“الأرقام تكشف” تفاصيل تزايد الشائعات في مصر وكيف تتصدى الدولة لها؟
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها الأزمات العالمية المستمرة والتغيرات الداخلية المتسارعة، يظل بناء الوعي الشعبي ومكافحة الشائعات من أبرز القضايا الحيوية التي تَحُدُّ من استقرار المجتمع وتهدد مساعي تطوره المستدام، وفي هذا السياق، لا تدخر الدولة المصرية جهدًا في التصدي للأخطار التي قد تترتب على الشائعات وتداعياتها السلبية التي قد تؤثر على استقرار المجتمع، بل وتعيق خطط التنمية الشاملة التي تسعى إليها.
الشائعات عن مصر في أرقام
على مدار عقدٍ من الزمان، عاشت الشائعات في ظل تزايدٍ مضطرد، حيث كانت بداية تلك الظاهرة في عام 2014م، لتصل ذروتها في عام 2023م بنسبة بلغت 18.8%. بين هذه النقاط الزمنية، نجد أن الأرقام تكشف عن تضخم مستمر في نشر الشائعات، حيث سجلت نسبة 16.7% في عام 2022، و15.2% في عام 2021، ثم 14.8% في 2020، و12.8% في 2019، بينما كانت هذه الظاهرة أقل حدة في الأعوام التي سبقتها، حيث سجلت 8.4% في 2018، و6% في 2017، و4.2% في 2016، و2% في 2015، لتبدأ بحد أدنى قدره 1.1% في 2014.
وفي العام العاشر، أخذت الشائعات شكلًا متنوعًا من حيث مواضيعها، فتوزعت حسب القطاعات بما يعكس الأبعاد المختلفة للأزمة. حيث كان الاقتصاد في مقدمة هذه القطاعات، إذ بلغت نسبة الشائعات المتعلقة به 24%. تلاه قطاع التموين بنسبة 21.2%، والتعليم الذي بلغت نسبته 11.6%. أما الطاقة والوقود فحازت 11%، بينما سُجلت 8.3% لصالح قطاع الصحة. واحتلت الحماية الاجتماعية والإصلاح الإداري كل منهما نسبة 6.2%. فيما كانت الزراعة والسياحة والآثار والإسكان في ذيل القائمة بنسب متفاوتة، إذ سجلت الزراعة 4.8%، والسياحة 2.7%، والإسكان 2.1%، بينما تفرعت شائعات أخرى من قطاعات متنوعة لتشكل 1.9%.
موقف الدولة المصرية من الشائعات
يعي الرئيس عبد الفتاح السيسي تمامًا حجم المخاطر التي تحيط بالدولة المصرية من الداخل والخارج، ويُدرك أن تلك المخاطر لا تقتصر على تهديدات حربية فحسب، بل تشمل حربًا وجودية ذات أبعاد متعددة. وهو، في سبيل مواجهة هذه التحديات، لا يكتفي بالكلمات المألوفة، بل يكرر دومًا تعبيره الذي يختصر صراع الأمة في مفهوم “حرب الوجود”.
تلك الحرب تستدعي تلاحم الجبهة الداخلية وتماسكها كشرط أساسي للنجاة، ومن هنا، يولي الرئيس أهمية قصوى للوعي الوطني، ويُصر على تكرار رسائل الصمود والصبر، مؤكدًا أن وعي المواطن وقدرته على إدراك حجم التحديات وأبعادها هو الطريق الوحيد لمواجهة الأعداء والمضي قدماً في تحقيق الاستقرار والتقدم.
هذه الرسالة لم تكن وليدة اللحظة، بل بدأت تتضح ملامحها منذ وقت مبكر، حين كان السيسي مرشحًا للرئاسة في مايو من العام 2014، حينها استقبل وفدًا من الإعلاميين الذين كانوا في صدارة المعركة ضد الشائعات والأخبار المضللة، ليعلن بوضوح أن وعي الشعب المصري يحتاج إلى إعادة تشكيل جذري، ويتطلب استراتيجية إعلامية ضخمة تسهم في بناء الوعي المطلوب.
ومنذ ذلك الحين، لم تفارقه هذه الرسالة، فكل مناسبة، سواء كانت افتتاح مشروع عملاق أو ندوة تثقيفية أو خطابًا رسميًا، كانت رسائل “الوعي” و”الصمود” هي النغمة التي لا تنتهي.
انتباه الدولة المصرية، على المستوى الرسمي، إلى خطورة ترك المجال مفتوحًا أمام الجماعة الإرهابية وإعلامها الموجه، لم يكن أمرًا عابرًا، بل كان حافزًا لاستنفار القوى الوطنية والجهود الرسمية لمواجهة هذه الآفة المستشرية التي باتت تهدد الأمن والاستقرار في مجتمعنا.
ولعل أبرز ما اتخذته الدولة من إجراءات في هذا السياق، هو سن التشريعات اللازمة لمحاربة الشائعات التي تنبثق كالفطريات في ظل هذا العصر الرقمي المتسارع.
لقد أدرك المُشَرِّع المصري تمامًا ضرورة خلق إطار قانوني صارم يحد من استغلال منصات التواصل الاجتماعي في ترويج الأكاذيب، وتحريض العقول على العنف والإرهاب، فكان قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي أقره الرئيس السيسي في أواخر العام الماضي، خطوة هامة في هذا الاتجاه.
نص القانون على معاقبة كل من يثبت تورطه في نشر أو ترويج أو صناعة شائعة كاذبة بالحبس مدة تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات، مع غرامة مالية تبدأ من 10 آلاف جنيه وقد تصل إلى 100 ألف جنيه، أو إحدى العقوبتين. ولزيادة الردع، حدد القانون أنه إذا ترتب على الشائعة أضرار جسيمة، كوفاة أو إصابة فرد أو أكثر، فإن العقوبة تتضاعف.
وتوالت الجهود التشريعية والقانونية، متضافرة في محاربة الشائعات والأخبار الكاذبة، لتطال جميع أطراف المجتمع، لا سيما الصحفيين ووسائل الإعلام بمختلف أشكالها. فقد أتى قانون تنظيم الصحافة والإعلام ليضع حواجز صارمة، تحظر على الصحف والمواقع الإلكترونية وكل وسيلة إعلامية نشر الأخبار المغلوطة أو ما يثير الفتن أو يحرض على مخالفات قانونية أو يدعو إلى العنف والكراهية، كما يمنع القانون نشر محتويات تزرع التمييز بين المواطنين أو تدعو إلى العنصرية والتعصب، أو تتضمن طعنًا في شرف الأفراد أو تسيء إليهم بالكلمات القذرة، فضلاً عن الإساءة للأديان السماوية والعقائد الدينية. فكانت هذه الخطوة ضرورية لحماية وحدة المجتمع وكرامة أفراده.
في إطار مواجهة الإرهاب، شدد قانون مكافحة الإرهاب في المادة 29 على أهمية التصدي لانتشار الشائعات، حيث جرم أي استخدام لوسائل الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الأفكار والمعتقدات التي تحرض على الإرهاب، أو في تضليل السلطات الأمنية، أو التأثير على سير العدالة في الجرائم الإرهابية، كما شمل القانون تحريم تبادل الرسائل والتعليمات بين الجماعات الإرهابية أو أعضائها، إضافة إلى نشر معلومات تتعلق بأنشطتهم أو تحركاتهم داخل البلاد أو خارجها؛ وبموجب ذلك، يعاقب المخالفون بالسجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنوات، في خطوة تهدف إلى تعزيز الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب بكل صرامة.
ويأتي قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية ليُوسع مفهوم مروجي الشائعات بشكل غير مسبوق، حيث استخدم لغة قانونية دقيقة تشمل كل من يثبت تورطه في “صناعة أو ترويج أو تجنيد” الشائعات، وكذلك من يشارك في “نشر الشائعة”، ويُعتبر كل من يعيد نشر بوست أو تغريدة تحتوي على شائعة على مواقع التواصل الاجتماعي مروجًا لها، مما يعرضه للمسائلة القانونية والعقوبات المنصوص عليها في القانون.
وفي الوقت الراهن، يتبنى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء دورًا بالغ الأهمية في رصد الشائعات المتناثرة عبر الأثير الرقمي، حيث يصدر المركز تقارير مفصلة تهدف إلى دحض تلك الإشاعات التي تجد طريقها إلى الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي أو بعض المنصات الإلكترونية التي تفتقر إلى المسؤولية، ويأتي ذلك بعد سلسلة من التنسيق المستمر مع الجهات المعنية في مختلف الوزارات، ليحفظ المصداقية ويُعيد الثقة إلى مصادر المعلومات.
مؤخراً، انطلقت مبادرة “دور التنظيم الداخلي للإعلام في مواجهة الشائعات”، التي أُقيمت تحت إشراف المجلس الأعلى للإعلام برئاسة الكاتب الصحفي كرم جبر، وبحضور حشد من الإعلاميين والصحفيين والخبراء. وقد تناولت المبادرة في جلساتها العديد من التوصيات الهامة التي تهدف إلى مكافحة الشائعات ونشر الأخبار الزائفة.
من أبرز تلك التوصيات: تعزيز الوعي لدى الجمهور حول كيفية التصرف عند اكتشاف شائعة أو خبر مغلوط، مع تسليط الضوء على دور المجلس الأعلى للإعلام في متابعة هذه الظواهر واتخاذ التدابير اللازمة بالتنسيق مع الجهات المعنية.
أما التوصية الثانية، فكانت بشأن تعزيز مفهوم الأمن الإعلامي والاجتماعي، الذي أصبح ضرورة حتمية لحماية المجتمع من خطر الشائعات، فقد بات من الواضح أن الشائعات، في الآونة الأخيرة، قد أسفرت عن جرائم أضرت بقطاعات واسعة من المجتمع، مما يستدعي حماية خاصة للأسر والشباب الذين يمثلون الشريحة الأكثر تعرضاً لهذه الأخبار المغلوطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت التوصية الثالثة، فقد دعت إلى التنبؤ بالشائعات والتعامل مع “مواسم الشائعات” بفعالية أكبر، من خلال ضخ أكبر قدر من المعلومات الدقيقة المتعلقة بتلك الفترات، خاصة في مواسم محددة مثل بداية العام الدراسي أو حصاد المحاصيل الزراعية أو انتشار أمراض الشتاء، وهو ما يستلزم وجود وحدة مختصة للتنبؤ بالشائعات.
وجاءت التوصية الرابعة لتُؤكد على أهمية إنشاء منصة متخصصة للتحقق من الأخبار والمعلومات والصور، والبحث في الأخبار الزائفة، كما اقترحت المبادرة تنظيم دورات تدريبية بالتعاون مع وزارة الاتصالات للإعلاميين والمتحدثين الرسميين حول كيفية الرد على الشائعات.
وأخيرًا، شددت التوصية الخامسة على أهمية التنبيه للشباب والأسر بشأن مخاطر نشر الأخبار الكاذبة والشائعات دون التأكد من صحتها.
وفي هذا السياق، دعا المجلس وسائل الإعلام إلى ضرورة التأكد من مصادر الأخبار والفيديوهات قبل نشرها، مع التأكيد على أهمية الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي في نقل المعلومات بشكل صحيح، وتحذير الشباب والفتيات من مخاطر الألعاب الإلكترونية والشبكات الاجتماعية التي قد تُشكل تهديداً لهم.
كيف يكون بناء الوعي منظومة متكاملة
إن عملية بناء الوعي لا تُعد مجرد خطوة أو فعل عابر، بل هي منظومة متكاملة، تنسجم فيها كل أدوات القوة الناعمة في الدولة، ليكون التلاحم بين جميع عناصرها كالنسيج الواحد. فكما أن جنود الحرب الحديثة هم الإعلاميون، المنتجون، المخرجون، معدو البرامج، ونشطاء السوشيال ميديا الذين يتنقلون بخفة عبر فضاءات التكنولوجيا، فإن مواجهة هذه الحرب الفكرية تتطلب جيشًا مضادًا من الإعلاميين والفنانين والمثقفين والأدباء والمعلمين، الذين تتضافر جهودهم لفتح نوافذ الضوء أمام العقل المصري، ولرسم سياجٍ حصينٍ من الفكر والتنوير يحيط به، ليكون درعًا يحميه من دعوات الهدم والتخريب التي تسعى للنيل من نسيج وطننا وأصالته.
وينبغي على المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية والفنية أن تضطلع بمسؤولياتها الكبيرة، التي لا تقل في قيمتها وأهميتها عن دور الأجهزة الأمنية في الحفاظ على استقرار الوطن، وبناء جبهة داخلية متماسكة وقوية قادرة على التصدي لأي تهديد خارجي أو حملة مشبوهة تستهدف النيل من وحدتنا. يجب أن تتوجه هذه الجهود بالخصوص نحو فئة الشباب، الذين لم يتجاوزوا العشرين من عمرهم، فهم أكثر الفئات استهدافًا في حرب تزييف الوعي، نتيجة لاعتمادهم المفرط على الهواتف الذكية واستخدامهم المتواصل لوسائل التواصل الاجتماعي التي غالبًا ما تكون مستنقعًا للمعلومات المغلوطة والأكاذيب والشائعات.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال