
مدفع رمضان.. صورة مصر على طبيعتها

-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما زلت على موقفي من فكرة برنامج مدفع رمضان، لكن متابعتي للحلقات دفعتني إلى التوقف طويلًا أمام مشاهد لا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد لحظات عابرة من الترفيه، بل أقرب إلى شذرات توثيقية توثق الواقع المصري في أدق تفاصيله. وإن كان ثمة من يدّعي أن البرنامج مُعدّ سلفًا، فلابد أن كتّابه من أمهر من التقطوا روح الشارع المصري، فالمشاهد تنبض بالحياة، وتتدفق بعفوية تخلو من أي افتعال.
مشهد توثيقي نقي
من بين المشاهد التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، كان مشهد لقاء محمد رمضان بذلك الفلاح البسيط في حلقة الثاني عشر من رمضان. رجل من الريف، بملابسه التي تعكس أصالة المكان، وملامحه التي تنطق بانتمائه لأرضه، حتى منطقه الصادق حين طلب استلام الجائزة وسط أهله، خشية أن تكون مجرد سراب، فكان تجسيدًا حقيقيًا للفطرة الريفية التي لا تنساق خلف البهرجة، بل تطمئن بين أهلها. انتشر هذا المشهد على نطاق واسع، متجاوزًا في تأثيره معظم ما قُدّم في دراما هذا الموسم، ليس فقط لكونه مضحكًا، ولكن لأنه يعبّر عن وعي جمعي مشترك.
لم يكن المشهد مجرد لقطة كوميدية، بل لوحة بصرية متكاملة: رجل بسيط، ممتطيًا حماره كأنه ملك زمانه، يسير خلفه طاقم تصوير كامل، في صورة تجمع بين العبث والرمزية. ثم تأتي لفتته التلقائية حين قدّم زوجته قائلاً: “دي الست بتاعتي”، وهي عبارة تُقال في الريف بحب وتقدير، تُكرّس مكانة الزوجة لا كرفيقة درب فحسب، بل كعمود للبيت، لا ينفصل عن الرجل، بل هو امتداد له. هذه العفوية امتدت إلى ملامح زوجته، بزيّها البسيط النظيف، وهيئتها التي تعكس الفلكلور الريفي دون تصنّع، وحين استلمت الجائزة، لم تفكر إلا في شراء عجل لتوزيعه على الفقراء، كما هو دأب أهل الريف، حيث تُستقبل الخيرات بالكرم، وتُوزع النِعم على الجميع دون تردد.
هذا ليس مجرد “تريند”، بل مشهد وثائقي نقي، يرصد الواقع الريفي في صورته الصافية، قبل أن تشوهه الأعمال الدرامية، التي لم تستطع يومًا أن تلتقط جوهر البساطة كما فعلت هذه اللحظة العابرة.
لم يقتصر برنامج مدفع رمضان على توثيق الريف، بل امتد إلى قلب الشارع المصري بكل تفاصيله، حتى المشاهد التي بدت فكاهية حملت بين طياتها الكثير من المعاني العميقة. عندما سأل محمد رمضان إحدى السيدات عن أمنيتها، وأقر بواقع “نفسك تطلعي عمرة”، لتجيبه بعفوية: “أنا مسيحية”، ويستمر الحوار دون حواجز أو حواجز مصطنعة، وكأن هذا التنوع لم يكن يومًا موضع تساؤل، بل هو نسيج الحياة المصرية المتشابك، حيث المسلم والمسيحي يتشاركان تفاصيل المعيشة ذاتها، دون أن يكون الاختلاف الديني أكثر من تفصيلة هامشية في نهر الحياة اليومية.
ومن المشاهد التي أفرزت عبقرية التوثيق دون قصد، تلك اللحظة التي نزل فيها رمضان إلى العمال في السقالات، رجال يلتهمهم التعب، قادمون من أقاصي الصعيد إلى قلب المدن، بحثًا عن لقمة عيش قد لا تكفي، لكنها تدفع الحياة إلى الأمام. هذه الفئة، التي نادرًا ما تُرى أو يُحتفى بها، وجدت نفسها فجأة أمام عدسة كاميرا ترصد كفاحها، لا كديكور هامشي، بل كأبطال حقيقيين في معركة البقاء.
أما العبث الحقيقي، فكان حاضرًا في تلك المكالمة الهاتفية، عندما اتصل رمضان برقم عشوائي، فردّت فتاة، وما إن أخبرها باسمه حتى أغلقت الخط فورًا. قد يبدو المشهد عابرًا، لكن وراءه دلالات ثقافية لا تخطئها عين. في مجتمع تحكمه الأعراف، لا تزال هناك فتيات يعتبرن الحديث مع رجل مجهول عبر الهاتف أمرًا مرفوضًا، رغم عالم السوشيال ميديا الذي أزال الحواجز بين الجميع. هنا، تسقط التصورات النمطية، ويظهر الوجه الحقيقي للمجتمع، حيث تتجاور العادات القديمة والتغييرات الحديثة في نسيج واحد.
ومن المشاهد التي جمعت بين الكوميديا والتوثيق، تلك اللحظة التي اتصل فيها رمضان برجلاً صعيديًا، عرض عليه المال، لكنه لم يأبه، بل قال ببساطة: “أنا عايز أنام”. أمام مشقة الحياة، لم تعد المادة مغرية، بل الراحة وحدها باتت الحلم. هذه الفكرة، التي تبدو ساخرة، هي في جوهرها مرآة لحقيقة يعيشها كثيرون، حيث يصبح النوم رفاهية نادرة، يتوق إليها من يقضون يومهم في صراع دائم مع الحياة.
هذه المشاهد، التي تعامل معها البعض على أنها مجرد فقرات مضحكة، تكشف عن كون البرنامج، دون قصد، مادة وثائقية حيّة، تعكس تفاصيل المجتمع المصري بكل تناقضاته. حتى المقدمة البصرية للبرنامج (الانترو) لم تكن مجرد استعراض، بل لوحة بصرية نابضة بالحياة المصرية، ألوانها وتفاصيلها تنطق بملامح الشارع والناس. من هنا، لا بد من تحية خاصة لمن أبدعوا هذا الانترو، فقد نجحوا في تلخيص مصر في ثوانٍ معدودة، بمنتهى البراعة.
قد يختلف الكثيرون حول فكرة برنامج مدفع رمضان، وقد يبقى الجدل قائمًا حول مدى تلقائيته، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه قدّم لنا مشاهد خام، تصلح لأن تكون مرجعًا بصريًا لمن يريد دراسة المجتمع المصري بعيون صادقة. نحن لا نعمل في الصحافة والتوثيق لنصنع القصص، بل لنرصدها، ونحفظها كما هي، دون رتوش، ودون تزييف. وإذا كان هذا البرنامج قد فعل شيئًا واحدًا بإتقان، فهو أنه رفع الغطاء عن مشاهد نراها كل يوم، لكننا لم نتوقف أمامها طويلًا من قبل.
اقرأ أيضًا : قلبي ومفتاحه .. تطويع مبدع لمواقع التصوير الحية في قلب القاهرة
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟







