محمد وردي فرعون أفريقيا و ملكها المتوج
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
“السجن ليس لنا نحن الأباة، السجن للمجرمين الطغاة“ تلك الكلمات القوية الرنانة كانت ترج أركان سجن “كوبر” أقدم سجون السودان، كان يصدح بها فنان الشعب السوداني وفنان أفريقيا الأول “محمد وردي” إبان اعتقاله بعد حركة الثورة التصحيحية في العام 1971، كان غناء وردي ملهمًا وباعثًا على الصمود والمقاومة وقهر ظروف السجن القاسية.
لم يكن وردي مجرد مغنيًا عاديًا بل مناضلًا كرس فنه من أجل محاربة الإستعمار وتحقيق العدالة الاجتماعية والوحدة بين الشعوب الأفريقية، كان صوتًا للنضال غني للمهمشين والضعفاء وكانت أغنياته شكلًا من أشكال مقاومة الظلم والطغيان.
ولد وردي في عام 1932 في قرية صواردة النوبية الواقعة شمال السودان إبان حكم المملكة المصرية، تلقى فيها تعاليمه الأولية، ثم انتقل إلي مدينة شندي ليدرس بالمرحلة المتوسطة، حتى تخرج ليعمل مدرسًا في وادي حلفًا ثم معهد التربية لتأهيل المعلمين، خاض وردي نضالًا نقابيًا دفاعًا عن حقوق المعلمين، لكن لم تكن مهنة التدريس هي هدفه الأساسي، فمنذ صغره عشق الغناء وتعلم العزف على اّلة “الطنبورة” وكان التدريس بالنسبة له الرغبة الثانية بعد الغناء، وأختار أن يستقيل ليتفرغ إلى الغناء، معتبرًا أن الفن وسيلة هامة للإرتقاء بثقافات الشعوب ولا يقل أهمية عن التعليم.
بدأ مشواره الفني كهاو ، في عام 1957 تقدم إلي اختبارات إذاعة ” هنا أم درمان” ونجح في الاختبار، في نفس العام سجل حوالي 17 أغنية متنوعة، فتم ترقيته إلي مغني من الدرجة الأولي بعد أن كان في الرابعة، على يد وردي تحولت الإذاعة من لسان حال المستعمرين إلي صوت القومية السودانية.
جمع وردي بين الأصالة والإبتكار في غناؤه، ولعب دورًا محوريًا في تطوير مشهد الغناء السوداني الحديث، أدرج العديد من الإيقاعات المختلفة ودمجها مع أوركسترا حديثة جمعت كافة أطياف أشكال الغناء السوداني، ودمج العديد من المواضيع والمفردات المستقاة من قلب المجتمع السوداني، و أسس لمفاهيم جديدة في الغناء معنية بالحرية والمقاومة والمغلفة بحب الوطن.
بمرور الوقت أصبح رمزًا من رموز الغناء السوداني، وأصبحت أغانيه صدي واسع ليس في السودان وحسب ، بل خرج بها خارج حدودها الإقليمية ليساهم في انتشارها في قلب القارة الأفريقية، فداومت إذاعات شرق أفريقيا على إذاعة أغانيه ووصل صوته إلي جنوب ليبيا وتشاد ومالي حتي منابع نهر النيل في أوغندا، وغني في مشهد مثير أمام أكثر من ستون ألف شخص يتحدثون الفرنسية فقط،في استاد ياوندي الكاميروني.
اشتهر وردي بمواقفه السياسية وانضم إلي الحزب الشيوعي السوداني، ووضح تأثر مضامين أغانية بعمله السياسي، فكانت أغانيه تصدح بالثورة والنضال، ووقف ضد نظام إبراهيم عبود المستبد الذي أطيح به في ثورة أكتوبر عام 1964 واحتفل بذكراها في أغنيته الشهيرة “أكتوبر الأخضر”
استبشر وردي خيرًا بنظام “جعفر نميري” واشاد بسياساته الاشتراكية، لكن سرعان ماعاد إلي صفوف المعارضة مرة أخرى بعد سلسلة الإجراءات القمعية التي اتخذها ضد قوى المعارضة في السودان، وغني رائعة الشاعر “محمد الفيتوري” أصبح الصبح، ولا السجن ولا السجان باقي.
اعتقل وردي بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة على نظام النميري، وكان على وشك الإعدام، لم تغير ظروف السجن من أفكاره بل زادته قوة وثبات على مبادئه، اضطر نظام النميري للإفراج عنه شعبيته الكاسحة، فلم يتودد إلي نظامه القمعي وعاد إلي صفوف الجماهيري يغني لهم ويناضل معهم ضد القهر والقمع.
بعد سقوط نظام النميري اختير وردي كرئيس لاتحاد الموسيقيين السودانيين، وعمل على توحيد كافة الأطياف السودانية، لكن سرعان ما اشتعل الموقف في السودان مرة أخري بعد استيلاء الإسلاميون على السلطة في الإنقلاب الثالث عام 1989، عاني وردي ومعه الكثيرين من حكم الإسلاميين الذي اغلق المشهد الثقافي في السودان، و تعرضوا للتضييق ومصادرة أغانيه والهجوم الوحشي على الحفلات، في ظل تلك السلطة الغاشمة توارى وردي بعض الوقت لكن سرعان ما عاد ليتحدى السلطة بسلسلة من الأغاني السياسية اللاذعة، ادي ذلك إلي خروجه للقاهرة هاربًا هاربًا من قمع النظام.
تنقل وردي في منفاه ما بين القاهرة و كاليفورنيا و أصدر وردي ثلاثة ألبومات هي “طفل العالم الثالث” و”أرحل” و”المرسال” والأخيرة كانت أغنية قديمة غناها من قبل في عام 1974، حقق ألبوم “المرسال” صدى واسعًا وتلقفه محبو وردي من كافة الأطياف يمينًا ويسارًا، ويعتبر أكثر الألبومات مبيعًا في تاريخ السودان.
غني له محمد منير أغنيته الشهيرة “وسط الدايرة” والتي جعلها عنوانًا لألبومه وصارت واحدة من أشهر أغاني وردي في مصر، وساهمت في تقريب الجمهور المصري أكثر وأكثر من الفن السوداني.
من المواقف التي لا تنسى في حياة وردي، عندما جاء رجل من مالي سيراً على الأقدام لأنه لم يكن لديه ما يكفي من المال لمقابلته، وقتها كان وردي في المنفى، وعندما تقابل مع ابنه الذي استفسر عن سر المقابلة، فافرد الشاب المالي أنه يريد إلتقاط صورة معه وأن يعطيه شريط كاسيت موقع منه لأنه والد فتاته اشترط عليه ذلك في مقابل إتمام زواجه منها.
أعطاه ابن وردي رقم والده في القاهرة واستقل الشاب القطار حتى حلفا، ووصل إلي مصر والتقي وردي، الذي منحه تذكرة طيران إلي بلاده وعاد إلى المنزل، هذا الموقف يبرز مدى شعبية وردي الكاسحة التي جعلت شابًا لا يعرف العربية يقطع تلك المسافة سيرًا على الأقدام لمدة ثلاث أشهر لكي يقابل فنانه المفضل.
لم يحظي محمد وردي بالتقدير الذي يستحقه في الدول الناطقة باللغة العربية، رغم الشعبية الكاسحة في جميع أنحاء أفريقيا، وشبهته مجلة ” wire “ الأنجليزية بأسطورة نيجيريا “فيلا كوتي” من حيث المكانة والتأثير، غني أكثر من 300 أغنية تميزت بالقدرة على جذب وجدان السودانيين من كافة الأطياف، وردي كان حالة خاصة جدًا لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الغناء العربي والأفريقي..
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال