يستوعب موته الأن لكن يكفي أن مسيرته كانت مسيرة إلهام ونجاح مستمر لملحن ولد نجمًا ورحل وهو على القمة.

روبي وايه اللي حصل في السنبلاوين