ما خبأته خزنة الأنباط في بترا “ثلاثية السياسة و الحرب مع إنديانا جونز”

كان قيام دولة الأنباط في بترا حدثًا حضاريًا مميزًا تزامن تاريخيًا مع وقتٍ كانت الدول الكبرى التي أنشأها الإسكندر المقدوني في ربيع قوتها، وقد كان الظهور النبطي الممثل للحضارة النبطية التي قامت في صحراء النقب والأردن داخل منطقة الشام يضعهم في مكانة عظمى شأنها شأن الإسكندر وحلفاؤه بطليموس في مصر، ونفوذ السلوقيين والبطالمة في الشام، فكان ظهور الأنباط بمثابة ربيعًا جديدًا لدولة عربية كبرى هي دولة الأنباط في بترا.

الثورة اليهودية المكابية

إزاء قيام الثورة اليهودية المكابية على حكام سوريا السلوقيين جنى اليهود ثمارها بحصولهم على استقلالية ونشأت إلى جوار دولة الأنباط دولة جديدة معادية، تحاول التوسع على حسابهم، أو على حساب غيرهم ولكن تضييق الأنباط وشراستهم حالا دون ذلك، وكان للنبطييون الغلبة على المكابيين فى كثير من المعارك الطاحنة التى قامت بينهم.

اقرأ أيضًا 
لغات تحدث بها العرب قبل الإسلام .. بعضها ما زال حيا

بالفعل تأثر الأنباط بغيرهم وأسسوا حضارة راقية الفكر وشهدت دولتهم تطوراً واسعاً بعدما عاشوا فترات طويلة على المشارف الشمالية من الحجاز حيث سلكوا طريقهم من البداوة الى الزراعة والعمارة والنحت والهندسة، واستنباط المياه واستخراج المعادن، وأصبح للنبط في بترا لغتهم وصفاتهم الخاصة وموقعهم التاريخي وأصبح للأنباط العرب هوية ووجود ودولة بلغت أقصى اتساعها وتطورها الجغرافي والسياسي.

من هم العرب الأنباط ؟ وماهى أوضاع دولتهم السياسية

يقول الدكتور علي عفيفي مدير تحرير مجلة رواق التاريخ والتراث لـ “الميزان” إن العرب الأنباط هم جماعة ارتحلت كعادة القبائل العربية وراء منابت العشب، ومصادر الماء إلى شمال شبه الجزيرة العربية، وقد جاء اسمها من شهرتها بمعرفة أماكن وجود الماء وكيفية استنباطه بطريقة الحفر، حيث قاموا بحفر آبار عدة على طريق التجارة بين الجزيرة العربية والشام وعندما استوطنت هذه القبائل حول الآبار التي استنبطتها من باطن الأرض ولذلك أطلق عليهم الأنباط.

يضيف عفيفي أن أول ذكر للأنباط في التاريخ ورد في قائمة أشورية، ترجع إلى عهد آشور بانيبال، مؤرخة بسنة 637 ق. م.، ولم يذكر في تلك القائمة أين موقع سكنهم، وإن كانت المصادر التاريخية تشير إلى اتخاذهم من موقع “البتراء” مكانًا لبناء عاصمة مملكتهم، وتشير الاكتشافات الأثرية بها إلى أنهم اتخذوا لهم معابد وقصور في صخور الجبال المحيطة بوادي البتراء.

الحروب مع اليهود

تعد حروب الأنباط مع اليهود من أهم الحروب التى خاضوها فى تاريخهم وأسفرت عن نتائج مختلفة بين الحرب والهزيمة حيث كشف الكاتب عزام أبو الحمام في كتابه «الأنباط تاريخ وحضارة» أنه خلال التاريخ الطويل للحروب التي دارت بين الأنباط واليهود يبدو أن الغلبة كانت للأنباط في أكثر الوقائع فيما أثار انتصار اليهود فى بعض المعارك الكثير من التساؤلات والشكوك فقد تواجه الطرفان في 8 معارك ضمن خمسة حروب كانت قد نشبت بين الطرفين، تحت حكم خمسة ملوك من ملوك الأنباط وكان النصر حليفا للأنباط في خمس معارك منها.

ويوضح الدكتور عفيفى بأن دولة الأنباط بلغت في عهد الحارث الثاني قوة كبيرة جعلت بعض الدول القريبة تطلب جواره وحمايته، ووقعت الحرب الأولى التي خاضها الأنباط مع اليهود في عهد الملك عبادة الأول، الذي حكم (95- 76ق. م.)، حيث هاجم الملك اليهودي “يهودا” مؤسس الأسرة المكابية القبائل العربية، وحاول التوسع على حساب مناطق السيادة النبطية، وواصل الإسكندر جانيوس سياسة سلفه في محاولة التوسع لكن كليهما لم يستطع توسيع أراضيه على حساب الأنباط الأقوياء .

محاصرة بيت المقدس

على الأغلب استكمل الحارث الثالث الذى شهد عهده انتصارات على القوى العظمى المحيطة ببلاده من السلوقيين والبطالمة، ومن ثم انتصاره على المكابيين اليهود، واستيلاؤه على بيت المقدس ومحاصرته  بعد معركة “أديدا”، بالقرب من اللد، وهو الأمر الذي جعل منه بطلا قوميًا للعرب حيث استمرت الحروب بين الأنباط واليهود المكابيين حتى آخر ملوكهم وهو مالك الثالث، الذي حكم (101-106 م) .

الرقعة الجغرافية النبطية وأهم مواقعها

يقول الكاتب إحسان عباس في بحث مطولة بعنوان تاريخ دولة الأنباط “كان اتساع دولة الأنباط فى معظمه سياسى وشمل عدة موانى على ساحل البحر المتوسط، وجرى اتساع الأنباط فى المنطقة الساحلية عند العقبة أما الإمتداد جنوباً فقد وصل الى الحوراء وتبماء والحجر فى الداخل من أجل المصالح الإقتصادية”.

اقرأ أيضًا 
قصة العربان في تاريخ مصر .. كلمة سر القلاقل

لهذا كله نرى من الراجح أنهم استولوا بعد تأمين المنطقة الساحلية، على المنطقة الجنوبية مما يسمى اليوم شرق الأردن، إذ كانت امتداداً طبيعياً للمنطقة التي تسمى بالأيدومية والتي جعلوها نواة من أجل بنيتهم الجغرافية وأن عمق الوجود النبطى فى هذه المنطقة بالنسبة لما هو واقع فى شماليها وغربيها ليدل على أنهم أنفقوا وقتًا فى تركيز تلك الوجود، ومد جذوره وقد استطاع الأنباط أن يمدوا سيطرتهم السياسية على منطقة يمثل أقصى حدها الشمالي خط يمتد بين صلخد وبصرى وقد أنشأوا سلسلة من القلاع موازية على طول الخط الشرقى

البتراء عاصمة لحضارة الأنباط المتأثرة بجيرانها

إقرأ أيضا

“غرائب احتفالات عيد الفطر زمان في مصر” الرحلات النيلية جريمة وخروج النساء ممنوع

واختتم الدكتور على عفيفى حديثه مؤكدًا  تأثر حضارة البتراء بالمحيط الحضاري المجاور لها، فهي حضارة عربية في لغتها، وآرامية في كتاباتها، ويونانية في عبادتها، وسامية في عقاد ديانتها، ورومانية في فنها وهندستها المعمارية، ولعل نظرة على أسماء ملوك تلك المملكة كالحارث، عبادة، مالك، قصي، تؤكد على عروبتها.

لعل هذا ما جعل فريق من الباحثين يُرجح أن الخط العربي ما هو إلا نتاج تطور عن الخط النبطي، المنحدر عن الخط الآرامي، ويستشهدون على ذلك من تقليد العرب النبط في حذف الألف من بين بعض الأسماء والأعلام، كما أنهم احتفظوا بنفس عدد الحروف النبطية، ونفس تركيبها الأبجدي، ويستدلون على صدق توجههم بالنقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام، والقرن الهجري الأول، ومن هذه النقوش نقش “أم الجمال” وهو عبارة عن شاهد قبر للقائد “فهر بن سالي”، ويعود تاريخه إلى 250م، وهناك نقش وجد في منطقة حوران إحدى ديار الأنباط يعود تاريخه إلى 328م، يُعرف باسم نقش “النمارة” وهو عبارة عن شاهد قبر “امرؤ القيس” الملك والشاعر الشهير، ثم انتقل الخط من حوران إلى الأنبار والحيرة، وقام الأنباط بإجراء بعض التعديلات على الخط الآرامي، الذي نُسب إليهم فعُرف بالخط النبطي، ثم كان لهم الفضل في نقله إلى العرب في الحجاز؛ نظرًا لعلاقاتهم التجارية الوثيقة مع الجزيرة العربية

مدير البتراء لـ الميزان: هذه حكاية الخزنة

أما عن الخزنة وهو المبنى الذى يحوى فى داخله أسرار الأنباط يروى الباحث والكاتب فى الشؤون النبطية مأمون النوافلة لـ”الميزان”  أن الأنباط  كان لهم، الفضل في تأسيس المملكة ورفع مكانتها وبالتالي سميت تيمنا بهم، كما أن العاصمة التي شيدت بناء على حسابات علمية رياضية ولذلك سميت بالرقيم أي مدينة الحسابات الرقمية.

ويحوي مبنى الخزنة عدد كبير من الدلالات ذات البعد العلمي، والتي تؤكد على تقدم الأنباط وتوسعهم في الدراسة العلمية كالفلك والهندسة، والتقويم السنوي وهذا ما يؤكد على امتلاكهم لمراكز بحثية وأدوات حسابية دقيقة.

ويكشف النوافلة تمكن الأنباط من ابتكار عدد من الأدوات العلمية، الهامة كآلة الكمال الحسابية التي استخدمت في قياس المسافات الأفقية وآلة البوصلة للتعرف على الإتجاهات والساعات الشمسية والمائية وغيرها الكثير من الأدوات التي لا زالت مستخدمة إلى يومنا هذا، كما قاموا بإجراء دراسات واسعة لمختلف الظواهر الفلكية التي لا تزال التوثيقات النبطية لها متاحة للمشاهد في الموقع الأثري فى الأردن .

واختتم النوافلة حديثه قائلًا: “تعتبر البتراء مكانا مناسباً ومقصداً هاماً، لتصوير الأفلام الهوليودية وبالفعل تم تصوير افلاماً عدة شهدت نجاحًا ساحقًا  كـ إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة و عودة المومياء والصراع المميت”وغيرها وهذا ما تتبناه هيئة تنشيط السياحة مستقبلا لإطلاق ملتقى البتراء العالمي لصناعة الأفلام”.