206 مشاهدة
جمال عبد الرحيم.. خطوة أبعد من بيلا بارتوك
قبل الطبقة المتوسطة التي عجنتها وخبزتها دولة يوليو؛ كان هناك طبقة وصفها د.طه حسين في مرة بكلام معناه أنها رغم قلتها العددية بالنسبة لطبقة يوليو الوسطى، إلا أنها كانت “جيدة النوع” أكثر من وجهة نظره.
الموسيقار جمال عبد الرحيم واحد من ولاد هذه الطبقة التي أخذت تعليماً مُمتازاً وسط جو مُتسامح، مُتطلع للمعرفة دون أي شعور بإغتراب أو بغل العداوة مع مصادرها غربية أو شرقية رغم الإحتلال الإنجليزي؛ مما أدى إلى ظهور جيل الرواد -معظمه وليس كله من أبناء الطبقة المتوسطة- بمعاول للتنوير هدموا بها حوائط وحواجز للنور والهواء الصابح قبلما تعيد سبعينيات السادات وما تلاها بنائها والتعلية عليها.
جيل الرواد هذا كان موسوعياً مؤمناً بالعلم وبالفكر المؤسسي؛ فتجد د.طه حسين مثلاً يكتب في التاريخ الإسلامي وفي الشعر الجاهلي وفي فن الرواية وفي النقد الأدبي بالتوازي مع تحقيقه لحلم مجانية التعليم والتدريس في الجامعة وتطويرها، وهكذا كان أيضاً الموسيقار جمال عبد الرحيم المولود سنة ١٩٢٤ -سنة إلغاء الخلافة الإسلامية- لأسرة قاهرية أحد أفرادها وهو الأب يعزف على العود والفلوت، ومن تفاني هذا الأب وتقديره للموسيقى أخترع فلوت يخرج صوت الربع تون، الذي يُميز الموسيقى الشرقي عن الغربي.. علاقة الأبن بالموسيقى بدأت مع البيانو وتطورت بعد تخرجه من كلية الآداب قسم تاريخ بالسفر لدراسة التأليف الموسيقي بأكاديمية فرايبورج بألمانيا، وكان أول مصري يدرس التأليف الموسيقي دراسة أكاديمية حقيقية ومتكاملة علمياً. لم يُبلط في أوروبا وعاد لمصر آواخر الخمسينيات؛ لتأسيس أول قسم للتأليف الموسيقي في العالم العربي بالكونسيرفتوار “المعهد العالي للموسيقى” بمصر.
لم يكن جمال عبد الرحيم أكاديمياً وفقط أو عازفاً وفقط، بل كان مؤلفاً موسيقياً شديد الموهبة مخصوص الطعم والتكنيك، مطوراً للموسيقي المصرية، كاسراً للتمايز بينها وبين قوالب التأليف الموسيقي الغربي مازجاً بينهما كما يمزج المسك بالماء الزلال على قول الحلاج.
“رفعت فني لمقام الشعب” كتبها فؤاد حداد، وحاول طول الوقت أن يعملها جمال عبد الرحيم؛ فكان شغله كالموسيقى الشعبية المليانة بالتيمات الغنية الطازة وبراح الخيال رغم إرتباطها بجدر الأرض، وخدم عليها -كجمل لحنية- بالتكنيك الغربي المعاصر للقرن العشرين الذي عاش ورحل فيه.. كانت ذروة زهزة أسلوبه في التأليف الموسيقي تِبان عندما يكتب نوتات الإيقاع للألآت الشرقي والغربي، التي تدخل مع بعضها أثناء العزف صانعة تابلوهات موسيقية شديدة التميز والتفرد، مُقربة قوالب تأليف الموسيقى الكلاسيك لمقام الشعب.
حلم نعيمة بالزفاف/ باليه حسن ونعيمة
رقصة حسن ونعيمة
نعيمة تندب حسن
ومش كده وبس فقد أستخدم أسلوب الغناء البوليفوني لأداء ألحان فيها ال٣/٤ تون مُلحنة على أساس المقامات العربية راست وصبا وحجاز وغيرها، والغناء البوليفوني معناه الغناء الجماعي بأكثر من صوت ويكون لكل صوت لحنه الخاص.. وتخليق هذا التكنيك حقيقي صعب ومُجهد ومؤسس لأسلوب ومدرسة أتبعها غيره مثلما سمعنا في عمل موزار المصري، وسيمفونية الشرق لمارسيل خليفة.
يا حنة يا حنة يا قطر الندى بأسلوب الغناء البوليفوني لجمال عبد الرحيم
ألف جمال عبد الرحيم موسيقى في قوالب موسيقية متعددة ومتنوعة جداً؛ فهناك موسيقى بأوركسترا كامل كسيمفونيته “تنويعات على التيمات الشعبية المصرية ١٩٦٧”، وصولوهات موسيقية بمصاحبة الأوركسترا مثل عمل “بركة اللوتس.. صولوهات للفلوت والأبوا والكمان ١٩٧٣”، وأعمال متعددة لموسيقى الحجرة مثل عمله على البيانو “إلى شهداء العرب ١٩٧٤”، وسوناتا “للكمان والبيانو ١٩٥٩”، وباليه حسن ونعيمة، وباليه أوزوريس ١٩٧٤، كما وضع الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام الوثائقية كفيلمي الحياة اليومية للمصريين القدماء ١٩٦٠، والمتحف المصري ١٩٨٥.. ومؤلفات أخرى كثيرة وصل عددها كلها إلى ٥٤ مؤلفاً موسيقياً.. رحل عبد الرحيم أثناء زيارته لأبنته في ألمانيا سنة ١٩٨٨، ودفن في مصر.. تعزف موسيقاه في أوروبا وأمريكا وروسيا والشرق الأوسط، ولله الحمد والمنه تم تسجيل معظم شغله على سيديهات تباع للآن في أوروبا وأمريكا.. عقبال هُنا يا رب.
صولو بركة اللوتس
موسيقى باليه أوزوريس
“أن موسيقاه إندماج عضوى بين روح الشرق وتكنيك الغرب يمثل خطوه أبعد من بارتوك”هكذا كتب الناقد الألماني الناقد الالمانى شتوكنشمنت كما وجدت على موقعه الرسمي. وبارتوك رائد مزج الموسيقى الشعبية في شرق أوروبا وموسيقى الغجر والموسيقى الهنغارية وموسيقى الصحراء الجزائرية مع قوالب التأليف الموسيقى الكلاسيك.. لم يكتب جمال عبد الرحيم نوتة موسيقية إلا لأجل الموسيقى: برغبة وشغف وحب وأمل في رفع فنه وما تعلمه لمقام الشعب؛ عسى أن يتحقق ذلك يوماً.
الكاتب
ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide