أن تكون عبد المجيد الهليهلي
يُقال أن كلمة ” هليهلي ” من أصل قبطي وتعني (بلا ترتيب)، وهي كلمة عامية شعبية تصف الأشخاص الفوضويين الذين يتصرفون بعفوية أحيانًا وب(غشومية) أحيانًا أكثر، وقد رأينا كثيرًا من الشخصيات العامة ونجوم الفن يمكن أن نطلق عليهم لفظ الهليهلي) وربما نسخر منهم كثيرًا لكن ظني الشخصي أننا نُحب هؤلاء الهليهليين لأنهم ببساطة يكسرون الحواجز التي لا نستطيع نحن _حتى البوهيميين منَّا_ أن نكسرها، والأهم والأجمل أنهم لا يتعمَّدون كسر أي حواجز وربما لا يرونها من الأساس
– عم عبد المجيد .. هكذا عرفته كعامل لوحدتنا الصحية في أسوان، رجل صعيدي على أبوه، يعيش في قرية نائية طوال حياته، لا يخرج منها إلا للضرورات القصوى، وأعترف أني على كثرة ما رأيت من الصعيدين الهليهليين إلا أني أعتقد أن عبد المجيد هو أكثر شخص هليهلي يمكن أن أقابلَه، وعبد المجيد لا يختلف كثيرًا عن أبطال السينما غريبي الأطوار الذين نحبهم جدًا على ما فيهم من غرابة، يمكن أن يكون بطلًا مثل الشيخ حسني أو الهرم أو عيسوي الفنان البوهيمي أو غيرهم، على كل حال ستحبه إن رأيته على الشاشة، ولكن ربما تفقد أعصابك كثيرًا إن تعاملت معه في الواقع.
– تزوَّج عبد المجيد وعمره ثمانية عشر عامًا وزوجته كانت لا تزال في الثانية عشرة من عمرها، وعندما أسأله باستنكار عن هذا يجيبني “لأ بس كانت صبية .. وناشفة، وجابت العيل البكري وهي عندها تلاتاشر”
– عبد المجيد لا يقرأ ولا يكتب ولا يستطيع إحصاء المال، لذلك عندما يتسلَّم مرتبه الشهري لابد أن يطلب على الأقل من شخصين آخرين أن يحصوه له ليطمئن قلبه، وهو العامل الوحيد في الوحدة وربما في القرية كلها الذي لا يمتلك هاتف خاص به ولا يستطيع التعامل مع الهواتف مطلقًا، ويقول لي بفخر عن هذا “احنا ناس متوكلين على ربنا .. ملناش في الحاجات دي” ولذلك لا يستطيع أحد الوصول إليه عند إخبارنا مثلًا بوجود (تفتيش مفاجئ) للوحدة، علاوة على أنه لا يحضر أبدًا في معادِه، فهو كل يوم بمعاد، ومهما تم تنبيهه لهذا وتغييبه لا يستجيب .. هو مزاجي من الدرجة الأولى ولا يمكنه التحكم في ذلك أو ربما لا يعنيه الأمر مطلقًا.
– في بدايات عمله كعامل في إحدى الوحدات الصحية تسلَّم العمل لمدة يومين، وكان شابًا في العشرين من عمره، في اليوم الثالث ذهب لمديره يطلب منه أجازة أسبوع، وبالطبع رفض المدير رفضًا قاطعًا، في اليوم الرابع أعاد عبد المجيد طلبه فزجره المدير ورفض ثانيةً، ماذا فعل عبد المجيد؟ طلب تسوية معاشه في الحال، وصرخ المدير ضاحكًا من الطلب الغريب، كيف يطلب موظف لم يعمل إلا يومين فقط تسوية معاشه .. وأي معاش تعطيه له الدولة لأنه فقط عمل يومين، ثم منحه المدير أجازة ثلاثة أيام وانتهى الموقف.
– عبد المجيد الوحيد الذي لا يطرق أي باب عند الدخول، فتارة أجده جالسًا بجواري على السرير في السكن يحدِّق في (اللاب توب) متى وكيف دخل؟ لا أدري، وتارة يجده الطبيب يقتحم باب العيادة المغلق ليدخل أثناء فحص سيدة تكشف شيئًا من جسدِها، وعندما يزجره الطبيب يقول له “البيت بيتنا يا دكتور .. مش مشكلة” وهو يعتبر السكن بيته فعلًا فيفتح الثلاجة متى شاء ليأخذ شيئًا أو ليعلِّق على زجاجات المياه الفارغة ويملأها، وأحيانًا يجد زجاجة مياه غازية فلا يميزها ويضيف إليها الماء ويعيدها إلى الثلاجة لنكتشف ذلك بعد حين.
– عبد المجيد يفعل كل الأشياء متى يريد ذلك، فهو مثلًا ينظِّف السكن كل فترة عندما يريد هو، نخرج أنا والطبيب للوحدة، ونعود للسكن لنجده قُلب رأسًا على عقب، والبلاط مليء بآثار أقدام عبد المجيد، وهو إذا وجد في السكن ما لا يروق له أيًا كان يلقيه في القمامة، وقد فعل هذا كثيرًا، فمرةً رمى تركيبة أسنان مكلِّفة جدًا في القمامة لأنه لم يفهم ماهيتها، ومرة رمى (كولمن) أمصال لم يعرف فيما يستخدم، ومرة رمى شبشب طبيب الوحدة حينما وجد به قطعًا صغيرًا، وبالطبع كل هذه المرات تحدث مشاكل لا أول لها ولا آخر مع صاحب الشأن، لكنه لا يمتنع عن هذا أبدًا، ما لا يعجب عبد المجيد لا مكان له سوى القمامة.
– عبد المجيد مزاجي بطريقة عجيبة، أصبحت أعرف متى سيقرر تنظيف السكن أو الوحدة، يبدأ اليوم بأن يأتي عبد المجيد ليسلّم على الجميع بالأحضان والقُبَل بلا داعي، يحضر أكبرعدد من الأكواب لنتشارك جميعًا الشاي حتى لو أقسمت له مئة مرة أني لا أريد شايًا، يتحرك كالزئبق في كل مكان في الوحدة، يتحدث بملء صوتِه مع الجميع، ثم يبدأ بتشمير جلابيته إلى فخذيه (الأمر الذي يستاء منه طاقم التمريض النسائي بشدة) ويبدأ بعمل أي شيء يخرج به طاقته التي لا حدود لها حينها، فيقرر مثلًا عمل (مزراب) لبلكون السكن، ويقرر إفراغ كل صناديق القمامة بالوحدة وبالطبع تنظيف السكن حتى لو طلبنا منه ألا يفعل.
– عندما يقرر عبد المجيد الغناء يغني، لا يهمه المكان ولا الزمان ولا استياء الآخرين من صوته الجهوري، فيسير في الوحدة كلها ينشد كل ما حفظ من مدائح، وربما اقتحم العيادة على الطبيب ليسمعه بعضًا منها أثناء الكشوفات، الأمر الذي يجعل الطبيب ينتظر حتى ينهي عبد المجيد وصلته الغنائية ليستطيع الطبيب أن يستمع إلى شكاوى المرضى لأنه بالطبع لا يستطيع أن يثنيه عن ذلك أبدًا.
– عبد المجيد يتابع أسعار الدولار بشغف، فلديه ابنان يعملان في دولة عربية ويقبضان بالدولار، وهو يدخِّر هذه الدولارات التي بالطبع لا يستطيع احصاءها ولا يعرف كم تساوي من المال، وبرغم من أنه مقتدر ماديًا إلا أنه يبدو غير ذلك تمامًا، وفاجئني مرة بأن طلب مني فوارًا لابنه الذي يعمل بالخارج لأنه أصيب بحصوة في الحالِب، وعندما أخبره الطبيب بأنه يجب عمل تحليلات وفحوصات قبل إعطاء الدواء أصر عبد المجيد أنه لا داعي لهذا وأن كل ما يريده فوارًا ليبحث عن شخص يسافر هذه الدولة العربية ويوصل الدواء لابنه، الفوار الذي لا تتعدى قيمة العلبة منه العشرة جنيهات.
– عندما تعطي عبد المجيد قدرًا من المال نظير أي خدمة يمد يده خاطفًا المال في عنف ويدسه في جيبه ثم يتذكر بعدها أن يقول لك “خللي يا دكتور” في مشهد لا يليق إلا بفيلم هزلي لبطل يريد إضحاك الجماهير بإفيهات قديمة مستهلكة.. لكن عبد المجيد بالفعل يضحكنا لأنه يفعلها بهليهليته التي لا يد له فيها على أية حال.
– القرية كلها لها حكايات كثيرة عن عبد المجيد، أي شخص تقابله لتشتكي له من موقف لعبد المجيد يحكي لك عشرات المواقف معه دون انقطاع، كلها مواقف لا تصلح إلا لشخصية أسطورية ما كنت أصدِّقها إلا لأني عاشرته ورأيت هذا منه بأم عيني، أتذكر مثلًا عندما ذهب معي لكي أقبض له مرتبه بالفيزا لأنه بالطبع لا يستطيع التعامل معها، وقد أخرجت له المرتب وأحصيته له فوجده ناقصًا ثلاثين جنيهًا، فأوضحت له أن المكنة ليس بها ما يكفي من الفكَّة وأن الثلاثين جنيهًا ستضاف بالطبع إلى مرتبه الشهر القادم، لم يسمعني عبد المجيد وقرر أن يذهب للإدارة الصحية ليعلم سبب الخصم، وبالطبع لم يجد خصمًا، فقرر أن يذهب للبنك ليشتكي وأوضحوا له ما أوضحته له سالفًا، فلعن الإدارة الصحية والبنك مُصرَّا في داخله أنه تعرّض لعملية نصب كبيرة وأنه هو الغلبان ليس بيدِه حيلة أمام ظلم وجبروت الإدارة الصحية والبنك.
– أن تكون عبد المجيد الهليهلي يعني أن تضرب بكل القواعد عرض الحائط، أن لا تسمع إلا صوت رأسك، أن لا تبتغي إلا ما تبتغيه فعلًا، أن تغني وقتما شئت وتقول ما تشاء وقتما تشاء، أن تقتحم كل الأبواب دون استئذان، الأجمل من كل هذا أن لا تُحاسب في أغلب الأحيان على أفعالك التي ربما لو فعلها آخرون لكان الحساب عسيرًا، فالكل يتمنى أن يصبح عبد المجيد ولو لبضع ساعات، كم تتمنى أن لا تراعي أي شيء، أن تفعل فقط ما تريد بالطريقة التي تريدها أنت، أن لا تسعى مطلقًا لحيازة إعجاب الآخرين، أن تصفع العالم والقانون والعادات صفعات مدوية أمام الجميع، كم تتمنى أن تستيقظ يومًا لتجد نفسَك قويًا وجاهلًا وغريبًا وثائرًا وواثقًا بنفسِك بما يكفي لأن تصبح أنت عبد المجيد الهليهلي.