رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
492   مشاهدة  

عن الرجل الذي كان صامتا طوال الوقت..مسيرة محمد القصبجى

القصبجى


أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الحادية عشر من قصة الموسيقار الكبير نحيل الجسد قوي الفكر، المرحوم محمد علي القصبجى وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق حيث المونولوج البديع الذي جمع الثلاثي أحمد رامي وأم كلثوم ومحمد القصبجي “يا قلبي بكرة السفر وتغيب عن الأوطان”، والحقيقة أن محمد القصبجي ورغم كونه قادرا على ترجمة مشاعره تجاه ثومة من خلال فنه وعبقرية ألحانه، إلا أنه كان شخصا صامتا طوال الوقت، جامدا لا تعرف ما يدور برأسه، ويمكنك عزيزي القاريء أن تتفحص صوره التي وصلتنا سواء بالزي الأزهري أو بالبدلة الأفرنجية، وكذلك حفلات أم كلثوم المرئية لتدرك أن ثمة شيء غريب يسيطر على حركات وسكنات هذا الرجل، لذلك سنتحدث في هذه الحلقة عن سر هذا الجمود الغريب الذي يلاحظه الجميع على الموسيقار محمد القصبجي.

محمد القصبجى الذي لا يبالي:

قد يظن البعض أن الصمت الغريب أوالجمود الذي لم يفسر والذي كان يسيطر على المرحوم محمد القصبجي هو حالة وصل لها بعد انقطاعه عن التلحين لأم كلثوم بعد مونولوج رق الحبيب بسبب خيبة الأمل التي أشعرته بها أم كلثوم حين قالت له يبدو يا قصب أنك تحتاج لفترة راحة، والتي قضى على أثرها محمد القصبجي عشر سنوات عدت سنوات راحة طوال، إلا أن الحقيقة على خلاف ذلك، فما ورد من قصص وحكايات عن هذا الرجل خلال فترة الثلاثينيات وربما قبل ذلك، ينبيء عن شيء غريب، فمحمد القصبجي في ذروة مجده وعنفوان ثورته الفنية كان بهذا الجمود وذلك الصمت غير المبرر، وهو ما حكاه المؤرخ الموسيقي الكبير كمال النجمي والذي التقى به في ثلاثينيات القرن الماضي لأول مرة، وعن هذا اللقاء الذي جمعه بالقصبجي في إحدى حفلات كوكب الشرق يقول المرحوم كمال النجمي:

أول مرة رأيت فيها الملحن الكبير والعبقري المرحوم محمد علي القصبجي رأي العين كانت في أول أكتوبر من العام 1937م، رأيته في حفل أقامته كوكب الشرق أم كلثوم في السينما الصيفية بمدينة أسيوط والتي يسمونها في مصر عاصمة الصعيد، وفي ذلك الوقت كنت طالبا صغيرا جاوزت سن العاشرة بقليل، ولم أكن قد رأيت أم كلثوم قبل هذا الحفل إلا في أفلامها السينمائية فقط، ولا سمعتها إلا فيما جاء في هذه الأفلام من أغاني أو أغاني الإذاعة والاسطوانات، أما المرحوم محمد القصبجي فكنت أعرف اسمه فقط، وأعلم أنه يلحن لأم كلثوم وكبار المطربات، ويستطرد المرحوم كمال النجمي في وصف أجواء الحفل والمسرح فيقول: كان المسرح الذي أقيم عليه الحفل مكشوفا ترى منه النجوم وهي تتلألأ كالقناديل، والسينما الصيفية بلا سقف، وجاء أفراد التخت جماعة قبل مجيء كوكب الشرق أم كلثوم، وجلسوا في صفين متتاليين، في الصف الأول محمد القصبجي بعوده ومحمد عبده صالح بقانونه، وأحمد الحفناوي بكمانه وإبراهيم عفيفي برقه، وفي الصف الثاني بعض من لا أتذكر أسماؤهم، وفي تلك الليلة كنت مهتما بتأمل ملامح اثنين فقط من عازفي تخت أم كلثوم، هما محمد القصبجي ومحمد عبده صالح، نظرا لإعجابي بمحمد القصبجي كملحن وإعجابي بمحمد عبده صالح كعازف على القانون، ثم دخلت أم كلثوم من أقصى المسرح قادمة من الكواليس، ولم تكن للمسرح ستارة كما هو معهود، فرأيناها تمشي أمامنا مسافة حتى وصلت إلى مكانها بين القصبجي ومحمد عبده صالح، واستقرت على كرسيها بين التصفيق والهتاف، وكنت أتسائل بيني وبين نفسي، ماذا يا ترى ستغني كوكب الشرق الليلة من ألحان محمد القصبجي، وكنت أتمنى أن تغني مونولوج يا مجد ياما اشتهيتك الذي كان في ذلك الوقت قد بزغ في فيلم نشيد الأمل وصنع ضجة كبيرة، وكان الفيلم لا يزال يعرض في السينما، وتفننت أم كلثوم في تلك الليلة وهي تغني في الصالة المكشوفة وفي الهواء الطلق بلا ميكروفون وصوتها يملأ جميع الأسماع، ولكنني كنت أقول بيني وبين نفسي، أتراها خصصت هذه الحفلة الكبيرة لألحان رياض السنباطي وحده ولم يكن قد مضى على تعاونهما معا سوى سنة وبضعة شهور قليلة؟، ثم جاءت الوصلة الثالثة ومعها أغنية من تلحين المرحوم محمد القصبجي، فأم كلثوم في هذا الوقت كانت لا تزال على التقليد القديم فكانت حفلاتها تضم ثلاث وصلات قبل أن يتبدل الحال في نهاية الستينيات لتقتصر في حفلاتها على وصلتين فقط، على أية حال، كانت الوصلة الثالثة أغنية جديدة لم تغنها أم كلثوم من قبل وكأنها أرادت ان تجعل من جمهور حفلتها حقل تجارب للأغنية لترى مدى نجاحها.

 

ونجحت الأغنية في الحفلة فغنتها أم كلثوم بعد أسبوعين في حفلة الإذاعة الشهرية، وكانت هذه الأغنية هي أغنية ليه تلاوعيني وانتي نور عيني من كلمات أحمد رامي وألحان المرحوم محمد القصبجي.

وعن محمد القصبجى يقول:

طوال المدة التي كانت أم كلثوم تغني فيها كنت أتأمل ملامح محمد القصبجى فأراه جامدا لا يبدو عليه أي انفعال، عند صياح السامعين استحسانا للحنه الذي تانق في صناعته، وقد كان جامدا كذلك عندما غنت أم كلثوم اللحنين الأولين للسنباطي، وخرجت بعد تلك الحفلة البديعة وأنا أسأل نفسي عن سر هذا الجمود والصمت الذي يبديه محمد القصبجي في جميع الحالات وكأنه لا يبالي بما يجري حوله، ثم رأيت محمد القصبجي في حفلات أم كلثوم بعد سنوات في القاهرة والإسكندرية وجلست إليه دقائق معدودة مرة هنا ومرة هناك، وحدثته بالهاتف من غير طائل، فقد كان لا يبالي أن تذكره الصحف أو تنساه، فخيلت لي هذه الأمور أن محمد القصبجي لا يحب الحياة مع انه كان متشبثا بالدنيا تشبث البخيل بكيس دراهمه، وبدا لي أحيانا كأنه مقطوع الصلة بفن الغناء والموسيقى ولا يعرف أوتار العود ولا يفهم شيئا في المقامات أو الإيقاعات مع أنه كان أمهر ضاربي العود وأكثر الملحنين علما بأسرار الغناء العربي المتقن.

 

إقرأ أيضًا…مسلسل أحمد زكي لن يرى النور أبدا.. الأسباب بصراحة

والحقيقة أن الأمر وإن كان غريبا بعض الشيء في فترة كان محمد القصبجي فيها في قمة مجده فإنه قد يكون مبررا بعد مشوار طويل حتى وإن كان حافلا بالنجاحات، ربما لسوء نهاية هذا المشوار مع أم كلثوم، والذي يمكن أن نقول أن محمد القصبجي قد خرج فيه عن صمته في موقف واحد فقط، فقد حكى البعض أن أم كلثوم حين تزوجت ووصل النبأ إلى محمد القصبجي سارع إلى فيلتها وأطلق الرصاص في الهواء فقاضته أم كلثوم إلا أن النزاع تم تسويته بطريقة ودية ومن بعدها رفضت ألحانه، وربما لا تكون تلك الرواية صحيحة خصوصا بشأن شخص كمحمد القصبجي، على أية حال فإن نهاية مشوار كهذا مع رجل كان قادرا على العطاء ببراهين الألحان لغيرها من المطربات، كانت بلا شك سببا أو لنقل مبررا يمكن الاستناد عليه فيما آل إليه محمد القصبجي بعد عام 1944م.

 

يقول الدكتور سيار الجميل لروز اليوسف:

أعتقد أن الرجل “يقصد القصبجى  ” كان يكظم آلامه فى أعماقه ليخزنها إلى جانب ما كان يخزنه من الألحان، وأقول: حسنا جاء رحيله قبل رحيل الست أم كلثوم بسنوات عدة، لأنه لن يسمع أغنياتها الأخيرة التى غنتها بعد الأطلال، كما وأعتقد أن الرجل كان يتمنى فى محنته السيكلوجية لو توقفت الست واحتفظت بموهبتها فى أعماقها أيضاً منذ سنوات على رحيله، أو بالأحرى أنها رحلت فى أعماقها بعد رحيله هو نفسه فى أعماقه، ولكن ما باليد حيلة، مادام الأمر يتوقف على رزقه الذى يقوم بسد متطلبات حياته وأسرته، إن الفرق المدهش بين هذا الرجل وهذه المرأة أنهما يختلفان فى تفكيرهما حقا، لقد كان يريد لنفسه من خلال موهبته أن تسمو متجلية فى الأعالى، فيسبح من يسمع موسيقاه فى عالم ملكوتى صعب غير موجود فى حين أرادت الست لنفسها أن تنزل من عليائها التى كانت عليها فى الأربعينيات، لتسيطر على عالم سهل موجود، فعلا كالذى توفر عندها ببساطة وبين يديها فى عقدى الخمسينيات والستينيات، لقد أراد القصبجى أن يبقى مجده معلقاً فى السماء، فى حين أرادت أم كلثوم أن تبقى مجدها على الأرض، فتسيطر على الأخضر واليابس.

 

وإلى هنا أعزائي القراء نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان