ملف العيش : (اللقمة الخامسة) .. رغيف العيش الناشف وليلة زفاف الفرخة لوزة
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
رغيف العيش
في بداية الألفينات ، جرت العادة عند البيوت المصرية في الدلتا تربية غية من الدجاج في عشة على السطوح ، ذلك توفيرًا لأسعار الدجاج المُجمد أو الجاهزة ، وكانت لدينا فرخة عانس ترفض الزواج من أي ديك يأتي إلى العشة أو حتى وافدًا ضالًا من العشش المجاورة ، حتى إنهم قد اتفقوا في البيت أنه سوف يتم ذبحها في أقرب وقت عملًا بمبدأ “الفرخة اللي ماتبضش تندبح ” ، وهي فعلًا كانت دجاجة ثقيلة الوزن ، كسولة وأكولة إلى حد كبير ، لها شخصيتها وتحتفظ بالكاريزما الخاصة عن جميع الأمهات داخل العشة ، لها خُن خاص لا يجرؤ أحدهم الاقتراب منه ، إذا ظهرت ابتعدت زميلاتها ، وكشّ ريش الديكة .. لها رصيد كبير في المعارك حتى حفظت هيبتها في الأولوية بالطعام ، فقد كان الجميع يأكل بعدما تأكل “لوزة” ، ويشرب بعدما تشرب “لوزة” ، ويتحرك على راحته عندما تكون لوزة في الخارج ، لوزة كانت تأديب وتهذيب وإصلاح !
رفضت فكرة ذبح لوزة باكيًا ، حتى توصلت لاتفاق مع البيت ، أن أتولى أمرها بنفسي ، وكانت حركة شديدة الدهاء من “البيت” ، يعرفون أنني أعيش عيشة “ابن الباشا” ، الذي لا يضع الطعام للدجاج حتى لا تتسخ يده ، كنت فقط أعشق المشاهدة ، ومن ضمن شروط بقاء الست لوزة ، هو ذهابي صباحًا لطابور العيش ، لتوفير رغيف أو اثنين لتنشيفهم ثم بللهم ووضعم كغداء للست لوزة التي أرهقتني كأنني زوجها .. فبدأت رحلتي اليومية في دوامة العيش ، قبل المنظومة التي تعمل الآن ، كان هناك منظومة أخرى وهي “منظومة الدراع” ، وهي المنظومة القديمة لمن يريد أن يحصل على عشرة أرغفة عيش .. وملخصها أن تقف في الطابور من الصباح الباكر ، وتحاول افتعال خناقة مع رجل مسن أو طفل صغير حتى تضمن الخروج من الخناقة كسبانًا ، فتعطي انطباعًا عند صاحب الفرن أنك قد تسكعه إذ لم يعطيك الأرغفة ، وبالفعل ، كان كل من يقف في الطابور يتبع تلك النظرية ، ولإن لكل قاعدة شواذ ، فقد كانت تحدث بعض الخناقات يجتمع في أصحاب “الدراع” مع بعضهم ، فتكون المستشفى هي الملاذ الأخير بدل من العيش .. وهكذا عرفتني الست لوزة على عالم لم أعرفه .. هذا لإنني كنت أعفي نفسي من هذه المهام الشاقة ، واكتفي أيضًا بمتعة المشاهدة من بعيد .
كنت أحفظ لـ لوزة حقها في رغيف العيش .. رغيفين من عشرة .. أنشفهما جيدًا على سور السطوح ، ثم أبللهما وأضعمها في طبق من الفخار ، وتأتي لوزة بهيبتها المعهودة وتنقر وتنقر في منتصف الرغيف ، حتى تأكل كفايتها ويأتي الأتباع بالباقي ، وفي إحدى المرات تأخرت لوزة عن موعدها في الطعام ، وكل الأصوات في العشة تنبأ بأن هناك حدثًا غريبًا في خُن لوزة ، ارتعد قلبي وتوقعت إن إحدى العرس كانت قد قطفت رأسها ومصّت دمها ، وهي الحركة التي كان يخاف منها كل صاحب غية ، لكن المفاجأة كانت بالنسبة لي حين رأيت ديكًا يعتليها ، وكانت هي في قمة الكبرياء والسعادة معًا ، فنظرت إلى عينيها فرمقتني بنظرة أن اخرج من هنا يا قليل الذوق ، خرجت من العشة سعيدًا .. فسوف تنزاح من على أكتافي مسئولية العيش الناشف ، وسوف يمتد زمن بقاء لوزة لسنوات قادمة .
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال