همتك نعدل الكفة
643   مشاهدة  

عيون لا تنام .. واقعية الميهي الأجمل من سرياليته

عيون لا تنام


في مسيرة رأفت الميهي مخرجًا فيلمان فقط ينتميان للسينما الواقعية، بينما الأفلام العشرة الأخرى تنتمي إلى مدرسته السريالية التي اشتهر بها، ولكن بالنسبة لي هذان الفيلمان هما الأجمل على مستوى الإخراج، الميهي السيناريست الفذ الذي طالما انتمت أفلامه ككاتب للسينما الواقعية، يقدم نفسه مخرجًا للمرة الأولى بفيلم ربما هو الأجمل والأفضل بالنسبة له، عيون لا تنام حيث الواقعية أجمل بكثير من السريالية.

اللا خير واللا شر

قل لي ماذا تقرأ أقول لك كيف ستكتب، هكذا كان يقولها الميهي دائمًا لطلاب أكاديميته، كان شديد الحرص على سؤالهم دائما عما يقرأوا، بل وقد ينجرف أحيانا ويضع لبعضهم خطط للقراءة وترشيحات كأب ومعلم في الوقت نفسه، وكيف لا والميهي هو أحد أفضل الكتاب الذين تعاملوا مع نصوص أدبية وحولوها لأفلام، لدرجة أن كاتب بقامة إحسان عبدالقدوس طلب أن يكون الميهي فقط هو المسئول عن تحويل رواياته وقصصه إلى أفلام ولكن الميهي هو من رفض.

لذلك لم يكن غريبًا أن يكون الفيلم الأول عيون لا تنام عن مسرحية يوجين أونيل الأشهر “رغبة تحت شجرة الدردار” المسرحية التي قتلتها فرق المسرح حول العالم تنفيذًا وقدمتها السينما قبل ذلك لعل الأشهر هو الفيلم الذي جاء بنفس الاسم بطولة صوفيا لورين، ولكن في عيون الميهي التي لا تنام الميهي حمل رغبة يوجين أونيل إلى الصبغة المصرية الصرفة، فلا تشعر للحظة أن هذه الأفكار والمشكلات والشخصيات خارج المجتمع المصري بل هي من صميم نسيجه، بصراعتها، وصراعتها هنا هي مربط الفرس.

عالم من اللا أخيار واللا أشرار نسجه رأفت الميهي، أن تتعاطف مع الجميع وتكره الجميع، تبغض الجميع وتحب الجميع، الأخ القاسي قسوة الأب على أولاده، إبراهيم الذي دائما ما تفلت منه لحظات رحمة، والأخ غير الشقيق إسماعيل الي تفلت منه لحظات شر، حتى محاسن الراغبة في العيش في ظل رجل فقط، حتى هي لديها وجه خفي الجميع له دوافعه.

أنت لا يمكك أن تغفل على الإطلاق كفاح إبراهيم لإنشاء تلك الورشة المتنازع عليها، تلك الأيام القاسية التي طبعت قسوتها على قلبه، جعلته يستغل مرض والده الأخير لينتزع منه ملكية الأرض والورشة نظير مبلغ زهيد، أبوه الذي تركه في الشارع لينعم مع زوجته الجديدة أم إسماعيل في حي الباطنية، ولكن على الرغم من هذا لم يترك إسماعيل ابنها ليعاني مما عانى هو منه واحتواه وجعله ميكانيكي يعمل في ورشته.

في الوقت نفسه يكن إسماعيل كرهًا شديدًا لإبراهيم الذي في اعتقاده سرق أرض والدته منه ولكنه أيضًا يحفظ له الجميل أنه آواه ورباه وجعله أسطى، كما فعل مع شقيقيه عبدالله وسليم، الشقيقان اللذان يخرجان سريعًا من المعادلة وحسنًا فعل الميهي بإخراجهم من المعادلة، فعالم الأشقاء الأربعة يهتز من بداية الفيلم بدخول عنصر خامس وهو محاسن الفتاة التي أكلها الزمن وقسوته وقسوة شقيقتها فتركتها في الشارع تحاول أن تحافظ على شرفها وعلى حياتها لتقتات على أقل القليل، حتى يصبح إبراهيم بقسوته وسنه الكبير هو طوق النجاة الأمثل.

صراع تقليدي غير تقليدي على الإطلاق

خرج الشقيقان ليستمر الصراع بين الثلاثي ليتحول لصراع يبدو في ظاهره تقليدي مثلث درامي أثير الزوج والزوجة والعشيق، لكن من قال أنه صراع تقليدي، فالثلاثة لهم مطامع لن تتحقق إلا بمعاونة الأخرين، فصدق أو لا تصدق أن محاسن التي تحب إسماعيل يجب أن تنجب من إبراهيم لتضمن مكانها في الورشة في الوقت الذي تحمل سفاحًا من إسماعيل وتنسب الطفل لإبراهيم، وفي الوقت نفسه يستغل إسماعيل هذا الطفل ليأخذ حقه في الورشه بينما، هذا الطفل نفسه ابن محاسن وإسماعيل هو من سيحقق لإبراهيم هدفه في طرد إسماعيل خارج الورشة، علاقة شديدة التعقيد، تمت حياكتها بواسطة معامل واحد مضاف وهو طفل.

ببساطة متناهية أستطاع الميهي اللعب على غريزة أساسية لدى البشر وهي غريزة البقاء، فالجميع طامح في البقاء حتى لو على حساب الأخرين، حتى ولو على حساب معاني وقيم ومشاعر أكبر كالشرف والحب والكرامة، وكأنه صراع على الحياة نفسها، ينتهي كعادة أي صراع على الحياة بالموت، الجميع يخسر في النهاية، يربح شخص أخر من خارج دائرة الصراع تلك الجنة الخاوية.

بلا خير أو شر أو قيمة لأي شيء استطاع الميهي أن يخلق عالم تكون فيه القضبان والأسوار هي المعامل البصري أن هذا العالم منفصل ومتصل في الوقت نفسه بالعالم الخارجي، حتى خروجك خارج الورشة فأنت تخرج لتناقش مشكلات دارت في المقهي تخرج لتناقش حادث السرقة، وحمل محاسن، تخرج للسوق للتبضع لكي يكون هناك مبرر لاكتشاف السرقة، أو لتعرف معلومات عن محاسن أو حتى لتتزوجها، المرة الوحيدة التي خرج فيها الميهي خارج الورشة لا ليناقش مشكلاتها أو لحدث حدث فيها، كان الخروج الأول بعد الزواج، وهو خروج له أثر درامي شديد الأهمية.

الصراع على الحياة

إقرأ أيضا
اعرف عدوك

الخارجان من الورشة هما عبدالله وسليم، يخرجان بحثًا عن الحياة في رفض مبطن لسجن يعيشان فيه داخل الورشة، ولم يترك الميهي المخضرم هذا المشهد ليمر مرور الكرام قبل أن يضع فيه أحد أجمل مونولوجات الفيلم المونولوج الذي يلقيه عبدالله وهو جالس على مقدمة السيارة التي تشق طرقات شبه خاويه ومعه شقيقه وعاهرتين، كأنها يغسل صدره من هواء الورشة، يدرك أن في العالم ما هو غير تلك الجدران التي يعيش الأشقاء الأربعة يأكلون بعضهم البعض.

الميهي لم يضيع وقتًا في تعريفنا بالشخصيات بل نحن نتعرف عليهم سريعًا داخل الأحداث، نقترب منهم مع تصاعدها ونتعاطف معهم ونكرههم في الوقت نفسه لأنهم ببساطة أشخاص طبيعية لديها الخير والشر، بشرًا من لحم ودم في عالم شديد القسوة، تلك القسوة التي طبعت على قلوب الجميع، لتجعلهم يقتلون بعضهم البعض في النهاية رغم أن صراعهم في الأساس كان على الحياة.

عيون لا تنام ليس مجرد فيلم جيد الصنع، بل هو درس شديد التكثيف في كيفية خلق صراعات داخلية وخارجية معقدة ومتشابكة بأبسط الأدوات والوسائل، في كيفية خلق عالم كامل، بتناقضاته من ثلاثة أشخاص فقط عالم لا يقدر على كتابته بهذه البساطة إلا أفضل من كتب السيناريو في السينما العربية، درس يحمل توقيع رأفت الميهي.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان