همتك نعدل الكفة
37   مشاهدة  

سيرة بيرلو (10).. رهان تشيخوف وكونتي الشيطان!

بيرلو وكونتي


كعادتي كل مساء قبل الخلود إلى النوم، يوتيوب هو صديقي، أقلب فيه قبل أن أختار إحدى مساحاتي الآمنة، أضغط زر التشغيل وأخلد للنوم. أعتقد أن لمعظمنا أعمال فنية آمنة، يحفظها من كثرة ما شاهدها عن ظهر قلب، مساحاتي الآمنة تشمل أعمال عادل إمام ومسلسل رأفت الهجان، والأجزاء الأربعة الأولى من الكبير، بالإضافة إلى عدد من المسرحيات، والسهرة التلفزيونية: “الرهان” التي تحمل مباراة تمثيلية أنيقة بين يحيى الفخراني وعبد الرحمن أبو زهرة.

“الرهان” هي قصة قصيرة لأنطون تشيخوف صدرت في العام 1898، وتدور أحداثها حول رهان حدث بين رجل مصرفي ومحام شاب حول ما إذا كانت عقوبة الإعدام أفضل أو أسوأ من السجن المؤبد.

أنطون تشيخوف
أنطون تشيخوف

عاد المصرفي بالذاكرة إلى تلك المناسبة التي حدث بها الرهان قبل خمسة عشر سنة، فيتذكر ذلك النقاش الذي دار بين ضيوف حفلته حول عقوبة الإعدام، حيث أنه أيَّد هذه العقوبة؛ لأنه يرى أنها أكثر إنسانية من السجن مدى الحياة. في حين أن المُحامي الشاب خالفه الرأي مُصِّراً على أنه سيختار السجن مدى الحياة على الموت.

وافق الاثنان على رهانٍ قيمته مليونا روبل يدفعها المصرفي للمحامي إذا استطاع أن يعيش منعزلاً في حبس انفرادي لمدة خمسة عشر عاماً. سجن المحامي في غرفة صغيرة وقد كان يمضي أوقاته في قراءة الكتب، والكتابة، والعزف، والدراسة، وشرب الخمر، وتعليم نَفسه. وقد وُجِدَ أن المحامي ينمو باستمرار خلال القصة، ورأينا مراحله المختلفة خلال فترة تواجده في السجن. في البداية عانى المحامي من الوحدة الشديدة والاكتئاب ولكن فيما بعد بدأ يدرس بنشاط، إذ إنه بدأ رحلته في دراسة اللغات وما يتعلق بها، ثم انتقل لدراسة العلوم المختلفة والأدب والفيزياء ومواضيع عشوائية كثيرة، وأنهى 600 مُجلد خلال أَربع سنوات، ثم في السنوات اللاحقة درس الإنجيل وتاريخ الدين، وفي السنوات الأخيرة ركز دراسته بشكل كبير على الطب والفيزياء والفلسفة وفي بعض الأحيان كان يقرأ لبايرون أو شكسبير.

في هذه الأثناء تراجعت ثروة المصرفيّ، وأدرك أنه خسر الكثير من أمواله وأن تسديد الرهان سيؤدي إلى إفلاسه، ولكي يحمي نفسه من خسارة أخرى. قرر المصرفي قبل يوم واحد من انتهاء الخمس عشرة سنة المتفق عليها قتل المحامي وبذلك يتهرب من تسديد قيمة الرهان، ذهب إلى الغُرفة التي يُحبس بِها المحامي ولكن قبل أن يقتله وجد رسالة كتبها المحامي يقول فيها إنه في الفترة التي قضاها في السجن تعلم أن يحتقر الماديات على اعتبار أنها أشياء عابرة وأن المعرفة أهم من المال ولهذا فإنه يتنازل عن مال الرهان، صُعق المصرفي مما قرأه ولم تصدق عيناهُ، ثم قام بتقبيل المحامي على رأسه وغادر وهو مرتاح، فلم يعد بِحاجة لقتل أحد.

وفي الصباح الباكر أخبر الحارس المصرفيّ أن المحامي قد غادر قبل الموعد المضروب وبذلك يكون المحامي قد خسر الرِهان وحفظ حياته وبالتالي حفظ أَموال المصرفي.

القصة الرائعة التي تدور حول شهوة الرهان وقدمها يحيى الفخراني وعبد الرحمن أبو زهرة في سهرة تلفزيونية بديعة، ذكرتني بما حكاه بيرلو في سيرته الذاتية عن المراهنات في كرة القدم الإيطالية وموقفه منها.

كونتي الشيطان

كنت محظوظا في حياتي بما يكفي لأن ألتقي وأعمل مع أنطونيو كونتي. عملت مع الكثير من المدربين الرائعين لكن كونتي كان أكثر من فاجأني من بينهم، فحديثه المليء بالكلمات البسيطة كان قادرا على السيطرة عليّ وعلى جميع لاعبي يوفنتوس.

في اليوم الأول له في مونتانا، استدعى كونتي الجميع في الجيم ليلقي خطابه، كانت السموم تحاوطه في ذلك الوقت لكنه كالأفاعي كان يتحرك للأعلى: “هذا الفريق أعزائي الشباب جاء من المركز السابع في موسمين متتاليين، أمر جنوني، لكن هدوء، لست هنا من أجل ذلك، حان الوقت للتوقف عن كوننا فريق مريض”.

دقائق بسيطة، تلاشت خلالها الأسرار التي أردت اكتشافها في هذا الرجل، شيء واحد بالذات كان واضحا بشدة: هذا الرجل يمتلك شعر شيطان!، وإذا كان الشعر مزيفا فبالتأكيد الشيطان ليس كذلك، إنه شيطان حقيقي، شيء لا يمكن أن يعاد إنتاجه. استمر كونتي في الحديث: ” في المواسم الأخيرة هنا، حدث كل شيء بشكل خاطئ، لهذا يجب علينا أن نخترع شيئا لنعود، لنكون يوفي الحقيقي، العودة ليست طلبا مهذبا، بل هي أمر، يجب أن تقوموا بخطوة واحدة بسيطة: فقط اتبعوني”.

بيرلو وكونتي
بيرلو وكونتي

انطباعي الأول عنه كان صحيحا، حين يتحدث كونتي تدخل بعض المفاهيم إلى رأسي بعنف، كلماته تطرق أبوابا في داخلك، حتى ذلك اليوم الذي قال فيه شيئا حساسا: “كم مرة يجب عليّ أن أعيد ذلك. انتهباه، لم أنته بعد، ضعوا في أذهانكم أنه يجب علينا العودة إلى مستوى التنافس الذي كان عليه أولئك الذين صنعوا اسم وتاريخ يوفنتوس، عدم الوصول إلى المراكز الثلاثة الأولى جريمة”.

نجحنا بكل وضوح في موسمنا الأول ومن المحاولة الأولى، نجاح ينسب له كليا، نجاح تخطى كل التوقعات، بالنسبة له لم يكن الأمر لينتهي بطريقة أخرى، ففي كل يوم كان يؤكد: “يجب أن يكون لديكم الغضب الذي بداخلي”.. كلمات بسيطة لكنها الكلمات الأكثر إقناعا التي تلقيتها في حياتي.

كونتي ليس ساحرا رغم أنه يتفوه بكلمات مجنونة، الأمر هو إما أن تفعل ما يطلب منك، أو أنك لن تلعب أبدا. رجل يهتم بكل التفاصيل الممكنة ويحولها لصالحه، حين يركز على الشق التكتيكي، فإنه يجعلنا نحدق أمام الفيديو لساعات طويلة، يشرح لنا كل الأخطاء التي وقعنا فيها، لديه حساسية مرعبة من الأخطاء، أصلي دائما كي لا يكتشف أخطائي.

في ملعب التدريبات في الفينوفو، دائما نفوز في المباريات التدريبية، لأننا ببساطة لا نواجه أحدا!، نلعب دون خصم، 11 لاعبا ضد 0.. من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة، يجبرنا كونتي على اللعب دون خصم ضدنا لمدة 45 دقيقة، كل يوم نكرر نفس التحركات إلى أن نتقنها جميعا؛ هذا هو سبب فوزنا حين نلعب 11 ضد 11. إذا كان ساكي عبقريا، فماذا يكون كونتي؟.

توقعت أن يكون كونتي مدربا جيدا، لكن للحق ليس بهذه الجودة، توقعت مدربا لديه الجرينتا والكاريزما، لكنني وجدته حتى ي النواحي الفنية والتكتيكية مبهرا يمكن أن يعلم الكثير من جيله.

إذا كنت أرغب في العودة بالزمن وتغيير شيء واحد في مسيرتي، فإنني لن أجلس على ذات المقعد بجانب بوفون في غرف الملابس مجددا، مباشرة أمام باب غرفة الملابس في ملعبنا، المكان الأخطر في تورينو كلها، خاصة بين شوطي المباريات، كونتي يدخل في نوبات غضب حتى وإن كنا فائزين، يبدأ برمي كل شيء على الحائط وعلى الزاوية التي أتواجد فيها، يرمي كل شيء؛ علب بلاستيكية مليئة بالماء، قطع، شمبانيا.. يصبح متوحشا جدا.. لا يقتنع.. لديه أيضا ميزة قراءة ما سيحدث في الشوط الثاني؛ في إحدى المباريات كنا خاسرين من الميلان، بين الشوطين كان كونتي في قمة غضبه، قال لنا: “ضد هؤلاء؟! لا أعرف كيف ل يمكننا الفوز عليهم رغم أنهم يلعبون بشكل سيء”.

بيرلو: كونتي أفضل مدرب عملت معه

في النهاية يختفي كل شيء، إذا فزنا يكتفي بتحية سريعة. الأسوأ يأتي حين يكون وحده في الليل؛ يبدأ التفكير في كل ما حدث، لا ينام، يضغط على زر الإعادة ويتذكر كل شيء، يعيش عذابا داخليا لا ينتهي، يغني أغنية دائرية لا تعرف بدايتها من نهايتها، يعيش 360 درجة في عمله الذي هو شغفه وسعادته، أحيانا لا أفهم من هذا الذي يجلس على مقاعد البدلاء مدرب أم مشجع!.. لكنه بكل الأحوال شخص يصنع الفارق.

مراهنات

اعتدنا الوضع عندما أوقف كونتي لفترة طويلة بسبب قصة غريبة عن المراهنات في أيام تدريبه لسيينا، كان يعاني في أيام الأربعاء والأحد والسبت.. في التدريبات، وفي الالتزامات الرسمية لا يمكنه الاقتراب من الفريق، افتقدنا حضوره بين الشوطين. بدلاؤه أنجيلو اليسيو وماسيمو كاريرا، كانوا يفعلون ما يطلبه منهم، لم يخترعوا أي شيء، حتى في المقابلات الصحفية كان لا يتمتعون بالحرية الكاملة، هم الواجهة وكونتي صاحب المفاهيم.

في ذلك الوقت لم أره يبكي أو ييأس، أتذكر أنه قبل صدور الحكم بقليل كنا في معسكر بالصين، كان التوتر يكسو وجهه، وكان يقضي الأيام على الهاتف مع محاميه، لكنه مع اللاعبين لم يناقش الأمر أبدا، كان جيدا في إبعاد أموره الشخصية عن اللاعبين، وكأن شيئا لا يحدث.. فقط مرة واحدة كانت قبل أن تنفجر قنبلة الإيقاف، طلب كونتي الاجتماع بقادة الفريق، كنت حاضرا مع بوفون، كيليني وماركيزيو: “هذه لحظة يجب أن تمدوا لي فيها يد المساعدة بشكل أكبر من المعتاد، أريدكم أن تتابعوا كل شيء في التدريبات والمباريات، دون وجودي في غرف الملابس أريدكم أن تنقلوا لزملائكم الدفعة اللازمة، لا تستسلموا، لا تتخلوا عن كل شيء صنعناه سويا”.

كنا متأسفين لأجله ولأجل مساعده كريستيان ستليني، الذي كان جزءا من اليوفي وأمضى وقتا طويلا معنا في التدريبات، كان مسئولا عن الجزء الدفاعي، وغيابه كان ثقيلا علينا.. بعد مباراة ودية في سالرينو، ظهر في غرفتي فجأة عند الثالثة صباحا، قال لي: “أندريا، لم يعد بإمكاني البقاء هنا، سأرحل من أجل يوفنتوس حتى تهدأ النيران”.

إقرأ أيضا
أهل غزة في الهدنة

بشكل عام، أدركت شيئا: المشكلة في الرهان، المشكلة تكمن في الرهان المسموح به، بعد أن تم السماح بالرهان على نتائج المباريات في أي كازينو، بدأت المشاكل الخطيرة في الظهور، خاصة في السيريا بي والسيريا سي، حيث يبقى اللاعب دون أن يتسلم راتبه لفترة طويلة، ما يدفعه ليتفق مع بعض زملائه على نتيجة المباراة، ومن ثم يتفق مع وكالة مراهنات تدفع له في نهاية الشهر أو ربما نهاية الموسم. يجب ألا يسمح لهم بالمراهنات في الدرجات الأدنى.

قد يأتي البعض ليقول إنه إذا منعت الرهانات النظامية، ستبدأ المافيا أو الكاموار أو بقية هذا الهراء الآخر في السيطرة على وكالات المراهنات، ومن ثم سيكون الوضع أسوأ. أقول ربما لكن يجب علينا أولا حل المشكلة التي أمامنا ولاحقا نفكر فيما سيأتي بعدها.. افتقادنا الخطوة الأولى دائما هو ما يجعل الوصول للخطوة الثانية مستحيلا.. شخصيا، أتمنى شطب أي لاعب تثبت عليه تهمة المراهنات، يجب ألا يكون لدينا رحمة تجاه من يتورط في هذه الأمور. لا أعرف كيف يفكر هؤلاء اللاعبين المتورطين ومن بينهم نجوم كبار، أعتقد أن الجشع تجاه المال رغم انتفاخ جيوبك وحسابك البنكي يعتبر “مرض”.

لم يعرض علي أي شخص أو وكالة التورط في هذه المراهنات. في هذا الأمر، لعبت في ميلان سنوات عديدة وكنت محظوظا لأننا كنا لا نفكر أبدا في الخسارة أو التعادل، نلعب دائما من أجل الفوز. ولو حاول شخص إدخالي في هذه التفاهات كنت سأعلقه على الجدار، لا أميل العنف، لكني يمكنني استخدامه في بعض الأحيان.

صراحة

دعونا نتحدث بصراحة، كلنا يرى كل شيء، والجميع يتظاهر بالعمى ويختار الخرس، خاصة في السيريا بي نرى أشياء جنونية في الأسابيع الأخيرة، ولا يوجد شخص يستطيع التحدث بوضوح، فقط همسات، حتى في السيريا أ تظهر بعض الفرق التي تتمادى أحيانا في هذه التصرفات. الإبلاغ عن صديق أو زميل يبدو صعبا بطبيعة الحال، لكن ماذا تفعل إن كان صديقك فاسدا؟.. لو حدث معي هذا ربما سأرفع يداي عنه وأذهب إلى الاتحاد الإيطالي لأبلغ عنه، حتى لو كان فعلتي ستورطني في قضية لا أنتمي لها، لهذا أرى أن قانون المسئولية المطلقة قانون شاذ.

اقتراحان

أولا يمكن لكل لاعب يشارك في المراهنات أن يقرأ رائعة تشيخوف “الرهان” فقد تساعده على التخلص من أفكاره الفاسدة التي تسيطر على عقله.

ثانيا، لمحاولة التغلب على مشاكل المراهنات، بالإضافة إلى إلغائها.. هناك إمكانية إضافة حوافز إيجابية، مثلا: حين يلعب فريق (ب) الثاني في جدول الترتيب أمام الفريق

(ج) الذي لا يملك أي طموح، حينها يمكن لفريق (أ) الذي يتصدر جدول الترتيب وينتظر خسارة (ب) أن يقدم جائزة مالية لـ(ج) بشكل علني كي يحفزه لتحقيق الفوز، هذه حوافز إيجابية علنية تضمن أن تلعب كل الفرق من أجل الفوز، لكنني أخشى في إيطاليا أنه من الصعب جدا إيجاد الحلول، لأن هناك الكثير من المصالح على المحك.. في هذا الأمر أنا مستعد لكي أراهن.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان