سيرة موسيقار الأجيال (17) أغاني محمد عبدالوهاب الطويلة “إعادة نظر وقراءة فنية جديدة”
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة السابعة عشر من قصة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وكنا قد انتهينا في الحلقة السابقة عند مرحلة السينما الغنائية في حياة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والتي تمخضت عن مفهوم جديد لشكل الأغنية الخفيفة، ألا وهو مفهوم الأغنية السينمائية التي ترتبط بالتعبير أكثر من ارتباطها بالتطريب، إلا أن محمد عبد الوهاب خلال الستة عشر سنة التي قضاها في ميدان السينما لم يتوقف عن تطوير شكل الأغنية المعروف، وبالأحرى لم يتوقف عن لمسته التجديدية التي صاحبته منذ الصغر إلى أن تربع على عرش الطرب في مصر.
اقرأ أيضًا
حلقات سلسلة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب
لذلك سنتحدث في هذه الحلقة عن أغاني محمد عبد الوهاب الطويلة، أو الكبيرة كما يعرفها الموسيقيين، والأغنية الطويلة أو الكبيرة هي عبارة عن قالب من أحد القوالب الغنائية المعروفة كالقصيدو أو الطقطوقة أو المونولوج يمتد اللحن الموسيقي فيها ليشغل حيزا كبيرا من الوقت تماما كالمونولوجات المطولة التي كانت تغنيها كوكب الشرق أم كلثوم، واعتمدت في أساسها وتكوينها على الفكر الموسيقي العميق الذي يؤسس لمساحة كافية من إبراز الشخصية الفنية التي تميل إلى التعبير أكثر منها إلى التطريب، وفي الواقع فإن التقريب بمثال مونولوجات وطقاطيق أم كلثوم التي غنتها على المسرح إنما لتوضيح الفكرة فقط.
اعتمد محمد عبد الوهاب في الأغاني الطويلة على ترجمة المعاني بالتعبير المرتبط بالجمل المكتملة فبات يلحن جملا تامة المعنى أو بمعنى ادق أبيات شعرية كاملة، وابتعد عن فكرة تلحين الكلمة، لتأتي الأغنية الكبيرة في النهاية بشكل رشيق يعبر عن حالة ما كتبها المؤلف، بشكل يقترب من فكرة التصوير المعتمد عليها قالب المونولوج، ويتضح من خلال متابعة الحلقات السابقة أن شخصية عبد الوهاب التي تميل إلى التعبير علاوة على فكره الساعي دوما إلى التجديد إنما دفعاه إلى كل ما هو مشابه وكل ما يتفق مع هذه الشخصية، لذلك فالأغاني الطويلة أو الكبيرة التي قدمها محمد عبد الوهاب ما هي إلا ترجمة حقيقية لشخصيته الفنية.
أغاني محمد عبد الوهاب الطويلة” الكبيرة” :
لحن الأستاذ محمد عبد الوهاب الكثير من الأغاني التي ينطبق عليها ذلك الوصف “الأغنية الكبيرة” ومنها:
الجندول من تأليف المرحوم على محمود طه سنة 1941م، وقد سجلت على اسطوانة كايروفون
الكرنك “حلم لاح لعين الساهر” وهي ملحمة غنائية كتبها المرحوم أحمد فتحي 1942م
حياتي انت ماليش غيرك من تأليف المرحوم حسين السيد 1943م
قصيدة دمشق “سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق” من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي بك 1943م
الحبيب المجهول من تأليف المرحوم حسين السيد 1944م
قصيدة السودان ” إلام الخلف بينكمو إلاما ” من كلمات أحمد شوقي بك
أنشودة الفن من كلمات المرحوم صالح جودت 1945م
كليوباترا من كلمات المرحوم على محمود طه
همسة حائرة من كلمات المرحوم عزيز أباظة 1946م
قصيدة فلسطين من كلمات المرحوم على محمود طه 1948م
الأغنية الكبيرة كنتاج طبيعي لتطور القوالب الغنائية:
تعتبر الأغاني الكبيرة أو المطولة التي لحنها موسيقار الاجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب خلال الستة عشر سنة التي قضاها مع السينما وما بعدها نتاجا طبيعيا ومتوقعا لتطور القوالب الغنائية المختلفة كالقصيدة والطقطوقة والموال والمونولوج، ويبدو أن محمد عبد الوهاب كان مصمما على أن يستفيد الاستفادة الكاملة من هذا التطور الذي أحدثه هو وغيره من كبار الموسيقيين الذين شاركوه ذلك العصر، وأن يستغله الاستغلال الأمثل لصالح مسعاه نحو خلق شكل جديد من الأغنية، فما أن تحررت القصيدة من قيودها وشكلها الأول الذي اعتدنا سماعه في ألحان المرحوم عبده الحامولي والمرحوم الشيخ أبو العلا محمد، وما أن استتبت له صورة القصيدة التي طورها هو بنفسه ووصل بها إلى شكل نسب إليه في نهاية العشرينات، وما أن تحرر الموال كذلك على يديه من الفكرة التي كانت سائدة قديما بخصوص الارتجال وكونه مجرد مرحلة تمهيدية للوصلة الغنائية، حتى سخر محمد عبد الوهاب ذلك في إنشاء شكل جديد للأغنية عرف بالأغنية الكبيرة أو المطولة التي تعبر عن مشاهد درامية مكتملة كل فصل فيها تحوطه وتغلفه موسيقى تعبر عنه وتجسده.
وبيان ذلك أن الموسيقى في تلحين القصائد قديما إنما كانت تقتصر على اللوازم والترجمه وملء الفراغات فإذا بها تتحول بعد ذلك “على أثر هذا التطور” إلى مقدمات موسيقية استخدمها محمد عبد الوهاب في بناء لحن الأغنية الكبيرة ذاته إذا ما كانت هذه الأغنية في شكلها ” قصيدة” كقصيدة السودان مثلا “إلام الخلف بينكمو إلاما” التي استخدم فيها مقدمة موسيقية عبرت عن الحالة التي تتحدث عنها القصيدة لاسيما الموسيقية التي صبغت بصبغة أهل السودان عند قوله “ولا السودان داما”، فضلا عن طريقة تلحين الجمل الموسيقية ذاتها، فلم يعتمد محمد عبد الوهاب في هذا النوع من الأغاني فكرة تلحين الكلمات بل قام بتلحين أبيات كاملة تامة المعنى كما قلنا قبل ذلك، كذلك قسم القصيدة إلى مقاطع في شكل أشبه بالمشاهد الدرامية.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك قصيدة دمشق” سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق”، فقد وضع محمد عبد الوهاب لحنا موسيقيا كبيرا على أبيات القصيدة، فكأنما قسمها إلى لوحات كل لوحة تحكي مشهدا ما يختلف اللحن في كل لوحة باختلاف المعنى، لذلك لم تعد القصيدة محكومة بفكرة المقام التي كانت تخضع لها قديما بأن تبدأ بلحن من مقام وتنتهي باللحن ذاته على نفس المقام، صحيح قد يتكرر المقطع الذي بدأت به القصيدة ولكن ذلك إنما يعتمد على فكرة البناء وليس قيد يخضع له تلحين القصيدة، فبديهيا وفق الطريقة الجديدة في خلق شكل الأغنية الكبيرة سيتغير اللحن حتما بتغير المعنى او المشهد، وفي هذه القصيدة تبديل واضح لشكل القصيدة ففي خاتمتها تعاد المقدمة الموسيقية مرة أخرى وكأن عبد الوهاب قد نصب قنطرة على حد تعبير الدكتور فيكتور سحاب، تلك القنطرة ظللت الأغنية من بدايتها وحتى نهايتها.
أما التطوير الحاصل في شكل الطقطوقة فيبدو جليا في روائع محمد عبدالوهاب الست:
الجندول والحبيب المجهول وكليوباترا والكرنك وحياتي انت ماليش غيرك والفن، وذلك من خلال تحوير وتغيير في فكرة المذهب الذي يتكرر بعد كل غصن ليصبح في شكل خاتمة تذيل نهاية كل غصن على أن تختم بها الطقطوقة في النهاية، ولعل أروع ما ذكر في هذا الصدد ما ذكره الدكتور فيكتور سحاب في كتابه السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة حيث قال:
كل هذه الأغنيات جاءت حافلة بالمواويل والغناء المرسل كذلك جاءت بأشكال موسيقية بالغة التنوع وهو ما يوضح لنا رحابة الآفاق التي فتحها تطوير الأشكال الغنائية في سنوات وجيزة أظهر فيها محمد عبد الوهاب ورفاقه الكبار خيالا خصبا وقدرة على التجديد لا تجارى، ولا بد من التحفظ عن تسمية هذه الأعمال طقاطيق، لا لأنها أعمال كبيرة خالدة، بل لأن المذهب في الطقطوقة مرتبط بالمقطع الذي يليه وختام المقطع مرتبط به، أما المقاطع في هذه الأغنيات فتبدأ بلوحة موسيقية تكشف كما تزاح الستار عن مشهد جديد، ولا رابط “موسيقيا” لها بخاتمة المقطع السابق في الغالب، والأرجح أن تبدا المقاطع بتبديل مقامي وإيقاعي.
وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية الحلقة السابعة عشر من قصة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب على أن نكمل المسيرة في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال