موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب (7) تلحين قالب القصيدة

أهلا بكم أعزائي القراء في سابع حلقات موسيقار الأجيال، النابغة محمد أفندي عبدالوهاب، والتي سنتناول فيها فكرة تلحين قالب القصيدة الشعرية، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق حيث نتاج محمد عبد الوهاب خلال السبع سنوات التي قضاها برفقة أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وقد فصلنا القول في نتاجة في ميدان قالب الدور وكذلك قالب القصيدة غير أنه يتبقى لنا الحديث عن تطور تلحين قالب القصيدة على يد محمد عبد الوهاب خلال تلك الفترة.

محمد عبدالوهاب وتطوير تلحين قالب القصيدة

طور محمد عبد الوهاب تلحين قالب القصيدة تطويرا فتح آفاق جديدة لمن أتى بعده من الموسيقيين، ذلك أن القصيدة في عهد عبده الحامولي وعهد الشيخ أبو العلا محمد إنما اتخذت الشكل الموسيقي الذي عرف بالقصيدة بمعنى الكلام الفصيح الموزون والمقفى، في حين أنها قد تكون موشحا من حيث الآداء الغنائي، وإذا ما أردنا أن نلقي الضوء على ملامح هذا التجديد والتطوير الذي وضعه عبد الوهاب، فإنه يتعين في البداية أن نتكلم عن ملامح القصيدة في عصر ما قبل عبد الوهاب لنبرز الفرق بين قصيدة عبد الوهاب وقصيدة الحامولي وأبو العلا محمد.

اقرأ أيضًا 
سيرة موسيقار الأجيال (1) تاريخ ميلاد محمد عبدالوهاب .. لماذا هو مختلف عليه ؟

ففيما قبل عهد عبد الوهاب كان غناء القصيدة يحمل ملامح ثابتة لا تتغير تتلخص في أنه غناء يسير على درب القدامى الذي تميز بالمحافظة على وقع الكلمة العربي، وهو شيء أشبه بأداء فن التواشيح التي عرفناها قديما، وبشكل أقرب للتجويد القرآني، متخذا كل ملامحه وعربه الرصينة الهادئة، أما اللحن أو بمعنى أدق الجمل اللحنية لكل جملة من أبيات القصيدة إنما كان يفصل بشكل يبدأ مع بداية البيت وينتهي بنهايته، كلحن قصيدة وحقك أنت المنى والطلب ولحن قصيدة أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه وقصيدة غيري على السلون قادر وقصيدة خلياني بلوعتي وغرامي، فكلها قصائد تقليدية التزم المؤدي فيها الغناء التجويدي من حيث مخارج الحروف والنطق ومن حيث الجمل اللحنية التي تبدأ ببداية البيت وتنتهي بنهايته، أو على الأقل بنهاية الشطر الأول فيه لتبدأ جملة جديدة من المقام المغنى عليه مع بداية العجز، أو بجملة لحنية على مقام آخر مع بداية صدر البيت التالي، على أن يختم آداء القصيدة أو لحنها بذات المقام الذي بدأ به اللحن، فمثلا إذا استمعنا إلى لحن قصيدة وحقك أنت المنى والطلب الذي غنته أم كلثوم لأبو العلا محمد، سنجد أنه يبدأ وينتهي بذات المقام وهو مقام الهزام، كذلك قصيدة أراك عصي الدمع شيمتك الصبر (لحن الحامولي) يبدأ وينتهي بمقام البياتي، على أن اللوازم الموسيقية التي يعزفها الموسيقيين بين الجمل اللحنية التي يغنيها المطرب إنما يقتصر دورها على ثلاث أمور فقط، أولها ضرب الإيقاع بوضوح، وثانيهما ملء القياسات الموسيقية بين الجملتين اللتين يؤديهما المطرب، وثالثهما ترجمة الجملة التي غناها المطرب، أي عزف ذات الجملة اللحنية التي غناها المطرب بالآلات الموسيقية، وهو ما يترتب عليه في النهاية أن اللحن في مجمله يصبح في متناول العازفين بسهولة دون حاجة منهم إلى معرفته معرفة مطلقة.

وهنا يثور التساؤل، ما الذي فعله محمد عبد الوهاب في هذا لجانب، وما الذي أدخله على تلحين هذا القالب ليصبح في النهاية تطورا نتحدث عنه الآن في معرض الكلام عن تطوير تلحين هذا القالب؟
لم يلتزم محمد بعد الوهاب بالتلحين الموروث لقالب القصيدة والذي ذكرنا ملامحه قبل ذلك، بل وسع مداركه ناقلا قالب القصيدة نقلا خضع لحسه وتذوقه في المقام الأول، فمثلا فكرة تلحين بداية القصيدة وختامها على مقام واحد لم تكن فكرة ملزمة له.

لحن عبد الوهاب من القصائد ما ابتدأه بلحن على مقام وانهاه بلحن على مقام آخر، كذلك لحن على الطريقتين المختلفتين المتعلقتين بتغير الجملة الموسيقية بين الصدر والعجز أو تطابقهما على أن يتغير اللحن مع بداية بيت آخر، كذلك لحن الصدر والعجز كجملة واحدة كما في قصيدة شوقي بك يا جارة الوادي، كذلك لم يلتزم عبد الوهاب بإيقاع الوحدة الكبيرة الذي كان ثابتا في ألحان الحامولي وأبو العلا وأدخل على لحن القصيدة إيقاعات مختلفة حسب اللحن، إلا أنه لم يبتعد عن الغناء الارتجالي تماما، بل كان يلجأ إليه كلما اقتضت الحاجة إلى التعبير، وبهذه الملامح نقل عبد الوهاب تلحين القصيدة إلى دائرة أخرى أكثر اتساعا سمحت بتطور دور اللوازم الموسيقية وتغير مجراها، كذلك لم يعد غناء القصيدة ارتجالا واضحا كما كان ويبدو ذلك من بعض التسجيلات التي أوحت بمعرفة العازفين معرفة مسبقة للحن، من ذلك ما ظهر بوضوح في قصيدة تلفتت ظبية الوادي.

يعلق الدكتور فيكتور سحاب عن هذه القصيدة قائلا:
مقدمة هذه القصيدة مكتوبة كجزء من اللحن في عمق تعبيري جميل جدا، وهذه أول قصيدة لا أثر فيها للعزف المتردد غير الواثق في اللوازم، فاللوازم إذن مكتوبة أما بنية القصيدة فلا تزال مفصلة على طريقة أبو العلا محمد، وإن كان محمد عبد الوهاب في هذه الأغنية لا يتوقف عن تأخير النبر في مواقع لا تحصى، وبالخصوص في نداءاته المتكررة “ليلي”، وفي جمل الجزء الثاني من القصيدة عند قوله: إن أشركوني وما بعد ذلك، عدا البيت الأخير.

كذلك في قصيدة الهوى والشباب والأمل المنشود، تظهر جرأة محمد عبد الوهاب التجديدية النادرة وتحفل هذه القصيدة باللوازم الملحنة، وكأن محمد عبد الوهاب أراد أن يضع من خلالها نموذجا لما يجب أن يوضع من تأليف في اللوازم، إلا أن ميزة هذه القصيدة أنها أول قصيدة غير مرتجلة سجلت مع عود منفرد دون آلة أخرى، وخلال هذه القصيدة يبدي محمد عبد الوهاب قدرة عجيبة على مصاحبة نفسه على آلة العود لحنا وإيقاعا في عرض لا يتكرر لتفوقه، في زمن لم تكن صناعة التسجيل قد ابتكرت فيه وسائل دمج تسجيلين معا فيما عرف بعد ذلك بالميكساج، ويبلغ إعجازه في ضبط الإيقاع أثناء الغناء، وذلك عندما يتوقف الإيقاع على العود عند كلمة “شيا” ثم يعود بالإيقاع مجددا في جملة لم يكن لي غد، وكأنه لم يتوقف على الإطلاق، وقد كرر عبد الوهاب الأمر ذاته في قصيدة يا شراعا وراء دجلة يجري.

وأعتقد أن الحلقة لن تحتمل مزيدا من الحديث عن نتاج عبد الوهاب خلال تلك الفترة( فترة السبع سنوات التي قضاها عبد الوهاب بصحبة شوقي بك) في الميادين الأخرى خصوصا بعد الحديث عن تطور التلحين في قالب القصيدة.
بيد أن الحديث عن مسألة التجديد يدعونا إلى القول بأن تلك الملكة ” ملكة التجديد” لما تفارق عبد الوهاب في أي مرحلة من مراحل حياته الفنية وخاصة في أفلامه السينمائية على ما سيأتي في حلقات قادمة، فقد جمل ألحان أغانيه فيها ببعض الآلات الموسيقية الغربية، كآلة الأكورديون في قصيدة سهرت منه الليالي، في فيلم دموع الحب، وآلة البيانو في قصيدة الصبا ولجمال ملك يديك في فيلم يوم سعيد والجيتار في لحن انسى الدنيا وريح بالك في فيلم رصاصة في القلب، وفي آخر أفلامه لست ملاكا بمشاركة المطربة الكبيرة نور الهدى، استخدم آلة الكورنو ” آلة نفخ شبيهة بالساكسفون” في قصيدة الخطايا، كذلك بلغ محمد عبد الوهاب قمة النجاح في توظيف أصوات الكورال في مهرجان القمح بأسلوب علمي راق، كذلك استخدم آلة المندولين في لحن عاشق الروح بفيلم غزل البنات.

وإلى هنا أعزائي القراء نصل لنهاية الحلقة السابعة على أن نكمل الحديث في حلقات قادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.