الأزهر ومحمد علي باشا “فرص ضائعة للتقدم أحزنت الإنجليز والعطار”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
بنيت أيدولوجية الثنائي التاريخي الأزهر ومحمد علي باشا على التناقض رغم التفاهم، فالمؤسسة الدينية هي التي صَعَّدت الباشا إلى الحكم بشروط سياسية معينة وافق عليها الوالي، لكن الباشا كان له مشروع آخر قام على قناعة واحدة قالها لنفسه «أسمح له بأن لا يدعمني لكن لن أتركه يردعني».
التكوين الديني في سياسة محمد علي باشا
من الناحية السيكولوجية فإن محمد علي باشا يؤمن بأن حب مصر جزء من دينه ولم يخفي هذا عن الغرب إذ كتب للقنصل الفرنسي أدريا لوى كوشيليه سنة 1838 وقال «أحب بلادي وسأبرهن أن هذا الحب جزء من ديني».
اقرأ أيضًا
الفصول الـ 6 لـ مذكرات محمد علي باشا المجهولة
أما من الناحية الإدارية فإن الباشا كان علمانيًا يؤمن بمبدأ «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة»، وصرح بهذا للفرنسيين حين قدم جماعة السان سيمون لمصر إذ قال للقنصل «لا تتصور أن حكمي مبني على اعتبارات دينية، أنا فوق هذه الاعتبارات فأنا لا أعتبر نفسي في سياستي مسلمًا ولا مسيحيًا، ولكن بما أنني أستمد نفوذي من الشهرة التي أتمتع بها وحكم أمتي، وإذا تعاهدت مع الغرب قضيت على نفسي».
اقرأ أيضًا
قصة أول مظاهرة ضد محمد علي “قامت بها النساء وواجهها لاظوغلي”
على هذين المبدئين بنيت العلاقة بين الأزهر ومحمد علي باشا، فالأخير يريد أن ينفذ مشروعه للنهوض بمصر ولا مناص له إلا بالقضاء على زعامة الأزهر لكن بشكل يدين الأزهريين ولا يتسبب في ثورة المصريين على الباشا لأن الأزهر له مكانة في الناس.
سياسة فرق تسد .. الباشا ينهي الأزهريين بالأزهريين
عُمْر الزعامة الشعبية الأزهرية 837 سنة، وبالتالي ما كان للباشا أن ينجح في الإطاحة بها إلا عن طريق رموزها، كان زعيم الأزهريين هو السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي أوصل محمد علي إلى الحكم، وبعد 4 سنوات اختلف الباشا والنقيب وبالتحديد عام 1809 وهدد الأخير أنه سيعزل الوالي مثلما فعل مع سلفه خورشيد.
وجه عمر مكرم إلى محمد علي باشا تهمة السرقة ورفض التوقيع على كشف حساب عن نفقات ولاية مصر سيرفع إلى الباب العالي وبعد محاولات عديدة قام بها الأزهريين الوسطاء وافق عمر مكرم على لقاء محمد علي باشا في منزل الشيخ محمد السادات لكن الباشا رفض واعتبر ذلك تجاوزًا شديدًا من عمر مكرم.
قرر محمد علي باشا أن يلعب بسياسة فرق تسد فاتجه إلى بيت الأزبكية يوم الأربعاء 9 أغسطس عام 1809 واستدعى القاضي والمشايخ، ليحكمهم فيما وقع بينه وبين نقيب الأشراف، واتفق الباشا مع الأزهريين وعلى رأسهم الشيخين الدواخلي والمهدي على إدانة نقيب الأشراف بتهمة الخروج على ولي الأمر، وهو ما حدث فعلاً، إذ تم نفيه خارج العاصمة.
استفاد الشيخ المهدي والدواخلي من الصفقة فأخذا أوقاف الإمام الشافعي ووقف سنان باشا ببولاق، بالإضافة إلى راتبهما من الغلال نقدا وعينا لمدة 4 سنوات.
أما شيخ الأزهر عبدالله الشرقاوي فقرر محمد علي باشا سجنه في بيته لا يخرج منه إلا للصلاة والدروس وكانت النتيجة لهذه الأفعال في غاية الخطورة حيث أدت سقوط مكانة المشايخ في نظر الناس كما علق على ذلك الرافعي.
الوهابية .. زرعة أنبتها الباشا فحصدها الأزهر
أيقن الباشا أن القضاء على عمر مكرم لا يعني إنهاء الزعامة الشعبية الأزهرية، وعرف أنه بصدد إقامة مشروعات حضارية داخل مصر بعد إنهاءه للحرب الوهابية وسيعترض عليها الناس وبالتالي سيلجأوا للأزهر، فقرر إلهاء الأزهر فشغله بالوهابية.
اقرأ أيضًا
النساء ومحمد علي باشا .. 3 سيدات تسببن في هزيمته إحداهن بالنوم
قرر محمد علي باشا أن يقوم عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب بالتدريس داخل الأزهر، وساهم عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في مسخ التكوين الأزهري العلمي، لينشغل الأزهر بصراعات فكرية عقائديةٍ مع الوهابية، وبالتالي تأخر الأزهر عن مشروع الباشا النهضوي.
لماذا غابت مؤسسة الأزهر عن مشروع الباشا لبناء مصر الحديثة ؟
لم يترك محمد علي باشا أي شيء إلا وحقق منه شيء، في الزراعة والصناعة والعسكرية والتعليم ونحو ذلك، لكن بقيت مسألة غياب الأزهر كمؤسسة شيئًا غير مفهوم، ولم يهتم مؤرخي الأزهر بتوضيح تلك النقطة، باستثناء الشيخ حسن العطار «شيخ الأزهر لاحقًا في زمن الباشا» والذي حزن كثيرًا للأسباب التي جعلت الأزهر يتأخر عن مشروع الباشا.
تحتفظ لجنة التأليف والنشر والترجمة في مصر بنسخةٍ من تقرير استخباراتي قام به القنصل الإنجليزي منتصف عصر الباشا لدراسة الحياة في مصر، وفي ص 664 من تقرير مصر محمد علي كان تقرير الرحالة الإنجليزي كارثيًا حيث أجاب عن حال الأزهر زمن الباشا فقال «إن التعليم الذي يقوم به أساتذة الشريعة في المعاهد الدينية لتنشئة رجال الدين المسلمين قليل الجدوى بل إنه ليهبط في مستواه حتى يبلغ من التفاهة حدها الأقصى، فقلما يلقي الشيوخ دروسًا في الأخلاق، أما الآيات القرآنية التي تحض على الفضائل فإن حظها من الذكر والتفسير قليل، فالمسائل التي يحتدم حولها الجدل تعد على أعظم جانب من الأهمية والاهتمام، ومنها إعراب ما يتلى في الصلوات من آيات، والخلاف حول الإشارات التي تصدر أثناء الصلاة مثل رفع اليدين أثناء التكبير أو موضع اليدين على السُرَّة أو الصدر وما شاكل ذلك من الموضوعات».
تحسر المؤرخ عبدالمتعال الصعيدي خلال الطبعة الأولى من كتابه «تاريخ الإصلاح في الأزهر» على تقرير الرحالة الإنجليزي وعلق عليه بقوله «ليت شعري ماذا قصر بأهل الأزهر عن إدراك ما أدركه ذلك الإنجليزي، اللهم إنه لا شيء إلا أن أهل الأزهر كانوا يعيشون بين جدرانه في عزلة عن الناس فلم يشعروا بتلك الأحداث العظيمة التي أحاطت بهم ولم يمكنهم أن يعتبروا بها كما اعتبر بها محمد علي باشا ذلك الجندي الأمي العظيم محمد علي باشا، فاعتبر على أميته بتلك العبر وأدرك ببصيرته ما يتهدد المسلمين إذا استمروا في غفلتهم ولم يأخذوا بتلك الأسباب التي نهضت بأوروبا، ولكن ما تنبه له الناس لم ينتبه له أهل الأزهر ولم يبعثهم على العمل الذي يحمل الأزهر على مسايرة تلك النهضة».
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال