من الحسد إلى القدرة الجنسية.. أسرار الملح في التراث الشعبي
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يعد الملح في الموروث الشعبي المصري أكثر من مجرد عنصر غذائي، فهو رمز قديم للسلامة والوقاية، وحارس سري للأرواح والشياطين، يمتزج مع عادات وأعراف لا تكاد تندثر رغم مرور الزمن. وفي كل ركن من أركان هذا الوطن، يتنقل الملح من يد إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل، مُرافقًا كل لحظة من لحظات الحياة اليومية، حاملاً بين ثناياه معاني لا يفهمها سوى أولئك الذين عايشوا تقاليد الأجداد وتوارثوها.
درع حامي للطفل
في الريف المصري، وتحديدًا في أعياد السبوع، لا يُعتبر الملح مجرد مكون مادي في الطعام، بل هو بمثابة الدرع الحامي للطفل الذي وُلد للتو، يُرش حوله ويُوضع مع مجموعة من المحبوب تعرف في الريف المصري باسم (السبع حبات) كعلاج وقائي ضد العين والحسد. وعندما تسأل الجدات عن السبب، يجيبون بإجابات تقليدية محملة بالإيمان الشعبي: “الملح يطرد الأرواح الشريرة، ويحمي الطفل من شياطين الليل”. ومن هنا، يبدأ الطقس، حيث لا يكتمل السبوع إلا إذا حاصر الملح الطفل، مُحاطًا به في كل زاوية، في محاولة للحفاظ على صفائه الروحي والنفسي.
الملح طقس الزواج الأقدم
تتعدد الطقوس التي يتداخل فيها الملح مع أحداث الحياة، حيث يبرز الملح في طقوس الزواج كمرافق أساسي يضفي على المناسبة رونقًا خاصًا. في بعض قرى الدلتا، يُشاع أن الملح يجب أن يُرش على العفش الجديد، ويُوضع في كل ركن من أركان البيت الزوجي لضمان حماية جديدة للزواج من العين والحسد. ويُقال في بعض الحكايات، إن النساء المسنّات يكنّ يحرصن على رش الملح على العفش بنية الحفاظ على “البركة” في المنزل وحمايته من الطاقات السلبية، وما زالت هذه العادة إلى الآن.
ثم تأتي إحدى القصص الشعبية التي ترويها الجدات ومفادها: في إحدى القرى، كانت إحدى الجدات تمسك بملح خشن، وتقوم برشّه على العفش الجديد في منزل حفيدها. وعندما كان أحد الرجال يتفحص الأثاث، دخل الملح في عينه، فاحمرّت عيناه بشكلٍ غير طبيعي. وعندما سأل عن السبب، قالت له الجدة بنبرة واثقة: “حصوة في عينك، كنت بتحسد!”، وكأنها لم تُخطئ في تفسير ما حدث، متأكدة أن هذه الحكاية جزء من التراث الشعبي الذي لا يمكن تجاوزه.
وفي تفاصيل أخرى من طقوس الزواج الريفي، يبرز الملح بشكل غير تقليدي، حيث يُستخدم مع الزهرة وهي (صبغة باللون الأزرق تعرفها ربات البيوت توضع على الملابس الداخلية البيضاء)، ولا سيما في “ليلة الدخلة”. في تلك الليلة، يُلقى الملح على العريس من قبل أهل العروس، ويُعتقد أن ذلك يمنحه القوة والقدرة على إتمام “مهمته” بنجاح في تلك الليلة الأولى. وبينما يظل هذا التقليد غامضًا في تفسيره، إلا أنه يمثل إحدى السمات الفريدة للطقوس الشعبية التي تُعنى بالحفاظ على توازن الحياة الزوجية من البداية.
الملح وطرد الطاقة السلبية
الملح في الموروث الشعبي لا يتوقف عند هذه الحدود، بل يمتد ليشمل الحياة اليومية. ففي العديد من البيوت المصرية، تجد الملح في أركان البيت، وفي زواياه المخفية. لا يتعلق الأمر بالطعام فقط، بل برش الملح في أرجاء المنزل لطرد الطاقة السلبية، ومنع دخول الحسد أو السحر.
وقد أُثبت في الموروث الشعبي أن الملح له قدرة غير مرئية على حماية البيت، وهذا ما أشار إليه العديد من العلماء والباحثين في علم الطاقات. تقول الدكتورة “أية محمود”، وهي مختصة في الطب البديل، “كل يوم جمعة، أقوم بمسح الأرضيات بالملح، وأتركه في أركان المنزل، وقد ورثت هذه العادة عن أمي، وأمي ورثتها عن جدتي، وتؤمن أسرتنا بأن الملح يمتص الطاقة السلبية التي قد تتجمع في المكان”.
الملح في العلاج الطبي الشعبي
ورغم أنه لا توجد دراسات علمية تؤكد أن الملح يحمل خصائص سحرية، إلا أن الموروث الشعبي المصري يصر على التمسك بتلك العادات القديمة التي توارثها الأجيال. فعلى الرغم من التطور الطبي الذي وصل إليه العالم، يبقى الملح في الذاكرة الشعبية رمزًا للحماية والوقاية، ومؤشرًا على ارتباط الأجيال ببعضها البعض عبر العادات التي تُخلد في الذاكرة.
ومن الجدير بالذكر أن الملح كان له دور آخر في علاج بعض الأمراض الجلدية، خاصة في الأرياف. فقد اعتاد الناس وضعه على الجروح لاعتقادهم أنه يعجل بشفاءها. تقول إحدى النساء: “كنا نضع الملح على الجروح لتلتئم أسرع، فقد كانت أمي تقول لنا إن الملح يُساعد على تعقيم الجرح بسرعة، ويمنع التلوث”. وعلى الرغم من أن الطب الحديث يؤكد أن الملح قد يُسبب تهيجًا في الجروح، إلا أن هذه العادات لا تزال سائدة في بعض القرى والمناطق الشعبية.
وفي النهاية، رغم أن بعض هذه العادات قد تبدو غريبة أو غير منطقية للوهلة الأولى، إلا أن هناك جانبًا عميقًا يعكس العلاقة الوطيدة بين الإنسان وعالمه المادي والروحي. فالموروثات الشعبية، مثل طقوس الملح، تحمل معها الكثير من القيم والتقاليد التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من هوية الشعب المصري، وتربط الأجيال ببعضها البعض عبر موروثات تمتد عبر الزمان والمكان. وعندما نتمسك بهذه العادات، فإننا نتمسك بجزء من تاريخنا، ونعبر عن ارتباطنا العميق بالأرض والناس والمعتقدات التي شكلت هويتنا الثقافية.
اقرأ أيضًا : الاستعراب يختزل الهوية يختزل الهوية ويدمر آثار الأجداد
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال