منيتُ بما لمْ يجرِ في بالي.. أمر بإزالة لضريح ” رب السيف و القلم” على هامش توسعة طريق صلاح سالم
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
علامة سوداء قبيحة تتوسطها نقطة سوداء أقبح قد وُضعت على قبر”رب السيف و القلم”، في إشارة إلى أننا سنفقد رمزية هي الباقية لرائد مدرسة الإحياء والبعث، الفارس الشجاع ، و الرجل الذي أُسندت إليه رئاسة الوزراء الوطنية بعد الثورة العُرابية، يؤول مأواه الأخير إلى الهلاك لتوسعة طريق صلاح سالم.
من منّا لم يسمع عن “محمود سامي البارودي” الشاعر والأديب الذي أحيى الشعر من مرقده ونهض به بعد طول ضعفه، إمام الشعر الحديث الذي نظم قصائده على غرار ما نظمه المتقدمين في عصور الازدهار.
محمود سامي البارودي الذي يُزال قبره وشاهده الآن، لم يكن شاعرًا فقط بل كان رجل سياسي وعسكري من الطبقة الأولى، فالناظر في تاريخ هذا الرجل يرى أي عظمة لرموز تاريخنا وثقافتنا ومعارفنا في مرحلة مربكة سياسيًا وحضاريًا، ولنسلط الضوء على بعضٍ من حياته حتى نعرف أي شاهد وأي قبر سيزال، وهل يستحق رمزنا هذا الانتهاك الصارخ لحرمات رفاته؟!.
من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي
ينحدر”البارودي” من سلالة “المقام السيفي نوروز الأتابكي”،وقد وُلد بسراي ” البارودي عام 1839م، بمنطقة باب الخلق في القاهرة. لم يكن ” البارودي” مرفهًا أو متخاذلًا، فقد نشّأته والدته تنشئة عسكرية صارمة كأبيه الذي توفي في حروب السودان، فاستقدمت له المعلمون في سن مبكر إلى أن أتم المرحلة الابتدائية عام 1839م بعد أن حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الحساب وأتقن علم الصرف والعروض والنحو إلى جانب العلوم الشرعية المختلفة.
وفي عمر الثانية عشر التحق بالمدرسة الحربية الذي تعلم فيها فنون القتال المختلفة إلى أن وصل إلى رتبة “باشجاويش”، ثم التحق بعدها بالجيش السلطاني.
لم يكن ” البارودي ” عسكريًا فقط، فقد سافر للعمل بالخارجية المصرية عام 1857 بالأستانة، وهناك تعلم التركية والفارسية واطّلع على آدابهما وعلومهم، وقد أهله إتقان اللغتين إلا الالتحاق بقلم كتابة الفارسية والتركية، وبعد سبع سنوات عاد إلى مصر ليتولى في عهد الخديوي إسماعيل إدارة المكاتبات بين مصر و الأستانة.
عودة للعسكرية من جديد
العمل العسكري للبارودي كما الإدمان، فلم يستطع مواصلة العمل في الدواوين التي تتسم بالعمل الروتيني، فعاد مرة أخرى إلى العسكرية برتبة ” بكباشي”، ثم عُين في سلاح الفرسان كقائد لكتيبتين في الحرس الخديوي.
شارك ” محمود سامي البارودي ” في حروب عدة منها مساندة الجيش العثماني في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة تكريت 1865م ، التي استمرت لمدة عامين أبلى فيها البارودي بلاءً حسنًا.
بعد حرب تكريت، عاد ” البارودي” وأصبح مرافقًا للخديوي وولي عهده، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش مرة أخرى، ولمّا استنجد الوالي العثماني بمصر في حروبها ضد رومانيا وبلغاريا والصرب وروسيا، كان ” البارودي” ضمن الحملة التي أرسلتها مصر فقد كان قائدًا أظهر شجاعةً رُغم الهزيمة التي لحقت العثمانيون، وبعد عودته ” نال البارودي النياشين لما قدمه من شجاعة وبطولة.
ولعلّ الفترة المربكة سياسيًا التي مرت بها مصر في عهد الخديوي إسماعيل أيقظت قريحة الشاعر العسكري محمود سامي البارودي، فنظم قصيدة ثائرة تصرخ في الأمة المصرية، تحثهم على التحرك وطلب الحرية بعد غرق البلاد في الديون والتدخلات الأجنبية في السياسة المصرية وكان مطلع هذه القصيدة:
جلبت أشطر هذا الدهر تجربة
وذقت ما فيه من صاب ومن عسل
فما وجدت على الأيام باقية
أشهى إلى النفس من حرية العمل
وزارات و حقب وزارية متعددة
وبعد ازدهار حركة الوعي المناهض للتدخلات الأجنبية، وتولى شريف باشا نظارة المعارف 1879م، وكان البارودي وزيرًا للمعارف والأوقاف فيها، واستمر فيها حتى فيه وزارة عثمان رفقي، وفي 14 سبتمبر 1881 تولى ” البارودي ” وزارة الحربية، وبدأ فورًا في إصلاح القوانين العسكرية، وزيادة رواتب الجنود والضباط، لكن مع تضيق رياض باشا رئيس الوزراء قدم ” البارودي” استقالاته. وفي 4 فبراير 1882م تولى البارودي رئاسة الوزراء ووزير الداخلية في أول حكومة وطنية تشكلت بعد الثورة العرابية، وعرفت هذه الحكومة بحكومة ” الثورة العرابية ” .
اغتيال ونفي
تعرض ” البارودي” لمحاولة اغتيال من قبل الضباط الشراكسة بالجيش، لكن الخديوي توفيق رفض محاكمتهم، نشب خلاف بين الخديوي وقادة الثورة العربية انتهزتها انجلترا وفرنسا، ودسوا الدسائس، حتى عزل الخديوي وزارة الثورة ونفاهم خارج البلاد.
بعد الخدمة الدولة طويلًا، نُفي” البارودي” لمدة سبعة عشر عامًا إلى كولومبو عاصمة سيريلانكا، فيه تفتحت قرائحه كشاعر ونظم أجود القصائد التي أثرت التاريخ الأدبي سكب فيها آلامه، وغربته ومنفاه، وحنينه إلى وطنه، اجتمعت عليه العلل في المنفى وأصبح مريضًا لا يرى
بيت الأدباء
عاد محمود سامي البارودي إلى مصر في الستين من العمر، وقد اعتزل العمل السياسي وتفرغ إلى العمل الأدبي، وأصبح بيته مكانًا لتجمع الشعراء والأدباء وعلى رأسهم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وخليل مطران، ورحل البارودي رب السيف والقلم عن عالمنا 12 ديسمبر عام 1904م، ليكون قبره شاهدًا على تاريخ الرجل الفريد، فهو رمز من رموز مصر النهضة، أشعر وكأن قبره المهدد بالإزالة يقول: أَحْسِبُني مِنْكُمْ عَلى ثِقَة حتى منيتُ بما لمْ يجرِ في بالي.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال