هل التصوف من الإسلام ؟
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.
كان من بين الصحابة -حتى أثناء حياة النبي– من اختار ألا يكتفي بأداء شعائر الدين، وإطاعة أحكام القرآن، والأقتداء بالنبي في أفعاله ومسلكه، وإنما أراد أن يدخُل في علاقة بربه هي في زعمه أوثق، وأن يُحرر روحه من ريقة الجسد، فبالغ في التعبد والصوم والعُزلة والتأمُل، وفي الزاهد في متاع الدُنيا، وفرض على نفسُه قيودًا ولشهوته حدودًا ما فرضها عليه الدين قط، وقد قاوم النبي هذا الاتجاه عند صحبه واستنكره، فكان يقول لمن شغلته الصلاة والعبادة ليلًا عن رعاية حقوق أهله أن إيتيان الرجل امرأته صدقة، ولمن رأى في الزواج ركونًا إلى الدُنيا: «إن كُنت من رُهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كُنت منا فمن سُنتنا النكاح»، ولمن آثر الإقتداء بمسلك هؤلاء الرهبان أنه «لا رهبانية في الإسلام»، كذلك فقد ورد بكتاب الله من الآيات ما يؤكد هذا المنحى:
«قُل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق» (الأعراف ٣٢).
«وما جعل عليكم في الدين من حرج» (الحج ٧٨).
«يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله» (البقرة ١٧٢).
«يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (البقرة ١٨٥).
وقد كان النبي شديد الخشية من أن يُحدث هؤلاء النفر في الدين ما ليس منه، وكان يعلم مدى تأثرهم بالنصرانية وبنمط عيش رهبانها في زمن الجاهلية، فكتب السيرة تُحدثنا مثلًا عن أربعة هُم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعُثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، كفروا في الجاهلية بعبادة الأصنام، والتمسوا لأنفسهم دينًا يؤمنون به، فأما ورقة فاعتنق المسيحية واستحكم فيها، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الحيرة حتى أسلم، ثُم هاجر مع المُسلمين إلى الحبشة، فلما قدمها فارق الإسلام وتنصر.. وهلك هُناك نصرانيًا، وأما عُثمان بن الحويرث فقدم على قيصر الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده، وأما زيد فلم يدخُل في يهودية أو نصرانية، وفارق دين قومه وأعتزل الأوثان والميتة والدم، ونهى عن قتل الموءودة، وقال أعبد رب إبراهيم، ورُبما كان عُثمان بن مظعون أحد هؤلاء المُسمين بالحُنفاء، فكتب السيرة تذكر أنه «أحد من حرم الخمر في الجاهلية»، وتلمح إلى أنه تطرف في الزُهد والتقشف تطرفًا عابه النبي عليه، ويرى بعض المُستشرقين أن عُثمان هذا وعُبيد الله بن جحش وغيرهما ممن هاجر من المُسلمين إلى الحبشة، كانوا رجالًا ذوى عقيدة دينية قوية اعتنقها بعضهم حتى قبل ظهور الإسلام، وأن إختلاف عقيدتهم من عقيدة سائر المُسلمين هو السر في إنتقاء الرسول لهم ليُهاجروا إلى الحبشة، وهو السر في أن الكثيرين منهم بقوا بها ولم يلحقوا بالمُسلمين في المدينة حتى العام السابع الهجري.
فإن كان بعض الزهاد المشهورين من الصحابة (كأبي الدرداء وأبي ذي الغفاري)، قد استندوا إلى آيات قُرآنية تحتث على الزُهد في متاع الدُنيا وتصفه بأنه متاع الغرور، فإن المؤكد -على ضوء سيرة النبي وما ذكرناه لتونا من آيات- أن هذه الآيات ما عنت بالزهد التخلي عن متاع الدُنيا، وإنما عنت صرف العقل من الاستغراق فيه، وشدة الاهتمام به، حتى لا يصرفه ذلك عن التفكير في الله، أما عن اختيار هؤلاء لحياة الفاقة والشظف التي رأوها شرطًا للكمال الروحي، فما في القرآن من آية واحدة تتحدث عن «فضيلة الفقر» هذه، وقد حكى عن الحسن بن علي أنه لما بلغه قول أبي ذي الغفاري: الفقر أحب إليَّ من الغنى، قال: «يرحم الله أبا ذر» وأنا أقول: «من أتكل على حُسن أختيار الله لهُ، لم يحُب غير ما اختاره».
أثر إتساع الدولة الإسلامية في نمو الحركة واتجاهاتها:
كان التأثر بالمسيحية وبحياة رهبانها في شبه الجزيرة العربية وعند أطرافها هو المنبع الرئيسي لهذا الاتجاه إلى الزهد في زمن النبي والخُلفاء الراشدين، غير أنه ما تناءت أطراف دولة الإسلام، واتصلت مراكز الفكر فيها بالشعوب الأرامية من مسيحيين ويهود، وبإتباع الديانات الهندية والفارسية في آسيا الوسطى، حتى اتساع نطاق الحركة وأضحت أشد قوة وأكثر تعقيدًا، ذلك أن غير العرب من شعوب الأقطار المفتوحة أتوا معهم إلى الإسلام الذي اعتنقوه بتراث من اتجاهات الزهد وقمع شهوات الجسد مما عرفته ديانتهم السابقة، وأقحموا في دين الفاتحين عناصر شرقية وغريبة، وبدعا استقوها من الفلسفة اليونانية والمسيحية والأفلاطونية الحديثة والزرادشتية الفارسية، ثم من الفيدانتا الهندية واليوجا البوذية، وقد كان من الطبيعي أن يشتد عود الدعوة الصوفية أول من يشتد في الحضارات خارج شبه الجزيرة العربية، في العراق والشام وفلسطين ومصر، غير أنه ما انقضى القرن الثاني الهجري حتى كانت قد امتدت إلى مكة والمدينة ذاتيهما، ومن بعدها إلى اليمن، وقد سعى أصحاب عذا الطور من الحركة -وأبرز أعلامه الحسن البصري الذي توفى عام ١١٠ هجريًا- إلى أبرز الأساس القرآني لدعوتهم، وستر المؤثرات الأجنبية فيها، وقد أختاروا في بداية أمرهم ألا يهجروا مُجتمعهم وإنما بقوا فيه يلعبون دور الناصح أو المُنذر، أو المثل الصالح، يبدو أن سُرعان ما أتخذت عبادتهم لله، صورة اجتناب العالم وهجر الناس، واعتزال المُجتمع، فأووا إلى الكهوف والصحاري يحيون فيها حياة حياة من الشظف وإنكار الذات، ورأوا في الفقر مُفتاح التقوى، وليسوا عباءات من الصوف الأبيض كانت لعدة قرون سابقة شعار التوبة والإنابة إلى الله عند رُهبان المسيحية، فإن كان غيرهم قد رأى في هذا الزي بدعة أجنبية مستهجنة فقد ادعوا هم أن نبي الإسلام هو الذي اختار الصوف زيًا للمُتبلتين، وهو ما نفاه أعداؤهم بقوة زاعمين بدورهم أن مُحمدًا كان لأرادية الصوف من الكارهين!
أسباب إنتشار الدعوة الصوفية.
وقد ظلت الصوفية طوال الأجيال الأولى من الإسلام ظاهرة هامشية في المُجتمع الإسلامي، حتى أنه نادرًا ما نجد لها ذكر في الأدب غير الصوفي، غير أننا نراها بعد ذلك وقد بدأت تدريجيًا تشغل أذهان الناس، حُكامًا أو رعية، حتى أخذت مكانها جنبًا إلى جنب مع مذاهب السُنة. وكان مما شجع عددًا كبيرًا من اتقياء المُسلمين على انتهاج هذا الطريق، مما اتسم به عصر الأمويين من دنيوية مُفرطة أثارت تقززهم، وحياة البذخ الناجمة عن تدفق الثروات من الأقاليم البيزنطية والفارسية المفتوحة، مما هدد بأن يجرف مشاعر التقوى، ويصرف الناس عن التفكير في الآخرة، كذلك لمس هؤلاء من أصحاب المذاهب الفقهية في العصر العباسي مُجادلات طويلة جوفاء حول أدق تفاصيل الشرع والعبادات، وإحتفالًا جاوز كُل حد معقول بأمور لا صلة لها بالعلاقة الروحية بين العبد وربه، كما لمسوا من الفقهاء إتجاهًا دُنياويًا مشينًا واذعنا مُنكرًا لمشيئة الخليفة والأمراء، لا أدل عليه من محنة خلق القُرآن التي بدأها المأمون، وهُناك من الأساليب بعد ذلك ما أصاب نوعية الحياة السياسية في العراق من تدهور بوفود جند الأتراك، وتحول الناس إلى تنمية حياتهم الروحية والانشغال بأخراجهم بعد أن بات من المُحال أو من الصعب أن يُسهموا إسهامًا فعالًا في النشاط السياسي، أضف إلى هذا كُله أن تلك الحركة الدائبة وذلك النشاظ الفذ اللذين شهدهما المُجتمع الإسلامي خلال القرون الأولى من تاريخه وتكالب الغالبية على نيل المناصب أو إحراز الثروة أو بلوغ المجد مما هيأته الفتوحات بصورة وافرة لرعاية الدولة، كُل ذلك لابُد أن ينجم عنه ظهور فئة ممن لا قُدرة لديهم عل اللحاق بالركب، أو تأبى طبائعهم المُدافعة والمُزاحمة، وكان أن أعتزل هؤلاء المعممة، واختاروا الوقوف من هذا الخصم متلاطم الأمواج موقف المُزدري المُتعالي، وقديمًا قالوا: إذا سمعت الرجل يقول: «ما عند الله خير وأبقى»، فأعلم أن في جواره وليمة لم يُدع إليها!، على أي الأحوال فقد أتخذ اتجاه التصوف في الإسلام -شأنه في الأديان الأخرى- سمة التركيز على علاقة العبد بالرب وتصفية النفس وسلوك الروح، والاغفال المتزايد للشعائر وللجانب التشريعي من القُرآن والسُنة، وهو الجانب الذي أهتم به فُقهاء السُنة بصفة رئيسية، فالصوفية -في أحد جوانبها- وهي رد فعل قوي من نفوس مُرهفة لانشغال المذاهب الفقهية كُلية بالسلوك الظاهري للفرد، وتأكيد لحقيقة أن ظاهر الشريعة ليس كُل ما في الإسلام، وأن منطق الفُقهاء ليس بالتعبير الصادق عن هذا الدين، وفي هذا كانت المُساهمة الإيجابية الوحيدة للصوفية في إطار الإسلام، فهي التي أعادت للتجربة الدينية الخاصة اعتبارها، وهي التي أعلت من قدر الجوهري بعد أن كاد الشكلي يطغى، وكاد التقليدي أن يؤدي بالدين؛ فرجال الصوفية قد فضلوا إذن الباب الضيق، خاصةً من كان قد تحول منهم إلى الإسلام عن ديانات آخرى، ولم يقنع ببساطة شعائر هذا الدين الجديد وتعاليمه، وكان لا يزال ماثلًا في ذاكرته مثل أعلى آخر، وأنماط آخرى من مُجاهدة النفس والسعي وراء الكامل الروحي، وقد رأى هؤلاء في صورة الدين لدى فُقهاء السُنة والمتكملين صورة خالية من رونق الخلاص، بسيطة بحيث لا يقنع بها غير قوم من الرعاة أو المُقاتلين، أو مُجتمع كمُجتمع العرب الجاهلين، وقد أعلموا فكرهم فيما ورد بالقرآن عن أن الأعمال بالنيات، ووصلوا إلى أن هذا إنما تركيزًا على الضمير ومُحاسبته أصرم حساب، بينما لا تعبأ شريعة الفُقهاء في زعمهم بتفاصيل الحياة الروحية للفرد، ولا تحفل بهذا الضمير ولا تُحاكم غير ظاهر الأفعال، ولا تُحاسب على غير الخطايا في المُجتمع، ولا سلاح لديها ضد النفاق، فالدين أجل من أن يكون مُجرد إخلاص لظاهرة الشريعة، وكيف يُمكن -على حد قول الغزالي- للجدال الطلاق والبيع والشراء وما شابهها أن يُهيء المؤمن لليوم الآخر؟ أو كيف يمكن أن نقبل فكرة ذلك البون الشاسع بين العبد وربه التي يقول بها فُقهاء السُنة، في حين أن القُرآن نفسُه قد ذكر أن الله أقرب الإنسانية من حبل الوريد؟
دين البصائر، ودين المُبصرات.
غير أن شيوخ الصوفية، خاصةً في القرن الثالث الهجري (وهو القرن الذي تحولت فيه الدعوة من الزهد البسيط، إلى نظرية مُعقدة)، مالوا إلى المُبالغة في الإحتفال بها، وهو حال ينطبق عليه قول أبي حامد المرورذي: «لولا أن الخوارج قالت: عليَّ كافر، لما قالت الغالبية: عليَّ إله!»، فقد رأى هؤلاء الشيوخ في ظاهر الشرع وفي الشعائر مُجرد مرحلة أولية، أو مُجرد سلم يفضى من مقام إلى حال، وذهبوا إلى أن من بلغ الغاية، استغنى عن الوسيلة، وجاز لهُ «إسقاط الوسائط» فهم إذن في حل من أداء الشعائر التي هي مُجرد رموز، بل أن أداءها قد يؤدي -في بعض الأحيان- إلى خلق عقبات في سبيل الخلاص النفسي، ثُم إنهم مضوا إلى ما هو أبعد من ذلك، فقالوا بأن أولياؤهم أعلى شأنًا من النبيين، فصلة الأولياء بربهم صلة مُباشرة، وقد يتحدون به ويفنون فيه، بينما لا يتصل به الأنبياء إلا من خلال وسيط: «خضت بحرًا وقف الأنبياء بساحله!»، وقالوا أنهم هُم أنفسهم أقرب إلى المولى من أتقى فُقهاء السُنة، وأدرى بالدين منهم، فدين هؤلاء في نظرهم دين المُبصرات، أما دينهم هُم ف دين البصائر، وهم يعلنون تفوق “المعرفة” والحكمة الإلهية على “علم” العُلماء ذلك أنه لا علم كالتفكر، والرجل متى رسخ في العلم رفعت عنه الرؤيا الصالحة: «أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فُلان، وأين هو؟ قالوا: مات عن فُلان، وأين هو؟ قالوا: مات!».
اقرأ أيضًا
الصوفية والتواكل .. هل أهل التصوف متواكلون كما يدعي خصومهم ؟
ولم يكُن من الغريب إزاء هذه الجرأة المُتعاظمة، وإزاء الشعبية المُتزايدة لهذه التعاليم لدى العامة، وإزاء التركيز على الفرد على حساب الاحتياجات العامة للأمة، أن يُطلق عُلماء الدين والفُقهاء صيحة تحذير وإستنكار مدوية، تردد صداها في أنحاء العالم الإسلامي، رأوا الصوفية -شأن المسيحية- تلجأ في سبيل تحقيق النشوة الروحية إلى أمور غريبة كالموسيقى والسماع، بل والرقص، وإلى وسائل مُريبة منها إستخدام الشعر حتى فاجره (كقصائد بن أبي ربيعة وأبي نواس في التغزل في المؤنث والمُذكر)، يفسرونه تفسيرًا صوفيًا، ويتغنى به غلمان صبيحو الوجوه هُم عندهم رمز لكمال صنعة الباري، كذلك فقد تناهت إليهم تلك الأقوال الرهيبة التي صدرت عن ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي والحلاج وأشباههم، والتي أساء العُلماء فهمها وحسبوها من قبيل الشرك، ولم يقدروا أنها أقوال يتفوه بها الصوفي حين يشعُر بتمام التوحيد في ذاته والفناء في الله، وأن الله في بعضها هو المُتكلم بلسانه، من هذه الأقوال: «أنا الله، والله أنا»، «سُبحاني ما أعظم شأني»، «لواؤنا أعظم من لواء مُحمد»، «إبليس وفرعون صديقاي ومُرشداي»، «إياك والتوحيد»، «من فرق بين الكُفر والإيمان، فقد كفر»، «ستر الله عنك ظاهر الشريعة وكشف لك حقيقة الكُفر، فإن ظاهر الشريعة كُفر خفي، وحقيقة الكُفر معرفة جلية» وقوله حين سماع المُؤذن يهتف الله أكبر: «وأنا أكبر!».
الكاتب
-
جوني ويليام آرثر
كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.