“أتوبيس” الرضا
قد يمن الله عليك برسائل وإشارات غير مباشرة تحتاج منك بعض الفطنة لتفهمها وتسقطها على نفسك وحالك، فتتغير نظرتك للحياة بشكل جذري، وهذا ما حدث في أتوبيس الرضا.
في صباح يوم يميل للبرودة بعض الشيء، وكعادة الطبيعة البشرية فقد أصابني شعور بالفتور والجزع من الحياة، حيث لا جديد، تسير الحياة بشكل روتيني كما هي، نسعى فيها سعيًا دؤوبًا فأحيانًا تكافئنا، لكن أحيانًا كثيرة أخرى تميل بنا فنفقد كل شيء حتى نكاد نخسر شغفنا بها.
إشاراتٌ تهطل لتكون عبرة
برفقة الجزع والذهن الشارد، اصطحبت والدتي لقضاء بعض متطلبات الحياة، ولحسن الحظ قررنا حينها الاندماج مع فئات المجتمع، والاستغناء عن رفاهيات عربات الأجرة في ظل الظروف الاقتصادية التي لا تخفى على أحد، فركبنا “أتوبيس” النقل العام، لتتوالى الإشارات والرسائل فتأت أول إشارة نور في دقائق معدودة حيث يقف السائق لإمراة سبعينية أشارت له بالوقوف لتتمكن من الصعود، لكنها وجدت صعوبة في ذلك بحكم عمرها، فقد خط الزمن بقلمه على وجهها ويديها، تجاعيد تنبؤ عن حقبة عُمرٍ صارعت فيها أهوال حياة قاسية، حتى وهن جسدها فأصبح لا يقوى على برودة الهواء الخفيفة، فهي ترتدي العديد من الملابس الثقيلة تظهر طبقاتها من عروة جلبابها الغامق البسيط.
قام أحد الشبان الموجودين داخل”الأتوبيس” بمساعدتها على الصعود، فتعلقت بيده بإحدى يديها، وتتكأ بالأخرى على العجاز خاصتها الذي يبدو من حالته أنه يرافقها من سنوات منذ أن انحنى ظهرها من أحمال كالجبال نالت من صحتها وباتت تخشى أن تتعرقل أثناء سيرها فجعلت منه سندًا لها حيث لا يرافقها زوج ولا ابن ولا أحد، وبشق الأنفس صعدت فجلست في أقرب مقعد لباب “الأتوبيس”، ويلازمها أنين صدرها إثر السعال الذي يراودها كثيرًا، وبنظرها الضعيف تحاول البحث عن أجرة السائق التي ادخرتها في حقيبتها الصغيرة المخبأة تحت خمارها، تُذكر السائق بمكان نزولها بين الحين والآخر “متنساش يا ابني تنزلني عند المحكمة” خشية أن يفوتها المكان الذي تريد فتتكبد مشقة أكبر.
أرى هذا المشهد وفي أذني صوت أنينها، اتفكر، فأنا منذ بضع دقائق صعدت “الأتوبيس” بسلاسة ولم أشعر بكل هذا العناء وفي وقت لا يُذكر، لولا هذه المرأة لما كان يخطر على بالي كم العافية التي أنعَمُ بها، جسدي لا زال فتيًا، عظمي متينًا، ظهري مستقيمًا، نظري سليمًا، قدامي تحملاني إلى أي مكان دون مساندة أحد، يالها من نعم!
الرضا رغم الابتلاء
لم نلبث كثيرًا إلا وتظهر إشارة نور ثانية، عندما تمهل السائق ليقف عند ” أم المصريين” إحدى أشهر المستشفيات العامة بمصر، فإذا بامرأة قمحية مرتبكة يبدو عليها أثر الإجهاد، معها ولديها المتقاربين في السن، تتراوح أعمارهم بين ٤ و٦ أعوام، لعلك لو تعاملت مع هذه الفئة العمرية فإنك تعلم أنها مرحلة الاكتشاف عند الأطفال فيصيرون أكثر نشاطًا وحركةً وحديثًا، ما يُحدث برؤيتهم حالة من البهجة ويملئون المكان حيوية وضجيجًا، لكن هذه المرأة المسكينة مفتقدة لكل هذه المشاعر، فهي حاملة ولديها على مِنكبيها، مصابون بضمور في المخ، ما يمعنهم من القدرة على المشي مع صعوبات النطق والكلام والتعلُّم والتواصل مع الآخرين، يصحب ذلك عدم الاتزان السلوكي فحركاتهم غير منضبطة بعض الشيء عن غير إرادتهم، برفقتها إمراة لعلها أختها، قريبتها، أو صديقة لها تساعدها في التنقل وحمل مقعد ذوي الاحتياجات الخاصة.
ورغم أنها الأم امرأة ثلاثينية، إلا أن صعودها “الأتوبيس” بهذا الحمل كان أمرًا مستعصيًا، أتذكُرُ الشاب الذي ساعد العجوز منذ قليل!
دعنا نلقبه “ابن البلد”، وهو مصطلح نطلقه على كل شخص يتسم بالمروءة والشهامة والإقدام على مساعدة الناس وعدم الانحراف عن الأصول، فقام هو ذاته من مقعده الذي كان أمامي متطوعًا بحمل أحد الطفلين لتتمكن المرأة من الصعود فيُجلسها مكانه ويظل واقفًا حيث اكتظ “الأتوبيس” بالرُكاب.
مددت ناظريَّ أمامي وإذا بوجهين بريئين ينظران إليَّ بابتسامة ملائكية أخذتني من شرودي في صعوبة المشهد لابتسم وانسَ همومًا شغلت مخيلتي، ثم بدئا اللعب المصحوب بضحك ذا صوت مرتفع وهمهمات صادرة كأنهم يفهمون بعضهم البعض، والكل ناظرٌ إليهم لتتعالى أصوات الرُكاب بالحمد والشكر لله على المعافاة والستر الجميل المرخى عليهم، الأم تشاهد هذا ويعترها حالة عجيبة من الاستمتاع ونظرات الرضا تلمع في عينيها، لوهلة سألت نفسي ماذا لو كنت مكان هذا المثابرة هل كان سيعترني الرضا أم اليأس والقنوط!
لما الجزع الذي يصيبنا بين الحين والآخر.. ألسنا في عافية بفضل الله ونتقلب في ءالآءه التي لا تعد ولا تحصى!
تأمل تصبح أكثر نضجًا
كان يومًا ذا طقس رائع، فتأملت السماء لأرى شمسًا ساطعةً فيلامس دفئها روحي فزادتني ابتهاجًا، لكن نسيت شيئًا مهمًا ذكرتني به إشارة النور الثالثة، فلم أضع في حسباني حين فرَحتُ لرؤية الشمس أن هناك مَنْ يتضرر من أشعتها، فقد صعدت “الأتوبيس” للتو فتاة مهقاء لم تتجاوز العشرين من عمرها، والمهق هو اضطراب يصيب لون البشرة بسبب نقص صبغة الميلانين أو خلل يصيب الخلايا الصبغية المُكونة للميلانين فيُظهر البشرة والشعر بلون فاتح يميل للأبيض الشاحب والعينان بلون أزرق، مما يتسبب ببعض المشاكل في الرؤية وزيادة الحساسية تجاه الضوء والحرارة لذا سُموا بأعداء الشمس، وعند اضطرارهم للخروج في وقت الذروة يتطلب منهم اتباع نصائح وقائية عديدة للاحتماء من أضرار أشعة الشمس عليهم، كتلك الفتاة فهي ترتدي قميصًا ذا لون فاتح كما هو مُوصى به، فصعدت الفتاة ويبدو عليها الإنهاك، باحثةً عن ملاذ ناءٍ عن ضوء الشمس لكنها لم تجد مرادها، وكثيرًا ما عبثت بنظارتها إثر ارتباكها من الانبعاث الحراري من حولها.
أرى حالها متأملة في أقسى مشاكلي عند التعرض لحرارة الشمس، وتذكرت حزني الشديد حين تصاب بشرتي بالغمقان بقدر درجة أو درجتين رغم استخدامي لواقي الشمس، فاستخففت فعلي ليس لتفاهته بل لأني لم أدرك وقع أشعة الشمس الأكثر ضررًا على أناس يعيشون مثلي على هذا الكوكب.
هذا حال كل شيء من حولنا، فقد يكون أمرًا ما عسيرًا من وجهة نظرك لكنه في الحقيقة أبسط بكثير مما تخيلت مقارنةً بحال غيرك، ولعل روتين حياتك الذي تراه مملًا يكون جنةً لمعسر أو مريض أو مبتلى، فتوصلت خلال رحلتي هذه إلى صدق المثل الشعبي “اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته”.