هكتب جواب .. وما تبقى لنا من مسيرة محمد ثروت
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
عندما نلقي الضوء على فترة الثمانينات الموسيقية تتنازع عدة أطراف حول تسميتها أو وضع عنوان عريض لها، الغالبية ترى أنها فترة رواج على مستوى الإنتاج التجاري وشهدت تطورات عديدة في شكل الموسيقى تبعها تدشين مصطلحات جديدة لشكل الأغنية فتلك بديلة وأخرى شبابية ومن وجهة نظر الحرس الكلاسيكي القديم فهي فترة اضمحلال واضطراب فني مثل البحر الهائج الذي ابتلع جوفه الغناء الطربي الأصيل.
في ظل انشغال الحرس القديم في الحروب الكلامية ومطاردة جيل الأغنية الشبابية، كان عمار الشريعي المحسوب على المدرسة الكلاسيكية يبني مجدًا فنيًا ويرد على تلك الموجة الجديدة بطريقته الخاصة في مضمار الدراما التليفزيونية، حيث تمكن من صنع تترات وأغنيات درامية سطرت تاريخًا مبهرًا في الدراما المصرية ووضعت أقطاب الحرس القديم في مأزق التنظير والمزايدة على الأجيال الجديدة.
كون عمار ثنائية مدهشة مع الكبيران “سيد حجاب” و”عبد الرحمن الأبنودي” عبر سلسلة طويلة من الأعمال الدرامية التي خلدت في تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة،لا يمكن التأكيد على تدخل عمار بصفة شخصية في اختيار مطرب العمل بالأخص في الأعمال التي تتطلب دور مطربًا، لكن على كل حال كانت الدراما بمثابة ملاذًا فنيًا لبعض مطربي جيل الوسط وبعض المحسوبين على تيار المدرسة الكلاسيكية في الظهور كأبطال للعمل الدرامي أو كمؤديين للتترات التي وضع موسيقاها عمار الشريعي.
في وسط هذا الزخم المتتالي من التترات و الأغاني الدرامية التي صنعها عمار الشريعي برزت عدة أعمال بشكل جعلها تحصد شهرة فاقت شهرة العمل الدرامي نفسه بل قد لا يتذكر البعض أنها صنعت خصيصًا في موقف درامي في مسلسل ومنها أغنية “هكتب جواب” التي غناها المطرب “محمد ثروت” بطل مسلسل “الكهف والوهم والحب” الذي عرض في منتصف عام 1989.
تثبت أغنية “هكتب جواب” مقدرة عظيمة للثلاثي “عمار- الأبنودي – ثروت” على إنتاج أغنية كلاسيكية تعيش وتبقى في ذاكرة الجمهور في فترة كان المزاج العام متجه نحو الأغنية الشبابية، وبرغم أنها المفترض خلدت في عمل درامي إلا أن مسلسل “الكهف والوهم والحب” لا يعاد عرضه كثيرًا بل وقد لا يتذكره أحد لذا خرجت الأغنية من سياقها الدرامي وأصبحت من كلاسيكيات محمد ثروت التي يعرفها الجمهور جيدًا.
أحداث المسلسل تدور في مجتمع ما قبل وبعد ثورة يوليو ويمكن تلك الفترة كان لها تأثير على صناعة الأغاني الداخلية في المسلسل، الأغنية كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي يمتلك باعًا طويلًا في كتابة الأغاني بالإضافة إلى امتلاكه مدرسة خاصة في الشعر العامي المصري، يبرع الأبنودي في صياغة الأغاني العاطفية ببساطة لا تخلو من الصور الجمالية المتداخل معها بعض المفردات الفلكلورية أو الكلاسيكية، يعرف كيف يصنع أغنية يحافظ بها على خصوصية كتاباته وفي نفس الوقت لا تسيطر على اجوائها بيئة معينة وهو ما ظهر في تلك الأغنية التي غزل مفرداتها ببساطة ودون تكلف أو تلاعب بالألفاظ والإفراط في المحسنات البديعية أغنية عاطفية بسيطة يرسل فيها الحبيب جواب يحاول به استمالة قلب محبوبته في صياغة بديعة جدًا وكأنه بالبلدي “سايب ايده”.
أغنيات في الذاكرة : دمعتين محمد فؤاد .. كيف تخطط لصناعة أغنية خالدة
أما الداهية عمار ويأخذنا إلى زمن الغناء الحقيقي وليس الجميل، زمن كانت فيه الاغنية عبارة عن كلمة جيدة وجمل موسيقية دسمة، يتحرك بأريحية بين المقامات الموسيقية ينهل من الفلكلور ويطوعة داخل أفكاره الشخصية، الأغنية ظهرت في مشهد يجلس فيه ثروت تحت شجرة يغني خلف عود الملحن يقوم بدوره الممثل رأفت فهيم، ليبدأ في الغناء بمصاحبة العود فقط ودون توزيع موسيقي نهائيًا.
يبدأ اللحن بجملة موسيقية بسيطة إيقاعية من العود تحمل طربًا على مقام الراست تسلم الغناء إلي ثروت الذي يغني من نفس المقام “هكتب جواب لحبيبي واقوله – والله ما كان على بالي ده كله” ثم يمارس عمار الاعيبه اللحنية بالانتقال إلي مقام سوزدلارا وهو من عائلة مقام الراست في مقطع “جواب يجنن بكلام يحنن قلب الحبيب قبل ما يوصل له”، يأخذنا الكلام إلي مقطع “الليل كأنه باب مقفول – وانا وراه سهران على طول – أحلم لوحدي وأحزن لوحدي ” هذا المقطع العاطفي الشجي نقل معه عمار الأجواء إلي مقام النهاوند العاطفي جدًا حتى يعود أخيرًا إلي الراست المقام الرئيسي في المقطع الأخير “وكل ما الليل قرب يرحل صورتك تخلي الليل بيطول ماهو مش معقول علشان ده قلت خلاص هكتب له” ثم يعاد المقطع الأول من الأغنية.
أداء ثروت كان على مستوى الأغنية تمامًا، رصانة وتماسك وأحساس بكل جمل اللحن وانتقالاته لمطرب ظلم نفسه كثيرًا في البداية بالدخول في كنف الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ثم انطلق بعدها ليتحرر قليلًا من فلك المدرسة الكلاسيكية لكنه لم يصمد أمام التجارب الموسيقية الجديدة ثم حصر نفسه في الأغاني الوطنية المسلوقة حتى التصق اسمه لدى الجمهور بمطرب مناسبات نظام مبارك لكن اختفت تلك الأغاني سريعًا وظلت “هكتب جواب” هي ما تبقى لنا من مسيرة المطرب الكبير “محمد ثروت”.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال