يوميات طالب الكلية الحربية (١١) .. شالله يا سيد يا بدوي ومدد يا طابور الأجازات
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
انتهينا في الجزء السابق من يوميات طالب الكلية الحربية (١٠) .. أول وأخر اضراب عن الطعام في تاريخ الكلية إلى العقوبة التي وقعت علينا عقب أول وأخر وأعجب اضراب عن الطعام في تاريخ الكليات العسكرية والاستعداد للإمتحانات خلال فترة الجزاء الذي كان خمسة عشر يوم حجز، فقدت خلالها خمسة عشرة درجة من درجات السلوك – كل يوم حجز بدرجة وكل يوم سجن بتلات درجات – وهي تسعون درجة إن فقدها طالب يرسب في سنته الدراسية ويلحق بالدفعة التي تلي دفعته.
وبعد أداء صلاة الجمعة في أحد أيام الحجز حيث يقضي المحابيس – كلمة نطلقها على من لا يغادرون الكلية الحربية في الخميس والجمعة – في الكلية يومهم في الحكي والمشي ولعب الكرة وحضور الطوابير نادى ميكروفون على اسمي طالبا مني التوجه نحو بوابة الكلية الحربية الرئيسية – التي تطل على صلاح سالم – فأسرعت جريا وقلبي يكاد يسقط بين قدماي وهناك فوجئت بأختي الكبرى – أمل أمي الصغيرة – والتي كانت في طريقها للمطار هي وأولادها لقضاء أجازة الصيف مع زوجها في السعودية وكان قد مر على حبسي حوالي ١٤ يوما لم تراني وجاءت لتودعني هي وصغارها قبل السفر.
بكيت في هذا اليوم كما لم أبك من قبل بعدما غادرت أحضان أحبائي الدافئة شعرت وكأني جسدي الفتي يتهاوى وكأن كل الطاقة التي بذلتها لأضحك معهم وأداعبهم حتى لا يقلقوا علي قد أنهكتني تماما.
التف حولي رفاق الدفعة وطبطبوا وأضحكوا ولم يتركوني حتى نهضت معهم لنلعب الكورة أمام ميس الطلبة وفي المساء كنا جميعا ننتظر عودة حقيبتي السحرية التي أعطيتها لأحد الأصدقاء ليوصلها إلى البيت لغسيل هدومي ثم شحنها بالسجائر قبل العودة.
وجلسنا ندخن في مزاج.
أشد الألم هو ما ينبع من داخلك، ليس من يأتيك من الخارج
تخيل عزيزي القاري شعوري في طابور الأجازات الذي جاء في الخميس الذى تلى كل فترة الحبس الطويلة تلك.
في الطبيعي طابور الأجازات هو الطابور الألذ والأظرف والأحب في كل طوابير الكلية، وتلك اللحظات التي تسبقه حين نرتدي البدلة الزرقاء ذات الشريط الأحمر ، ثم نصطف وبجوارنا حقائبنا حتى انصراف الطابور لنغادر البوابة رقم ٧ ونقفز في تاكسيات متجهين إلى منازلنا، بينما يركب أبناء المحافظات أتوبيسات مخصصة لتوصيلهم إلى عواصم محافظاتهم.
وفي البيت أجد وجبتي المفضلة – الفراخ المشوية وصينية البطاطس والأرز المعمر حيث ننصرف من الكلية الحربية على الثانية عشرة وأصل البيت بعدها بنصف ساعة أغير ملابسي وأكلم الأصدقاء وأستعد “للصياعة” لكن بعد أحضان أمي وأبي وإيناس أختي الذين ربما لا أراهم إلى عند استعدادي للعودة للكلية الحربية في السابعة من مساء الجمعة، حيث أخر موعد للعودة هو الثامنة ذلك الموعد الذي عشت لحوالي ١٠ سنوات أشعر بغصة في روحي رغم تخرجي.
ولا يفوتني هنا عزيزي القاريء أن أحكي لك عن الزي الصيفي الجديد الذي تم تجربته للمرة الأولى على دفعتي، وهي بدلة كحلي دون خط أحمر في البنطلون، ولها بيريه سماوي اللون مثل هذا الذي ترتديه قوات السلام الدولي، وفي أول أجازة ركبت التاكسي فنظر لي السائق منبهرا وقال
- هو حضرتك ايه بالظبط في الكلية
عرق الفشر ضرب في أخوك وحبيت أترسم قوي كده ورديت
- أنا ضابط في قوات حفظ السلام ولسه راجع من البوسنة امبارح
- وبقالك قد ايه هناك
- سنة بس شوفنا أهوال والله يا أسطى
وأخذت أسرد الأهوال ولا ابو لمعة في زمانه حتى وصلنا إلى بيتي في جسر السويس، أعطيت السائق ١٠ جنيهات وكانت الأجرة المعتادة ٣ جنيهات في هذا العصر – ١٩٩٣-، فأخدها الرجل وبدأ يتحرك، فقلت
- فين الباقي يا أسطى
رد بتناحة لا تناسب بطولاتي التي رويتها
- باقي إيه يا فندم
- باقي العشرة مش هي الأجرة تلاتة جنيه
ضحك بصوت اهتزت له بطولاتي وأجاب
- لا ده كان زمان قبل ما حضرتك تسافر، دلوقتي بقت عشرة
وانطلق بالسيارة غير عابيء بنظرات خيبة الأمل في عيوني
يا فشار استفدت إيه من فشرك .. حبة رحرحة
الأجازات في الكلية أربعة أنواع ، الأولى هي الخميس والجمعة العادية من كل أسبوع، والثانية هي أربع وخميس وجمعة في الأسبوع الأول من كل شهر حيث نغادر الكلية عقب محاضرات يوم الأربعاء في موعد طابور الغداء، والثالثة هي الأجازات الرمسية مثل شم النسيم والأعياد، حيث نغادر مثلا في شم النسيم يوم الأحد عقب المحاضرات ونعود في الثامنة من مساء الأثنين – وكانت تلك الأجازات التي تأتي في نصف الأسبوع تجعلنا لا نشعر به – وأخيرا أجازة أخر العام التي لم تكن تزيد أبدا عن ٢٠ يوما لأن الكلية الحربية أربعة سنوات دراسية في ثلاث ميلادية فلزم اختصار الأجازات.
وكان مدير الكلية أحيانا ما ينعم على المحابيس بأمر “كما كنت الجزاءات” فيلغى الحبس وتبقى عقوبة الدرجات وكانت “الكما كنت” هي رؤية هلال شوال والعيد في كل مرة نسمعها.
كان الجميع يعود لمنازلهم بينما يبقى أبناء المحافظات البعيدة – النائية كما تعلمنا نطقها في الجيش – في القاهرة لدى أقربائهم أو مع دفعتهم وأصدقائهم، وأحيانا كنا نلتقي لنخوض مغامرة ما باتفاق مسبق
وكان اتفاقنا هذه المرة هي حضور مولد السيد البدوي في طنطا للمرة الأولى لكل واحد منى – كانت الأخيرة بالنسبة لي للأسف – خرجنا من الكلية بقينا في القاهرةقضي بعض الأصدقاء اليوم في بيتي قبل أن ننطلق مساء إلى طنطا لنلتقي مع بعض الأصدقاء الباقين لنشكل صفا من حوالي سبعة طلاب متماسكي الأيدي نخترق به الزحام لنشاهد كل ما يحدث في المولد.
نشاهد الشيخة وردة الحجازية وهي تغني – قزمة – والشيخ حسني وهو يقطع ابنه بالسيف كأجدع شيف شاورما سوري، ونسمع طرب المنشدين ونركب مراجيح المولد لنضحك كما لم نضحك من قبل.
كلما أبعدنا الزحام كنا نلتصق أكثر كوحدة واحدة، عبرت الأجساد عما ستعبر عنه الأرواح طيلة العمر، الدفعة للدفعة كالبنيان المرصوص يشد بعضها بعضا.
قضينا يوما لا ينسى في العمر
وانتهت الأجازة وعدنا للامتحانات
هو أنا محكتش عن الامتحانات الجزء ده زي ما قولت الجزء اللي فات
سماح بقى أصل دمها تقيل
خاصة لم اتطردت بسبب العصاية العوجاية
الكاتب
-
أسامة الشاذلي
كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال