همتك نعدل الكفة
219   مشاهدة  

حكاية سيد أبوشوق: عن آدم الذي “ينام العوافي”

سيد


طويلاً كما سيقان النخيل الغليظة، عريضاً كما مركب مغروسٍ في رمل الشواطئ، حمرة وجهه الخفيفة تخفي التجعيدة اليتمية تحت عينه اليسرى، أما نسبه فهو الوحيد بن الوحيد بن بائعة الهوى الغجرية. لم يكن يعرفه الناس باسم والده، بل رددوا اسم والدته “شوق” ككنية التصقت به إلى الأبد.

يقولون في البلدة الضيقة قرب ترعة بحر يوسف، إن ليلة ميلاد سيد أبوشوق، كانت مشهودة بحق، حضر عمدة الصوافنة، علوي الراكب، وجاء مأمورالمركز العجوز، حشمت بك المناديلي، ومعه حكيم الصحة صليب متأووس، وبينهم طرحت شوق جسدها اللبني على الأرض، تربعت بين ساقيها الداية لتستقبل الوافد الغريب.

كان يوماً حافلاً بحق، فمن كان يجرؤ على التفكير أن “شوق” التي أذابت قلوب سبع رجال ذوي شوارب وعائلات، ستتزوج أصلاً؟، من كان يتخيل أن يحصدها رجل باهر في تخليه عن متاع الدنيا مثل صابر أبوالمكارم؟ ومن كان ليستطيع أن يشطح بخياله ويقول أن لقاءً غرائبياً في الجرن قد يمنع الانفراض عن ذرية أبوالمكارم؟

كان المركز كله يعرف بالقصة، فصابر الذي لايملك من الدنيا سوى نصف فدان مهمل، لم يهتم في حياته أبداً بالنساء، يتذكره الجميع مراهقاً وهو يعبر مصادفة حمامات الباشا دون أن يطرف له جفن، ويتذكر الرجال قصته مع حُسنة، راقصة الفيوم التي راهنت على خمس جنيهات ذهبية، إن هي نجحت في “تحريك” صابر؟ وهل ينسى المأمور حين سرت الشائعات أن صابر يختلي بالصبية، فلم يشهد أحد ضده، وحين أخبروه بالتهمة ذهب بنفسه إلى باب الحجز وطرق الباب وهو ينادي على الخفير قائلاً:”افتح يا أبو بدر.. بيقولوا إني خطيت”.

كان صابر – بتعبير شيخ الجامع – “رجلاً مصمتاً”، لا يريد من الدنيا سوى “أكلة زينة، وهدمة زينة، ونوم عوافي”.

أما شوق، فبعد أن أذلت أعناقاً وحلقت شوارب، واحرقت قلوباً لم يدر أهل القرية بما فعلت، إلا حين خرجت زوجة المأذون طارخة في الشوارع:”الراجل العايب بيجوز الفواتي”، حينها علم أهل البلدة أن شوق قد أحيت الموتى، ووقف المأذون ليعلن للجميع:”شوق بنت الغجر، كتبت على صابر أبو المكارم”.

كما الوالد كما الولد، وحيد بن وحيد بن وحيد بن شوق، كبر سيد منزوياً عن الناس، عازفاً على لحن نفسه، لم يضبطه أحد خارج سياج ” العزوف”، كان قد أخذ من جمال والدته الكثير، ومن بنيان والده الهائل أكثر، فصار كما نخلة سامقة، سكبت عليها شوق عسلا غجريا لا ينتهي أثره.

في البلدة الضيقة، حيث ينام الرجال على جمر التهلف، والنساء على فراش الغريزة، كان سيد هو الاسثناء المزعج، جرب الرجال رميه بالباطل، فخرج منصوراً، جربت النسوة نسج الأساطير حوله، فانكسرت قلوبهن.. كان سيد صفحة بيضاء كما اللبن الحليب، لا تعكر صفوها غريزة، ولا يربكها صراع، فحتى نصف الفدان المهمل الذي ورثه عن والده كان يزرعه كل موسم بأقل الجهد، يجلس لأسبوعين يحصد وحيداً، ولأسبوعٍ يبذر وحيداً، ويهيم في الملكوت بنظرة زجاجية لا ترى من الدنيا سوى الحاضر، فلا يغيظه ماضٍ ولا يحمسه مستقبل، ولا تنغص حياته رغبة في امرأة ولا حباً في منصب ولا حلماً بثراء، مكتفياً عن الدنيا وصخبها بـ”نوم العوافي”.

على عكس سيد كانت “شوق” تتقلب على مواجع تكرار مأساة زوجها مع ولدها الوحيد، كانت تراه بعين “الخبيرة”، فحلاً وسيماً تطارده الفرائس، كان قلبها يتحسر كل ليلة أن يكون وليدها هو “نهاية السلالة”، ظلت أعواماً تجوب الأسواق ومجالس النساء بحثاً عن “وليفة” تليق بهكذا فحل، وتحرك فيه ما أماتته الوراثة من رغبة، حتى فوجئت به ذات يوم يدخل عليها من باب الدار الواسع، وعيناه معلقتان في الفراغ، ليسألها بوضوح:”مافيش حريم زيك يا أمه؟”.

عرفت شوق أن ثمة تيار ساخن قد ثقب قلب الفحل، وأدركت بالخبرة مع صابر، أن سيد يريد القرب لكنه لا يكترث بـ”واجبات التقرب”، وحين أخبرها أن وردة بنت صبحي الكلاف هي المختارة، تذكرت هذه الصبية الفتية وهي تتلوى في الأفراح ولاتمانع من لمسات الرجال والنساء، كان تعرف جسد الفتاة التي حممتها بنفسها عدة مرات في زيجات سابقات، وتعرف من وجتنها المكتنزة أن لفحة الرغبة قد شلت بدنها العارم وحصرت تفكيرها المتوقد في إطفاء الجذوة، أشفقت شوق على فحلها الهائل من نار بنت صبحي الكلاف، لكنها تذكرت لوهلة كيف استطاعت أن تحيي رفاة الرغبة في بدن صابر يوماً واحداً فقط، فسارعت بالموافقة لتكون وردة بنت صبحي هي سبب استمرار السلالة على علاتها المتوارثة.

استقبلت القرية نبأ الزفاف بالنكات والدهشة، ودخلت وردة إلى دار سيد أبو شوق محملة باختبار هو الأصعب على الإطلاق.. حاولت وردة ما وسعها، سألت العطارين، وذهبت للحكماء، وناقشت العجائز، وحتى”شوق” سكبت لها من نهر المعرفة المخفية، أسراراً ولعباً وطرقاً مجنونة لإحياء الميت، لكن كل هذا لم يفلح، حتى حين هددته بالتعري في الشارع، نظر إليها ماطاً شفتيه دون كلمة، ثم خرج.

لم يكن سهلاً على”شوق” أن ترى ما حدث.. لم يكن سهلاً عليها أن “تدير” أيضاً ما حدث، فحين أعلنت وردة الهزيمة أمام الفحل الهامد، انفتحت أبواب الجحيم فجأة.

ادارت شوق كل تفاصيل الحياة الأخرى لزوجة ولدها، كانت تتخير الرجال، وترتب التوقيت، وتراقب الفعلة، وتأمل في امتداد السلالة ولوزوراً أمام الناس، كان سيد يعرف ما يحدث، يسمع الهمس، وتصطدم أذنه بالسخرية، وهو لا يبالي، كان سيد يريد ورد في القرب:”أكلة زينة وهدمة زينة.. ونوم عوافي”.

عاش سيد طويلاً جداً، ذهب خلف أمه إلى القبر ساهماً بنصف حزن ونصف اكتراث، بعد أعوام حمل على كتفيه نعش ورد التي أكلتها الحسرة.. شيع نصف رجال القرية الذين اتهموه بـ”الحياد”، وساعد نصف نساء البلدة اللواتي تآمرن على “إحياء الميت”.. عاش سيد طويلاً جداً، بوجنتين محمرتين تخفيان التجعايد، وبعرجة خفيفة من أثر الزمن، عاش وحيداً في نصف فدان يزرعه وحده، ويحصده وحده، وينام على أرضه كل ليلة وحده بقلبٍ لا يحمل أسى على شيء، وعقلٍ تتركب فيه الصور، وجسد هائل لم تداهمه رغبة، ولا تشعله حماسة ولا يحركه مطمع في الدنيا.. عاش سيد أبوشوق كرجل يعامل الحياة كحزمة حطبٍ بلا قيمة، فمدت له الحبل وصنعت له الفخاخ، ونجى من كل شيء.

إقرأ أيضا
الطين

اقرأ أيضا

حدث بالفعل .. يغتصب زميلته فاقدة الوعي في حمام الكلية في احتفالية اليوبيل الفضي

 

في عامه الثمانين وحين انتصف الشهر بدراً، جر جسده النقي إلى قرية الصوافنة بحثاً عن السماد، ولم يكن يدرك وهو يخطو على الطريق الترابي أن صبية من نار تتحمم خلف دار سعد المزين، وأن لهيبها سيلفح عينيه الزجاجيتين للمرة الأولى منذ ثمانين عاماً.

كما المندوه سار نحوها..كانت الدماء المحايدة تغلي للمرة الأولى في عروقه البكر، وبينما استقرت عيونه على البدن الذي لا ينطفئ، سرت رعشة خفيفة زلزلت كيانه، فنزع جلبابه المفرد وهرول لاهثا نحو الصبية بروحه شققها الظمأ، ونفست فتتها اللهفة، وجسدٍ عارٍ لم يتحمل لفحة النار، وبينما الصبية تصرخ مفزوعة، كان سيد يتهاوى تحت القدمين النديتين محموما.. عارياً.. ميتاً.. و”مقتدراً”.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان