الأقارب والأطباء والخادم والأدباء يروون لحظات وفاة عباس العقاد الأخيرة
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
شهدت الأيام الأخيرة في حياة عباس العقاد، أحداثًا درامية، يروي أنيس منصور واقعة انتحار فتاة إثر وفاة “العقاد”، يقول:”وعلى السلالم تعثرت سيدة قد ارتدت الملابس السوداء وتبكي وتلطم خديها، وتمسح وجهها في عتبات السلالم، وتدق الباب الذي أغلق وتقول: لابد أن أراه، انتهت الدنيا، لا دنيا بعده، لا حياة ولا موت، يا خسارة، يا رحمتك يارب، أين هو..أراه؟”.
انتحار
فتحوا الباب للسيدة “فوزية” وأدخلوها عليه وراحت تتمرغ في الأرض، وتخرج الأحذية من تحت السرير، وتضعها على رأسها، وتقل: يا أرحم الناس، من الذي يعالجني في إنجلترا مرة أخرى؟ يا ليت ساقي قد انقطعت، يا ليت عمري كان الله قد أخذه وأعطاه لك، ما فائدة العمر بعدك، ألف رحمة، الجنة لك، يا عباس يا عظيم، يا سيد الناس.
أخرجوا السيدة “فوزية”، لكنها عادت وفي يدها شقيتها “بدرية” في السابعة عشرة من عمرها، دخلت “بدرية” وانكفأت على الأرض تلعق التراب تحت قدميه، ثم تلعق أحذيته، ثم تكشف عن قدميه وتقبلها وتصرخ: أين أنت يا بابا، أين ذهبت؟ ثم هجمت على الزجاجات التي كان يتعاطاها وراحت تصبها في حلقها وراحت تبتلع كل الحبوب، ومزقت ملابسها وشعرها، وألق بحذائها النافذة، ونزعت من الشماعة بيجامة “العقاد”، وراحت تلف نفسها بها، ثم أمسكت الحذاء له ووضعت في قدميها، واندفعت من الباب إلى السلم تتدحرج عليه وينزف الدم من رأسها، ثم تختفي”.
انتحرت الفتاة “بدرية” التي قالت إنها ابنة الأديب الراحل.
بعد ثلاثين عامًا من واقعة انتحار الفتاة ونشر المجلات الأسبوعية صور عن هذه القصة، تحدث الدكتور عبد اللطيف عبد الرحيم رئيس جمعية العقاد الأدبية، وأكد أن الفتاة كان يتبناها عباس العقاد، منذ أن كان عمرها 8 أشهر، وكان يسعده أن تناديه “بابا”.
الأديب رشدي صالح، حكى أن عباس العقاد وهو في سن السبعين، رغم حاجته الصحية كان يرفض الذهاب للمستشفى إيمانًا بأنه يعرف من أسرار جسمه ومرضه أكثر مما يعرف الأطباء، بل كان كثيرًا ما يناقش هؤلاء الأطباء في نصائحهم إليه، وظل معاندًا إلى قبل ساعات رحيله الأخيرة.
عناد
كما رفض أن يعرف أنه مصاب بجانب مرض “المصران”، بأمراض القلب والشريان التاجي، بل وأيضًا بسرطان القولون.
كانت من الدوافع التي وقفت حائلًا أمام اعتراف “العقاد” بأمراضه بأنه وهو في سن الشيخوخة، أن يظهر أمام تلامذته ضعيفًا.
في فبراير 1964 نشرت جريدة الأهرام تقريرًا عن حالة الأديب الراحل الصحية، تقول:”فجأة امتنع عملاق الأدب العربي، 75 عامًا، عن الاطلاع والقراءة منذ 3 أيام عقب أزمة صحية شديدة ألمت به، فأرقدته فراش بيته بمصر الجديدة، وقد تحسنت صحته نسبيًا، والدكتور جمال بحيري سوف يعاوده اليوم”.
ونشرت جريدة الأهرام نقلًا عن تقارير الأطباء، تقول :” في عتمة ما بعد منتصف ليلة ثاني أيام العيد وأثناء نوم الأديب الكبير، استيقظ على آلام مبرحة اجتاحت جسده إثر تقلص شديد أصيب به فجأة مصرانه الغليظ”.
ومع ضوء الفجر أسعفه الأطباء، الدكتور محمد ياسين عليان، موسى إبراهيم جمال، ولأول مرة يقبل الأديب الراحل أن يعطي له الطبيب قرصًا مخدر لتخفيف آلامه، إذ كان يرفضها طوال حياته خاصة عندما انتابته هذه الأزمة مرتين من قبل، وكان السبب أيضًا هو مصرانه الغليظ.
كانت المرة الأولى عندما علم بمصرع “النقراشي”، وداهمته الثانية عند وفاة شقيقته، وجاءته الثالثة إثر الإرهاق، عندما بدأ “العقاد” يكتب مذكراته ومعها تاريخ مصر سياسيًا واجتماعيًا وأدبيًا.
وروى أنيس منصور، حالة عملاق الأدب العربي الصحية، يقول، أنه خرج من عند عباس العقاد، ليجد الدكتور ياسين عليان يصر على ضرورة أن يأخذ الأديب الراحل حقنة شرجية، وصرخ قائلًا: إذا لم يفعل ذلك فسوف يصاب بتسمم ويموت، لابد أن يقال له ذلك، إذا لم تسمعوا كلامي، فلماذا أتيتم بي إلى هنا؟ فدخل “عليان”، وأخبره “العقاد”: يا يأستاذ لابد من حقنة شرجية، لابد.
وافق الأستاذ، ورفض أن يكون معه في الغرفة أحد، ورفض أن يدخل ابن أخيه عامر العقاد أو أي أحد، وأغلق الباب على الأستاذ، ولم يسمع أحد بوضوح ما قاله من لعنات وصيحات.
توالي الأطباء على حالة الأستاذ الصحية، راح يصف لهم مرضه بالمصران الغليظ، وأنه قرأ عنه كل شيء عن “المصارين”، لكنهم كانوا حريصين على إجراء الكشف عليه، ربما يكون مصابًا بمرض آخر، فكان يقبل مرة، ولا يقبل مرات أخرى، فهو يعرف مقدمًا ما سيقوله الطبيب، حسبما نشر أنيس منصور في جريدة الأخبار.
خشي الأطباء من أن يكون الأطباء مصابًا بالسرطان، في الوقت الذي كان يعالج نفسه من المصران الغليظ، لكنه كان يعاني من شيء في القلب، من جلطة دموية، وهي التي أدوت بحياته.
وقال عامر العقاد، أن “عباس” طلب منه أن يقرأ صفحة الوفيات في الأهرام، ليعرف له كم عدد الذكور والإناث، فرد”عامر”: ماتت امرأة واحدة، فضحك قائلًا: واحدة، إن هذا كثير، منذ أسبوعين قرأت الوفيات فلم أجد إلا رجالًا، ثم طلب الأديب الراحل، أن يعرف نوعيات الذين ماتوا، لم يفهم “عامر”، فشرح “عباس”، كم عدد المهندسين والأطباء؟ وكم عدد الفلاحين؟ وكم عدد التجار؟.
وفي اللحظات الأخيرة من حياة الأستاذ، التي وصفها أنيس منصور، استيقظ في الثانية صباحًا، وذهب حافيًا إلى دورة المياه، وهي أول مرة كان قادرًا فيها على النهوض دون مساعدة، وأن يقف مستعينًا بالجدران، وأن يذهب إلى المخدة، ثم جلس على المقعد المجاور إلى السرير.
وحاول أن ينادي أحدا، ولكنه لم يستطع أو لم يرد ذلك، ومدد ساقاه تحت السرير ووضع يده على جانبه الأيسر، ومال بكل جسمه إلى اليسار، وارتطمت يده ببعض الزجاجات فسقطت، فسمع أهله وأبناء أخيه ذلك، فسارعوا إليه واقتربوا منه، ولم يجرؤ أحد على لمسه، وتقدم عامر العقاد، ولأول مرة في حياته كان يلمس “عباس” ويمسك يده.
وجد “عامر” قلب الأستاذ يدق ببطء شديد، فطلب بالهاتف الدكتور “عليان” الذي أشار إليه بأن يعطيه كورامين، وكانت المرة الأولى في حياة “العقاد” أن يقترب منه أكثر أو أن يلمس ذراعه أو عنقه، أو رأسه ويقدم له الدواء وهو يرتجف، فهو يخشى إذا استيقظ الأستاذ فيغضب من ذلك.
جاء الدكتور “عليان” بعدها بدقائق، ومد يده لجس النبض، فخرج يبكي: البقاء لله.
ويصف الدكتور ياسين عليان طبيب الأستاذ الخاص، يقول أنه سافر إلى أسوان كعادته كل عام في فصل الشتاء، لكنه لم يقض سوى أسبوع واحد فقط، وعاد في حالة نفسية شديدة السوء، فسأله “عليان” عن السبب فقال: لقد عدت حزينًا، لأني سافرت لأستمتع بالشمس في أسوان، فإذا بي أفاجىء بأنه يبنون منزلًا جديدًا يقابل منزلي فحجب الشمس عني.
ورغم أن الأديب عباس العقاد كان يشكو من مرض القلب إلى جانب المصران الغليظ، رفض أن يذهب للمستشفى ليجري له الدكتور محمد عطية رسما للقلب، ولم يتسطع صديقه الأديب طاهر الجبلاوي إقناعه أيضًا، ورد عليه: إذا كنت سأموت، فلن أموت إلا هنا في منزلي وعلى فراشي وبين كتبي.
اللحظات الأخيرة
أما عبد العزيز الشريف ابن خالة الأديب الرحل، وصف اللحظات الأخيرة، يقول، أن آخر كتابين طالعهما، “في أعقاب الثورة المصرية” تأليف عبد الرحمن الرافعي، وتوقف عند الصفحة “55”، والتي تحمل عنوانين: “الأزمة الدستورية وإقالة الوزارة، أما الكتاب الثاني”شعر من المهجر” تأليف محمد قرة، ولم يكن يقرأ صفحاته بطريقة منتظمة، وبين صفحات الكتابين كتب على ورقتين منفصلتين بالحبر الأسود الداكن ملاحظاته.
يصف “عبد العزيز” المشهد الأخير قائلًا:”نظرت إلى وجه العقاد، وكانوا في هذه اللحظات يحنطون جسده، ولأول مرة ألمح الهدوء يكسو وجهه برغم ذقنه الطويلة، ساقاه ممدودتان وقد علتهما الصفرة الشديدة، وراح الطبيب يحقنه في ذراعه، ونظرت إلى وجهه مرة أخرى، وجدته يشير برأسه إلى الأمام وبالذات إلى حائط الصالة التي كان يرقد فيها والتي لم يكن معلق عليها غير صورتين، الأولى للإمام الشيخ محمد عبده، والثانية لجمال الدين الأفغاني، وكأنهما يبادلانه نفس النظرات.
وكما جاء في كتاب “الأيام الأخيرة لهؤلاء”، أن حمزة خادم وطباخ “العقاد”، قال، أنه أعد للأستاذ أخر وجبه تناولها، وكانت من طبق به كفتة، صنعها بالماء وطبق من جيلي التفاح، وليلة الوفاة، أخبر “حمزة” الأديب الراحل، أنه يبدو عليه التعب، ولابد أن يرتاح في سريره، فرفض “العقاد”: أنت غلطان، فأنا أشعر بتحسن في صحتي، وغدًا ستجدني سليما جدًا.
غادر “حمزة” الغرفة لينام في غرفته فوق السطح، على أن يعود باكرًا كما نبه عليه الأستاذ، وكما تعود خلال الـ25 سنة، لكي يقدم له الشاي، وفي الصباح الباكر نزل “حمزة” إلى الغرفة كعادته، وكانت هي المرة الأولى التي يخلف فيها عباس العقاد وعده.
يوم الوفاة قطعت إذاعة القاهرة برنامجها في الساعة الثالثة فجرًا، وأذاعت النبأ العاجل، وكانت الإذاعة لحظتها تذيع نتائج الانتخابات.
كما قام الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام آنذاك بزيارة عاجلة لمنزل الرئيس جمال عبد الناصر ليبلغه بخبر الوفاة، وفي خارج مصر دقت الكنيسة الفرنسية أجراسها في الخامسة من عصر اليوم للاحق للوفاة، كما شيعت جنازته في موكب وفي مظاهرة تقدمها 15 باقة زهور ومجموعة كبيرة من تلاميذه.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال