رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
1٬474   مشاهدة  

مأساة أن تولَد فتاة في مصر !

مريم فتاة المعادي مصر


(1)
تحمل الحياة – بشكل عام- طابعًا مأساويًا بلا منطق واضح للعديد من أحداثها اليومية، لكن اللمسة المأساوية العبثية تزداد وطأة في مصر.

اقرأ أيضًا 
فتاة المعادي .. لنا جميعًا نفس القصة فقط تختلف النهايات

ضع نَفْسَك- مثلًا يعني- مكان “مريم”، ألا تعرفها؟ فتاة عادية، لها مظهر بسيط، في منتصف العشرينيات من عمرها، موظفة بأحد البنوك، ها هي خارجة من محل عملها للتوّ، تفكر في أشياء كثيرة تشغل بالها، سائرة في أحد شوارع “القاهرة” المأهولة بالبشر على الدوام، لا تسير على حافة طريق سريع في الظلام الحالك مثلًا، لا أبدًا.. إذن لابد أنها ظنّت أنها تمشية عادية؛ كانت تسير باعتيادية، بينما انشغل عقلها ربما بالتفكير في ترتيبات عُرسها الذي اقترب ميعاده خلال أسابيع، هل زارتها هواجس الممسئولية التي تُخيف البنات في مرحلة ما قبل إتمام الزواج؟ هل فَكَّرَت في مسئولية الأمومة، وحِملها، ودهشتها، ولذتها، الممتزجين ببعضهم البعض؟ .

انشغل ذهنها بأشياء كثيرة مما قد تخطر على البال، لا أعتقد أنه كان من بينها أنها ستفارق الحياة بعد لحظات، وأنها ستتعرض لمضايقات تتطور لمحاولات للتحرش بها من شابين داخل سيارة، سيلاحقانها، بينما يجذبها أحدهم من ذراع حقيبتها، ليختلَّ توازنها، تسقط بلا إرادة منها، ويزحف جسدها النحيل بحذاء إطارات السيارة المُسرعة، تزداد الكدمات وتتحطم العظام في قسوة.. هل استوعب عقلها ما يجري بالسرعة الكافية؟ أم أنَّ رحمة الموت زارتها سريعًا قبل أن تحل مرارة الاستيعاب؟
قاسية هي الحياة في مصر.. لكن قسوتها تزداد ألف مرة على نسائها.

(2)
لستُ مُستغربًا ولا مندهشًا من وقائع ما جرى مع الضحية الشابة “مريم”، بكل ما حمله مشهد مقتلها من تفاصيل مروِّعة.
ولا أجد نفعًا من صياغة الدهشة من أشياء من المُفترض أنها لم تعد مُدهِشة من فرط تكرارها.. ربما لو كان نمط حياتك لا يسمح لكَ بالتحرُّك كثيرًا في شوارع مصر المزدحمة بالسائرين والراكبين، عندها يمكنني تصديق وتفهُّم اندهاشك، فيما عدا هذا، فلا موضع للدهشة هنا، واقع الشارع الذي يزداد توحشًا وصخبًا وانفلاتًا يبدو عصيًا على الإنكار، ولا يترك هامشًا للشعور بالصدمة مما جرى.

العدوانية والعنف غير المبرر يقتحمان تفاصيل حياتنا اليومية؛ دائرة أبدية يطأ فيها مَن يقدر على الأكثر ضعفًا منه بكل ما يملك من قوة.. وغالبًا ما تقع النساء في الحلقة الأضعف من دائرة العنف.

أن تولد رجلًا في مصر فهي معاناة إلى حد ما، أمّا أن تولد امرأة فهي معاناة عبثية أحمد الله أن نجّاني منها؛ فلا شيء أكثر مرارة من أن تعاقَب- كل يوم- بأن تُسلَب إحساسك العادي بالأمان، لمُجرد أنك موجود.

(3)
نعم، كم حمدتُ الله أنه لم يخلقني أنثى في بلدنا.

فمعظم النساء في مصر مهددات بمجرد وجودهن في أي إطار عام، أي إن مُجرد احتمالية خروج المرأة من منزلها تجعلها مُستباحة بدرجة أو بأخرى.. طبعًا لا أحد يبوح بهذا علنًا، لكنه الواقع.. أحدهم كتب تعليقًا على جريمة مقتل الراحلة “مريم” أنها لو لم تكن تعمل، ما اضطرت للخروج من المنزل، وما جرى ما جرى لها، مدللًا بحديثه على أن خير مكان للمرأة هو المكوث ببيتها لا الذهاب إلى العمل.. كم أحب هذه الأفكار الصريحة التي تخرج خالية من المجاملات الاجتماعية التي يفرضها علينا الحيز العام.. نعم، بيننا مَن يعتقدون أنه إذا أرادت النساء أن يبقين سالمات، فعليهن ألا يغادرن بيوتهن، لا عمل، لا تسوُّق، لا ذهاب للطبيب، لا زيارة لأهاليهم أو أقاربهم، ولا يقربن المساجد، فتخلو الطرقات منهن، ويحل السلام أخيرًا.

قد يبدو الكلام مُبالغًا فيه بعض الشيء للوهلة الأولى، لكنه يصبح منطقيًا جدًا عندما أتذكر كَمّ المضايقات اللائي تعرضن لها نساء في دائرتي الاجتماعية، بلا أي سبب سوى أنهن كُنَّ سائرات في الشارع، ما بين ضربة قوية على ذراعها من راكب دراجة نارية مثلًا، أو قذفها بزجاجة مليئة بالمياه الغازية من سائق إحدى السيارات بينما يطلق ضحكات تُبدي كم يبدو ظريفًا ما فعله من وجهة نظره، دعك من أن يقوم أحدهم بـ “تهويشها” أنه سيصفعها على ظهرها أو مؤخرتها، ولا يفعل، ثم يطلق ذات الضحكات الرنّانة التي تُظهِر مدى إعجابه بخِفَّة ظِلِّه.

أمثلة لا حصر لها، فالعنف ضد النساء في مصر تجاوز بكثير مرحلة التحرُّش اللفظي أو حتى الجسدي في الشوارع والمواصلات والأماكن العامة، وتطوُّر للإيذاء البدني الصريح العلني، بلا دافع سوى الإيذاء نَفْسه.

(4)
لن تفيد الكتابة، ولا الشكوى، ولا البكاء، ولا عبارات العزاء في تغيير شيء من الواقع، إلا إذا توافرت الإرادة المجتمعية الحقيقية، مدعومة بإرادة الدولة، لردع ظاهرة العنف ومرتكبيه ضد النساء في مصر.

إقرأ أيضا
جينوجرافيك

لن تفيد كل حملات التوعية، ولن تغير فقرات برامج التوك شو شيئًا، إذا لم يتم إدخال تعديلات جذرية على قوانين مكافحة التحرش والعنف ضد النساء، مقرونة بالصرامة في تنفيذها من قِبل الأجهزة المعنية؛ لو وضع المتحرش في ذهنه أن هناك احتمالية كبيرة وصادقة أن السجن المُشدد ينتظره، في حال ارتكب أي من أشكال العنف أو الإيذاء ضد إحدى النساء، سيفكر ألف مرة قبل أن يرتكب جريمته.

لن يردع النُصح والموعظة أحدًا، إذا لم يقترن بالخوف من العقاب الرادع.

وتذكروا أن هناك آلاف مثل “مريم” يسيرن يوميًا في شوارع المحروسة، ربما لم يقتلهن السقوط أسفل إطارات سيارة مُسرعة، ولله الحمد، لكن الخوف كفيل بإماتهن أحياء في كل مرة يخرجن فيها إلى الشارع، يلازمهن إحساس عبثي بالخوف، الخوف لمجرد أنهن موجودات.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
20
أحزنني
9
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان