يرويها زكوة.. الحلقة الأولى
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد
هدأ القطار من سرعته فنظرت عبر الشباك إلى عربات متوقفة فوق أزواج من القضبان في أحضان أسوار تفصل سكك الحديد عن طرق السيارات و عن البيوت بالخارج ، شعرت بقلق لإقتراب وصولي إلى تلك المدينة المخيفة التي تعرفت على شوارعها من شاشة سينما فريال بالزقازيق و بحثت حول العشش التي بدأت في الظهور عن هنومة بطلة فيلم باب الحديد و عن صديقاتها فربما أرى إحداهن و هي تنحني أمام صنبور تتدفق منه المياه لتغسل ساقيها لكنني لم أجد إلا أكواماً من الصفيح ، تذكرت فجأة رحلة شكري سرحان الأولى إلى القاهرة في فيلم إبن النيل فزاد توتري ، مدت يدي إلى الرف العلوي أنزلت حقيبتي و تحركت إلى سريري الحديدي الذي ينتظرني بالقرب من باب العربة فتحرك معي كل من كان بالقطار في توقيت واحد ناحية الخروج ، شققت طريقي بينهم بصعوبة تفوق معاناتي و أنا صغير للوصول إلى بائع العصائر المتجول بين الهائمين حول مقام سيدي أبو خليل محتفلين بمولده ، حملت القطع الحديدية الثلاثة التي يتكون منها سريري مربوطين في أحبال فوق رأسي و حقيبتي في يدي و سرت على رصيف المحطة خلف طابور كونه ركاب القطار يزداد عدده كلما توقف بمحاذاته قطار آخر و سمعتهم من حولي يسبون شخصاً يعيقهم عن الحركة و يهدد سلامتهم بأشيائه الصلبة ثم إكتشفت إنهم يقصدونني ، إرتبكت و توقفت عن السير فتكوموا من خلفي و كدت أن أسقط .
خارج المحطة إندهشت من مساحة الميدان و مهابة التمثال و شدة الزحام ، لم أعرف كيف سأصل إلى العنوان المدون على ورقة في جيبي ، هرولت إلى أتوبيس توقف بالقرب مني فنهرني رجل في الخمسين له عينان جاحظتان و أنف مكورة يرتدي زياً يشبه ملابس العسكري و هو يقف أعلى السلم بين الركاب الصاعدين.
إرجع ياله
تجاهلته و إقتربت فنزل الرجل درجة من السلم و مد ساقه و ركلني بقدمه في منتصف بطني فتألمت بشدة بينما هو يصيح
– غور جتك مصيبة تاخدك.
وقفت أقاوم الألم ، شعرت بأن السماء تحرم هذه المدينة الضخمة من الهواء لتفيض به على مدينتي الزقازيق ففكرت في الرجوع إليها و التخلي عن حلم دراسة المسرح و تمثيل شخصيات شكسبير أمام جماهير ترتدي الملابس الرسمية بقاعات المسرح العتيقة بالقاهرة . تمنيت أن يعود بي الزمن و يتركني في مدرسة الزقازيق الصناعية لأعيش في مكتبتها أقرأ الروايات المرصوصة بنظام فوق رفوفها ثم أختار منها ما يناسبني لأخرجها و أمثل أدوارها مع أصدقائي لكنني تذكرت عندما توقف أستاذ وفيق فهمي مدرس العمارة بالمدرسة عن السير على المسرح و هو يشرح لي خط حركة شخصية هاملت في بروفة العرض المسرحي الأخير لموسم الدراسة ليستمع إلى الساعي الذي أخبره بضرورة إصطحابي إلى مكتب أستاذ إسماعيل نجم ناظر المدرسة.
إقرأ أيصًا…
روبرت ليستون .. طبيب بدرجة جزار ساهم في الحد من انتشار الغرغرينا بمنشاره
في مكتبه أمرني ناظر المدرسة بضرورة التركيز في دروسي لأنجح و أحصل على شهادة الدبلوم حتى أتمكن من التقدم لإختبارات القبول بالمعهد العالي للفنون المسرحية ثم نظر إلى أستاذ وفيق و حذره من رسوبي لأن بداية من العام القادم لن يتم قبول أوراق الطلاب الحاصلين على مؤهلات متوسطة بعد تغيير القانون الذي لن يتيح التقديم إلا للطلاب الحاصلين علي شهادة الثانوية العامة ، كنت وقتها أعرف للمرة الأولى أن هناك معهداً متخصصاً في دراسة المسرح ، خرجت من مكتبه و أنا أقفز بسعادة لتشبعي بما كنت أفتقده من إحساس الإبن بوجود أب يعتني بمستقبله.
إنتبهت على صوت مزعج لآلة تنبيه سيارة متهالكة ، نظرت حولي إلى الزحام و خلفي إلى مبنى باب الحديد ثم إعتدلت و بدأت في السير على أسفلت شوارع القاهرة و فوق رأسي سريري و في يدي أحمل حقيبتي .
الكاتب
-
عبد الجواد
كاتب نجم جديد