لماذا لا يفضلون طنطا ؟
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
من الممكن أن تقول أن الكلام الذي سأقوله مجرد هراء غير علمي وغير منضبط .. لكنني لم أسأل أحدًا من الناس عن أسوء مدينة سافر لها، أو أكثر المدن التي لا يرتاح القلب إليها إلا وقال بالفم الممتلئ : طنطا .. وحينما تسأله : ما السبب وراء هذا لموقف ؟ تجد الصمت هي الإجابة النموذجية ثم ينطق : ماعرفش لكني لا أحبها !
خالف الكاتب أحمد خالد توفيق– كعادته- آراء الكثيرين وقال أنه يرتاح للعيش في طنطا، ولا يصدق كيف يستطيعون الناس العيش في القاهرة، كيف يقضي الناس نصف عمرهم أملًا في العودة إلى منزلهم فقط ! .. وما قاله الكاتب الكبير هي أسباب عامة للفصل ما بين العيش في القاهرة والعيش في أي مدينة أخرى بالأرياف، ليس شرط أن هذا السبب يرجح العيش في طنطا عن القاهرة ، فالعيشة في دمنهور أيضًا هادئة عن القاهرة ، والعيشة في مطروح هادئة عن القاهرة ، والعيشة في المنصورة أكثر هدوئًا .. لكن شيئًا وجوديًا في طنطا يجعلك غير مرتاح وأنت بها .. كالذي يرتدي تيشرت جديد وورقة الماركة الخشنة أرهقت قفاه!
تسأل نفسك مثلًأ ، ما سبب أن يُجمع الناس على عدم ارتياحهم لهذه المدينة؟ .. هل هي مثلًا مدينة ليست خصبة تاريخيًا ؟ تجد الإجابة أنه بالعكس تمامًا ، طنطا لها تاريخ نضالي عريض ضد الحملة الفرنسية، حين خرج رجال المدينة ونسائها بالأسلحة البيضاء البدائية ليصنعوا معركة كبرى حين ألقى رجال نابليون بونابرت القبض على أربعة من العلماء وأئمة المساجد بعد أن فرض نابليون المزيد من الضرائب وجاء الرد من طنطا بالرفض القاطع، فقرر نابليون أن يرهب أهل طنطا بالقبض على الأربعة علماء، وانتصر أهل طنطا على كتيبة الكولونيل لوفيفر التي كانت تعج بالأسلحة والمعدات بينما كان نساء طنطا ورجالها يحاربون بالسكين البدائي ورافعين شعارات الطرق الصوفية ، وحرروا العلماء قبل نقلهم للقاهرة ، وأصبح هذا اليوم 7 أكتوبر من كل عام هو العيد القومي لطنطا وأهلها تعبيرًا عن بسالتهم وشجاعتهم… وكانت إحدى المدن التي ركّز صلاح الدين الأيوبي على تطويرها وأزاد من مساحتها حوالي مائة من الفدادين .. وفي عهد السلطان الأشرف شعبان بن حسين كانت من أوائل المدن التي عُين لها “محتسب” لفرض الرقابة على الموازين والأشراف على الآداب العامة والدين، ورقابة صحة الحيوانات وفرض العقوبات على أصحاب الحيوانات المهملين في الحفاظ عليهم، وضبط قوانين البيع والشراء وعدم الاستغلال ، وحل النزاعات بين المتخاصمين .
كما كان المسجد الأحمدي في طنطا أحد أهم الإشارات التي تبعها أهم قرار في التاريخ المصري الحديث .. فقد كان الرئيس السادات حريصًا على زيارة المسجد قبل القرارات الهامة .. زاره قبل عزم القرار على حرب أكتوبر ، وزاره قبل زيارته للقدس ، وزاره قبل توقيع كامب ديفد .. وكان السادات حينما شعر بالارتياح عقب زيارة المسجد أخذ القرار الحائر بين الموافقة والرفض !
إذًا لطنطا تاريخ خصب ، يزورها الكثيرين في مولد السيد البدوي ،بها أقدم السينمات في إقليم الغربية ، ولديها مسرح غنت عليه الست أم كلثوم ، وخطب عليه عبد الناصر، فلابد أن تاريخها يطرد الملل ، لكن موقف الناس وانطباعها عن المدينة ثابت لا يتغير .
عشت أربعة سنوات كاملة في طنطا، حاولت أن اجيب لنفسي عن هذا السؤال الوجودي : لماذا يكرهون طنطا؟ .. وصلت لإجابة ربما تكون الأقرب .. وهي إن طنطا(حاليًا) مدينة كالماء ، لا يميزها شئ ، لا توجد لهجة مثلًا تميز المواطن الطنطاوي كالمواطن البورسعيدي والصعيدي .. لا تعرف الطنطاوي مثلا من شكل بشرته ، لا يشبه الاسكندراني الذي لفحت الشمس وجهه ، لا يشبه الصعيدي المهيب الشارب ، لا يرتدون جلاليب فلاحي كالتي يرتديها أغلب المراكز حولهم ، ليس لديهم طعام خاص بالمدينة كالكبدة الاسكندراني ومسامط السيدة، لا رائحة خاصة بالبلد، لا شئ مخصص للهوية الطنطاوية .. فقط مواطن يشبه أي مواطن في البلد، شفاف غير مميز .. بلد عظيمة دون أن تقول : أنا عظيمة .. وربما هذا الذي يميزها ! اللا شئ! وربما هذا الذي يجيبك عن سؤالك : لماذا لا ترتاح لهذه البلد ، لكنك لو فكرت لدقيقة ستجد أن هذه في حد ذاتها ميزة .. أن تعيش في اللا شئ !
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال