أتحبون برامز؟
-
رؤوف رشدي
كاتب صحفي وطبيب مصري
وأنا صغير، بينما كان أبي يجلس في غرفة مكتبه مستغرقًا في القراءة، كنت غالبًا أُتسلى بألعاب عفوية، مثل ملاحظة صوت مرور أصابعي على حواف الكتب الواقفة رأسيًا في رفوف المكتبة التي يطالها قوامي القصير. كانت المتعة الإيقاعية تنبعث من الصوت الواهن الذي تحدثه أصابعي الصغيرة، مع يقين ساذج أن هذه اللمسات السحرية السريعة سوف تنقل محتوى كل هذه الكتب إلى خلايا مخي.
وكانت هذه الخلايا مشغولة دائمًا باختراع ألعاب عظيمة كل ساعة لا تقل سخافة عن لعبة ملامسة حواف الكتب، مثل تحاشي بلاطة ووطء بلاطة أثناء تجوالي في الشقة كنوع من التمرين على المشي فوق القمر، أو عد عواميد النور والشجر أثناء السفر إلى رأس البر وقت المصيف للتأكد من أن هناك أرقامًا أكبر من رقم مائة!
نعود إلى غرفة المكتب… وقد بدأت أستطيع القراءة مبكرًا بالعربية والإنجليزية والفرنسية، ولكن بعد محاولات مضنية في التهجي.
كان هناك دائمًا كتاب بارز ذو غلاف حاد يؤلم أصابعي أثناء لعبتي السخيفة، وذات يوم، توقفت محاولًا قراءة ما كتب على حافته، مائلًا برأسي بزاوية قائمة لأتجه إلى أمي.
فاجأني صوت أبي من خلفي: Aimez-vous Brahms?
فعدلت رأسي مستفهمًا، فعقب بالعربية:
أتحبين برامز… ثم قال: إنها فرانسواز ساجان، حين تكبرين وتجدين الفرنسية قد يعجبك أسلوبها.
في الحقيقة لم أستوعب من كلماته شيئًا واضحًا محددًا، ولكن استقر في مخيلتي لسنوات بعد ذلك أن هذه المرأة الفرنسية ذات الشعر القصير جدًا كالولد والتي تدخن أيضًا كالولد قد وقعت في غرام شخص يدعى برامز.
مرت السنون، حملتنا الشواديف من هدأة النهر كما يقول عمنا أمل دنقل، وألقت بنا بأرض الغرابة نتفرق بين حياض الأسي وحياض الصبابة..
وقرأت كل إنتاج ساجان، واكتشفت بالطبع أن الكتاب رواية فرنسية شهيرة، وأن برامز هو مؤلف موسيقي شهير.
في الأمسيات الشتوية، وأنا مستلقي أقرأ على الآيباد في سريري حينما يمل ولدي (طالب كلية طب الأسنان) من معاركه مع كتبه وأدواته في غرفته، ويقوم إلى البيانو في الصالة ليغسل روحه المتعبة، تنساب إلى سريري نغمات برامز عبر الجدران لأتذكر أبي ولعبة لمس حواف الكتب بالأصابع، وهذه المرأة الفرنسية ذات الشعر القصير كالولد والتي تدخن السجائر كالولد.
الكاتب
-
رؤوف رشدي
كاتب صحفي وطبيب مصري