مقتل السنوار وأزمتنا مع الكلام
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
أخر لحظات في حياة السنوار اتحولت بسرعة البرق لمشهد أيقوني حقق انتشار واسع جدًا، لدرجة خلتني أسأل نفسي: ليه الغالبية الكاسحة شَافِت المشهد من نَفس الزاوية؟
في البداية لقيت إجابة مقنعة نسبيًا بتقول: “جلال الموت”.
بس ولأني بحب أعرف مُنطلقات الأفكار؛ حاولت أجرد الموضوع أكتر وأدور ورا مصادره في ثقافتنا، بوصفنا أكتر شعب واخد الموضوع على قلبه؛ لدرجة إننا بنزايد على الفلسطينية واللبنانيين والسوريين في نَفَس واحد.
فانتبهت إن بعيد عن أثار “خطاب اليسار القومي” أقرب مكون في ثقافِتنا لفكرة الموت هو الدين، ومفهوم غَيبًا إن الدين السايد حدانا هو الإسلام.
بالتالي فموت السنوار له وجه ديني؛ متمثل في موته خلال حرب واخدة صبغة دينية، وهو قيادي في حركة إسلامية، بالتالي اصبح الفقيد “شهيد” وده مصطلح ديني بحت.
علاقة الدين بموت السنوار
واحدة من أكبر مشاكل الخطاب الديني السايد هي مشكلة وضع التراث الديني بره سُلطة الزمان والمكان، فلما يكون غالبية مجتمعنا مؤمن بالفكرة دي.. ويشوف “مشهد موت” متلحوس دين، فشيء طبيعي هيبصله من منظور ديني.
بالتالي هيكون سهل عليه بل يمكن الأقرب لعقله إن رؤيته للمشهد تكون في معزل عن سلطة الزمان والمكان، زي المرجعية المنطلق منها تفكير المُشاهد ومِغَلِّفَة المشهد نفسه.
مقتل السنوار بعيد عن الدين
أما لو شيلنا فِلتَر الدين من ع المشهد هينفع نشوفه من زاوية تانية بناء عن رؤية تراكمية لوضع الصراع ده تحديدًا أو وضع المسلمين الناطقين بالعربية عمومًا.
لإن بعيد عن الدين هيفقد الموت جلاله.. ويبقى مجرد حدث محكوم بسياقات الزمان والمكان؛ أه حدث جلل.. بس ينفع يتبص عليه في ضوء واقع الأحداث ع الأرض.
بالتالي مشهد قتل السنوار في كل الأحوال هيفضل مشهد أيقوني.. بس دلالاته هي اللي هتكون مَحّْل خلاف، هل هيكون زي ما أشاوس الرجعية والتخلف الحضاري بيقولوا؟ ولا وارد تكون له دلالات مختلفة.
بس هنحتاج نعمل “مارش” معرفي ماركة سلطان السُكري
مع المضمون أحيانا مع المعنى دائمًا
“كلام ابن عم حَدِّت”.. كلاشيه مصري صميم؛ معناه إن الكلام الداير مالهوش قيمة أبعد من الوَنَّس، أو زي ما بنقول “بناخد بحِس بعض”. وماظنش أبدًا إننا متفرديين عن شعوب الكوكب في النقطة دي، فالنميمة والهري في الفاضي والرغي بلا هدف بيمثلوا النسبة الأكبر من الناتج العالمي للكلام.
بس شتان بين عدم الاهتمام بالمضمون وعدم الاهتمام بالمعنى، وإحنا بنتونس مش مهم يكون كلامنا ذا قيمة، عادي يعني، إحنا بناخد بحِس بعض مش بنخصب يورانيوم.
لكن المعنى ماتنطبقش عليه القاعدة دي الكلمات ليها معاني واصطلاحات متعارف عليها؛ عشان اللغة تعرف تقوم بدورها وتحقق التواصل ما بينا، كُنا بقى بنتونس ولا بنختار بين إننا نعكس اتجاه دوران الساعة ولا اتجاه دوران الأرض؛ بدل ما بيلفوا عكس بعض، أو حتى لو بنحاول نقنع يوتيوبر إسلامي إن الأرض بتلف أصلًا.
مش ناقصين لبخة في الكلام
“سلامو عليكم” تحية صاحبها متصور إنه بيوصل معنى “سلام الله عليكم”، وده سبب تسمية التحية دي شعبيًا “سلام ربنا”.
والكلام ده غلط ومالهوش أصل، فالتحية لو زي ما هو شايع كانت هتتكتب “سلامُهُ عليكم” مش “سلامُ عليكم”، بالتالي مش هينفع يتعمل منها نسخة مضاف ليها الألف واللام.. لإن لغويا مافيش حاجة اسمها “السلامُهُ عليكم”، إنما ينفع عادي جدًا نقول ونكتب: “السلامُ عليكم”.
بعد الرغي ده كله.. إيه الفرق؟؟؟
“سلامُهُ عليكم” مدلولها إننا بنتكلم عن سلام يخص طرف غير المُتكلم والمُستمع.. ألا وهو “الله”؛ بس في الواقع التحية نصها “سلامٌ عليكم” أو “السلامُ عليكم”.. بمعنى إن القائل بيقول للسامع “أمان.. ماتخافش مني”.
ده لإننا بنتكلم عن تحية انتجها نمط حياة أحد مكوناته الرئيسية الغزو وقطع الطريق، فلما تكون ناوي تعدي جنب حد بتديله واحدة “السلامُ عليكم”.. عشان يتطمن إنك مش ناوي تعمل معاه السليمة؛ فهو كمان يبادلك الآمان “وعليكم السلام”.
بس لأن فيه خلط سماعي بين الضمة والهاء المربوطة.. حصلت المشكلة دي في المعنى، ولأن “سلامو عليكم” دي عدت وبقت عادية.. كان طبيعي نوصل مع الوقت لمستوى “الله وأكبر”. الكتابة الكارثية الناتجة عن خلط بعض الناس بين ضُم الهاء بتاعت لفظ الجلالة “اللهُ أكبر” وبين حرف الواو، كوارث في بديهيات اللغة تؤكد إننا مش عرب.. بس ده مش موضوعنا.
طبعا دلوقتي بتقول في عقل بالك: يا سيدي متشكرين.. إيه علاقة الهري ده كله بقتل السنوار؟
العلاقة يا سادة هي “الكلام”.. أو بالأدق “معنى” الكلام.
أزمة المعاني
العرب والمستعربين عندهم مشكلة في علاقتهم باللغة، دايمًا بيسموا الأشياء بغير مسمياتها؛ بلد تتساوى بالأرض بس نفرين تلاتة ينجو بالصدفة فيتقال عليهم “صامدون”، الجيوش “العربية” مجتمعة تتغلب في 48.. فيسموها “نكبة”.
وأي حد يحاول ينبه إنها “هزيمة” المجتمع يطلع فيه يلهيه ويتهموه إنه “إنهزامي”، كإنه متشائم أو بيتوقع الهزيمة.. مع إن الهزيمة وقعت فعلًا وهو فقط بيقر الأمر الواقع.
وهم الصمود
مش المفترض خالص إن الحرب بين دولتين تنتهي بإبادة الدولة المهزومة، إنما مجرد هزيمة جيشها بتكون كفاية لاعتبارها مهزومة، وحتى هزيمة الجيوش لا تعني إبادة كل فرد في الجيش المهزوم، بالتالي اعتبار بقاء البعض على قيد الحياة “صمود” هو ضرب من الجنون.
وجود شخص رافع قصاد صاحبه صوابعه بعلامة (V) ماتعتنيش بالضرورة النصر، وارد يكون بيحاول يقولُّه “مافضلش غيرنا”.
وهم الصمود بيمنع المصابين بيه من إدراك الهزيمة، وأهمية إدراك الهزيمة والاعتراف بيها تكمُن في حاجتين:
- مبدئيًا إقناع المنتصر بانتصاره عشان يبطل ضرب.
- الاعتراف بالهزيمة بيعني ضمنيًا الاعتراف بوجود سلبيات ما محتاج المهزوم يعرفها ويعالجها.
بالتالي طول ما الطرف المهزوم بيتكلم عن الصمود، عشان لسه فيه تِسَع تنفار مامتوش، هيفضل العدو يضرب عشان يخَلَص عليهم ويخّْلَص.
كمان التِسَع تنفار دول هيفضلوا عاجزين عن تصحيح أخطائهم وتفادي سلبياتهم.. لإنهم مش معترفين بيها أساسًا؛ لإن ببساطة الحرب لسه مانتهتش، حيث إن جيشهم فاضل فيه سَبَع تنفار (فيه درون قنص إتنين وأنا باكتب) لسه “صامدون” بالتالي “المعركة مستمرة”، يعني مش دي اللحظة المناسبة للحساب وتقييم الموقف.
الزمن والسلاح
على مر التاريخ نقدر نقسم تاريخ البشرية بناء عن تطور الأسلحة، عصر حجري.. ثم بُرونزي.. بعدهم عصر حديدي.. ثم عصر البارود.. ثم عصر القنبلة الذرية. كل مرحلة أو عصر من دول كان له نجومُه وأبطالُه، ومع كل تحول في تقنيات الحرب أتغيرت دفة القوة من شعب للتاني.
ملحوظة طِوِيلَة:
ماحدش يضحك عليكم ويكلمكم عن انتفاضة الحجارة (1983م)، لإنها مانتصرتش عسكريًا.. إنما الإعلام منحها نصر سياسي؛ عن طريق “بَرْوَزِة” أبطالها من العيال الصغيرة “أطفال الحجارة”.. بدل شبابها ورجالها بتوع قنابل المولوتوف.
عيال أجبروا إسرائيل لتاني مرة تقعد على ترابيزة التفاوض.. وتوقع إتفاقية مباشرة، صحيح بشروط مختلفة عن أول مرة؛ اللي رفضتها القيادة الفلسطينية بضغط من أنظمة عروبية.
بس عمليًا أي مكاسب من دولة استعمار استيطاني -مدعومة من كل القوى المؤثرة في المجتمع الدولي- ده يعتبر نصر تاريخي، على عكس مجرد “البقاء”، اللي بقى واضح مدى قدرة العدو على إنهاءه.
فضل الاعتراف بالهزيمة
اليابان.. ألمانيا.. روسيا.. أمريكا، كلها دول عُظمى وفي غاية التقدم.. وإحنا بنعتبر الأولانية كوكب مستقل وبنعمل اللَّالّْي عشان نتشعبط في طراطيف ديل أي واحدة من التلاتة التانيين.
والأربعة دول أتهزموا… واعترفوا بالهزيمة، ورجعوا أقوى من الأول وبقوا قوى عظمى مؤثرة في السياسة العالمية كدولة.. ومواطنينهم ليهم احترامهم على مستوى الكوكب.
ماقصدش إن الهزيمة في ذاتها سِر التقدم أو إن فيه ارتباط شرطي بينها وبين التفوق، إنما أقصد أهمية الاعتراف بيها، فالاعتراف بالمرض هو أول خطوة للعلاج.. وأول خطوة لحل مشكلة هو الاعتراف بوجودها.
اليابان نموذجًا
أثناء الحرب العالمية التانية أمريكا أمتلكت أول قنبلة ذرية قابلة للاستعمال، فهددت عدوتها اليابان إنها لازم تستسلم.. فاليابان رفضت. وفي يوم 6 أغسطس 1945م نفذت أمريكا أكبر عمل وحشي في تاريخ الإنسانية؛ وهو ضرب مدينة هيروشيما اليابانية بقنبلة ذرية.
بعد الضربة الوحشية المخيفة رفضت اليابان إعلان الاستسلام، الاعتراف بالهزيمة، فكررت أمريكا نفس ذات العمل شديد الوحشية بعد تَلَت تيام، يوم 9 أغسطس، وترمي كمان قنبلة ذرية على مدينة ناجازاكي.
عشان أخيرًا في 15 أغسطس 1945م تعترفت اليابان بالهزيمة في الحرب العالمية التانية، عبر بيان خاطب فيه إمبراطور اليابان شعبها لأول مرة.
اعتراف اليابان بالهزيمة واكبُه حزمة إصلاحات، أهمها إدراك إن الإمبراطور بشر عادي؛ فمافيش داعي حد يضحي بحاياته عشانه؛ زي الطيارين الكاميكازي ما ضحوا بحياتهم عشان خاطر نصر ماتحققش لإله وهمي.
وييجي في نفس الأهمية إدراك نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، فيعيد المهزوم النظر في أدواته وأفكاره وكل التفاصيل اللي أدت لهزيمته وأسباب نصر الطرف التاني، فبالنسبة لليابان مثلا انهزمت بسبب التقدم التقني للعدو.. النهارده هي كوكب اليابان.
متلازمة الجندي الياباني
الطريف أن اليابان برضه قدمت النموذج العكسي.. نموذج عدم الاعتراف بالهزيمة؛ الملازم هيرو أونودا، جندي ياباني ماوصلهوش بيان الاستسلام، ففضل في أدغال الفلبين مكمل الحرب، تلاتين سنة من الكر والفر في حرب مالهاش وجود إلا في دماغه.
سنة 1975، بعد تلاتين سنة من إعلان الاستسلامها، كانت اليابان دولة متقدمة ومستويات المعيشة فيها هايلة، في نفس الوقت كان الحاج “أوندوا” محلك سِر.. ملازم ماعهوش ذخيرة عمال يتشقلب في الغابة.
“متلازمة الجندي الياباني” بقت تعريف لحالة الانفصال عن الواقع والاستمرار في صراعات الماضي.
البطولة
مفهوم البطولة كمان أتغير وإحنا كناطقين بالعربية لسه معسكرين عند النسخة القديمة منها، لسه واقفين عند بطولة الفارس المغوار الذي “لا يُشق له عُفار” والأجواء دي، أجواء “سأواجهكم بصدرٍ عاري” دي بِطلِت من عالم الحروب من سنين طويلة، يقولها السنوار ولا غيره.. هتفضل مجرد كلام.
في الحرب العالمية التانية انتصر الفريق المتقدم علميا أكتر مش الأشجع، أنتصر الجيش اللي اهتم بسلامة طيارينه.. أما اللي أدهم أوامر يفجروا نفسهم في الأهداف انهزم، النصر كان لمخترعي كرسي الطيار مش للكاميكازي.
فمشهد مواجهة السنوار للدرون بشومة له معاني غير البطولة، ينفع يكون أيقونة لهزيمة الشعارات قصاد التطور، هزيمة الدروشة قصاد المعرفة، هزيمة العنترية قصاد التكنولوجيا.
بس ياترى هل المرة دي ممكن نوعى ونعترف بالخسارة ونبدأ مراحل ما بعد الهزيمة، من إعادة تقييم لكل تفاصيلنا والبحث عن أسبابها جوانا قبل برانا، نحاول نعرف الخصم نجح فإيه وإزاي؟، نبدأ من دلوقتي عشان نوصل بعد تلاتين سنة. وإلا هنقدم النموذج الحي على إن الأمريكان كان عندهم حق في استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال