أسامة الشاذلي وإدارة الإبداع في المواقع النوعية “شهادتي عنه من عملي معه”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
- توطئة -
أكتب هذا المقال ليس من دافع الحب الشخصي لأسامة الشاذلي، فهذا مكانه صفحتي الشخصية أو مجالسي الخاصة، إنما أكتبه كـ باحثٍ ومحللٍ لمسيرة شخصٍ أحدث انقلابًا في شكل الكتابة النوعية ولا يعرف الغالبية أنه هو عراب المواقع النوعية في مصر؛ كذلك فإني أكتبه بحكم أني تشرفت وعملت معه عن قرب، ومقالي لا يوثق لتجربة أسامة الشاذلي في موقع الميزان عامًا بعام، وإنما يعرض نقاطًا معينة في طريقة إدارته، لعلها تكون نبراسًا لتلامذته وزملاءه في العمل التحريري.
في البدء .. أسامة الشاذلي مطورًا ومجددًا
لما عرف المصريون طريق الانترنت وقامت المواقع الصحفية بالظهور الالكتروني كانت الأخبار هي سيدة المشهد بلا منازع، لكن سُدَّة المشهد تلك ما بدأت أن يكرهها الناس بفعل الظروف السياسية التي نشأت في مصر خاصةً في السنوات التي تلت ثورتي 2011م و2013م، ويضاف إلى ما سبق أن المواقع الالكترونية كان بيتها جوجل، قبل أن تُطَعَّم بالسوشيال ميديا (الفيس بوك وتويتر)، وبالتالي ملت الناس من الأخبار، أو لنقل لم يكونوا في احتياجٍ لمصدرٍ معين يأخذون منه كل الأخبار.
على إثر ما سبق، صار الاهتمام بالأخبار قليلاً ومشروطًا، وبات الاستقطاب للفن والرياضة هو الشكل الغالب، لكنه في الأخير نخبوي، فليس بالضرورة أن يحب كل الناس الفن أو أن يحب جميع الناس الرياضة، فجاء أسامة الشاذلي بفكرة قديمة جديدة وهي استدعاء الكتابة النوعية.
مهنيًا فإن مصطلح المواقع النوعية معناه مواقع للكتابة الإلكترونية تقدم محتوىً معين ومحدد ومتميز، وهذا النوع من الكتابة ليس جديدًا في تاريخ الصحافة المصرية، فقد نشأت مجلات وجرائد على هذا النسق، مثل مجلات «الجيل، كل شيء والدنيا، مسامرات الجيب»، ولجأت الصحف الورقية اليومية الإخبارية لتخصيص صفحتين فأكثر لهذا النوع من الكتابة، ثم ظهرت جرائد ومجلات نوعية لكنها تخصصية في مجالاتٍ محددة (المرأة، الفن، الرياضة، الدين) إلخ؛ وجميعها فشلت في أن تضاهي مثلاً مجلة العربي الكويتية.
كان هنا أسامة الشاذلي مجددًا ومطورًا في نفس ذات الوقت، فالناس مع كرهها للمواقع الإخبارية بعد 2011م و2013م بدأت تنسى أو لم تعد تعرف أن هناك لونًا من الكتابة اسمه الكتابة النوعية، فظهر موقع اسمه كسرة وأسسه أسامة الشاذلي في مايو سنة 2014م، وحقق في فترة وجيزة انتشارًا وتأثيرًا أثار الانتباه، فالموقع يقدم مادة صحفية غير تقليدية ولا تتأثر بالأحداث الجارية، وتأسس بهدف كسر كافة أشكال النمطية السائدة في العمل الصحفي، ولهذا الهدف استوحى أسامة اسم كسرة، وبسبب النجاح الكبير الذي حققه موقع كسرة قامت المواقع الصحفية الإخبارية بإنشاء مواقع منبثقة منها في مجال الكتابة النوعية.
لست من الذين حضروا العمل في موقع كسرة مع أسامة الشاذلي حتى أقدم شهادةً حية على طريقته في العمل، لكني في اعتقادي أنها لم تتغير وإنما تطورت، وحتى نعرف ملامح طريقته في موقع كسرة فهذا لقاء تلفزيوني مع أسامة الشاذلي على قناة النهار بتاريخ 15 فبراير 2015م يحكي فيه عن كسرة وقد تمت الاستضافة له بعد النجاح الساحق الذي حققه الموقع.
فلسفة أسامة الشاذلي في إدارة العمل الإبداعي
ثمة تناقض قد يبدو على عنوان المقال فـ الإبداع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا يمكن أن يتوائم مع كلمة الإدارة بكل ما تحملها من اشتراطات روتينية قد تقيد العمل الإبداعي؛ لكن عدم التوائم هذا لا ينطبق على فلسفة أسامة الشاذلي في إدارة العمل الإبداعي.
إذا اعتبرنا أن الكتابة فن، فهنا أستذكر مقولةً للفنان نور الشريف لما قال «الفن .. أي فن .. لابد أن يكون له نوتة موسيقية وإلا يبقى نشاز، ميبقاش إبداع بقا، إيه الفرق بين دا (عازف) وبين دا (عازف آخر يعزفان نفس النوتة)؟ روح العازف، لكن هو بيقول النوتة، مش بيرتجل من عنده».
بالتالي فإن أسامة الشاذلي كغيره من الذين يديرون المواقع له نفس النوتة الإدارية من حيث «معدل النشر اليومي، متابعة التقرير الفلاني، تطوير خطة العمل العلاني، اجتماعات مع الكُتَّاب، هيكل تنظيمي» إلخ؛ لكن روح أسامة الشاذلي في العمل كانت مميزة ومتفردة في أمور شتى.
فلسفة التعامل مع المحرر
يمكن أن نعتبر المحرر بالنسبة لأسامة الشاذلي هو ملح الموقع ووتده في نفس ذات الوقت، ولذا فأول ما يسعى له أسامة الشاذلي هو تهيئة كل عناصر المناخ المناسب للمحرر حتى يستطيع أن يبدع، ومن أشكال هذه العناصر أن أسامة كان لا يؤمن بالشيفت الإلزامي للمحرر (8 أو 10 ساعات) كل يوم، وهذا لأن أسامة كان يريد محتوىً (على الرايق) وهذا المحتوى الرايق يمكن أن يستهلك أيامًا في البحث أو المشاهدة، ولأجل هذا لا يؤمن بالشيفت الإلزامي للمحرر.
عدم إيمان أسامة بالشيفت الإلزامي يبدو من ظاهره أنه عنصر جذب لمن نسميهم (النحتجية) وهم طائفة من الكتاب يكتبون أي شيء مستهلك لكن بطريقة (قلب الموضوع)، وهؤلاء لم يعمروا مع أسامة، وذلك لأن العمل مع أسامة أصعب من قدراتهم، فخرجوا معززين، وبعضهم طُرِد شر طردة قبل أن تستشري روح عدم أمانته على الموقع.
وتبدو هنا معضلة وهي أن لو كل الكتاب سيكتبون موضوعات تستهلك أيامًا في البحث والتجهيز، فإن إنتاج الموقع يوميًا وشهريًا سيكون قليلاً، لكن هذه المعضلة كان أسامة يقابلها بشيء آخر وهو أن يقوم المحرر بكتابة موضوعات سهلة التجهيز والتنفيذ لكن في نفس ذات الوقت لها زاوية جديدة ومغايرة إن كانت الفكرة متشابهة مع موقع آخر، وهذا النوع من الأفكار أصعب من الموضوعات التي تستغرق أيامًا في البحث، فأنت مطالب بأن تجمع بين الكم المعقول والكيف الجيد، وهذا أمرًا ليس بالسهل، ولذا فإن أسامة كان يجيد اختيار من يكتب معه.
لا يفرض أسامة الشاذلي أفكارًا على الكاتب المتخصص، إنما يجعله يأتي بأفكارٍ من عندياته تلائم السياسة التحريرية للموقع، وبهذا يضمن أسامة من الكاتب أمرين، أولهما أن يثق الكاتب في نفسه فلا يكون أداة منفذة، وثانيهما أن يطور الكاتب من نفسه، وفي حال تحقيق الأمرين فإن أسامة يرشح أفكارًا للكاتب وفي تلك إفادة للكاتب، كون أن أفكار أسامة تضيف لمن يكتب عنها معلومات ومعارف جديدة.
الفرقاء الرفقاء عند أسامة الشاذلي
ثلاث نوعيات من الكتابة يبدو لا مكان لهم عند أسامة الشاذلي وهم الأخبار، والوقائع الحدثية، والتريند، فهم وأسامة فرقاء لأن أسامة لا يقيم مواقعًا للأخبار، ولا يتبنى في العمل الموضوعات ذات المعرفة الخدمية فهو مثلاً لا يقبل بتصحيف المسلسلات (كتابة الحلقات مفرغة على طريقة ودارت حلقة اليوم حول إلخ إلخ) أو الاكتفاء بنشر بيانات عامة لما يهم الناس مثل المباريات (بث مباشر لمباراة كيت وكيت)، كذلك فهو ليس من الذين يحبون تغطية التريند بالأخبار (شاهد آخر صورة لقتيلة كذا .. أو شاهد صور كذا).
لكن في نفس ذات الوقت هناك أخبار وأحداث هامة تشغل الناس سياسية أو رياضية أو فنية أو اجتماعية، بالتالي تجد أن هؤلاء الفرقاء الثلاثة (الأخبار، الوقائع الحدثية، التريند) رفقاء للعمل مع أسامة والخيط الذي يجمعهم هو الزاوية، فلو أن الكاتب تابع شيئًا ما بطريقة نشر الخبر، لن يُنْشَر له شيء، لكنه لو تناول الحدث بشكل خبري وفيه زاوية سينشره، لانه سيكون موضوعًا خبريًا نوعيًا.
وأضرب مثلاً واحدًا على ذلك لتقريب الصورة (والأمثلة كثيرة) ففي 26 نوفمبر 2020م، ظهرت السيدة انتصار السيسي قرينة رئيس الجمهورية في لقاء تلفزيوني مع الإعلامية إسعاد يونس، وكان لابد أن يتابعها موقع الميزان وذلك لأن ظهورها هو الأول كـ لقاء توك شو، فلو قام موقع الميزان بنشر أخبار اللقاء بنسق قالت السيدة قرينة الرئيس .. أضافت .. أشارت إلخ؛ فلن يكون هناك فرق بين الميزان وغيره، ولو قام موقع الميزان بعمل موضوعات على غرار شاهد إطلالة حرم الرئيس إلخ، فلن يكون إلا موقعًا يحكي في المرئي، فالداخل للموقع لا يحتاجه لكي يعرف ماذا قالت حرم الرئيس وما شكل إطلالاتها، فلقاءها أصلاً مصور، فلن تضيف له شيء.
هنا تكون الزاوية، إذ قام موقع الميزان بعمل مقارنة بين كلام قرينة الرئيس ونظيراتها من زوجات رؤساء مصر السابقين في نفس المحاور التي تكلمت عنها في لقاءها مع إسعاد يونس، وهذا أمر يتطلب قراءة ثقافية ذاتية لمذكرات ولقاءات زوجات الرؤساء وسرعة في التنفيذ.
الميزة العيب في طريقة أسامة الشاذلي
لعل أقسى جزء في شهادتي تلك هو تناولي لعيبٍ ما في طريقة أسامة الشاذلي، وليس تناولي لذلك العيب قدحًا فيه بقدر ما أنها عتاب متأخر، ولا أنتقد في أسامة الشاذلي أنه لم يكن يريح ذهنه في متابعة الموقع جنبًا إلى جنب مع أعباء عمل الأفلام الوثائقية في CMC وجميعهم متزامنون مع متطلبات الحياة الإنسانية، وإن كانت أجازات أسامة قليلة وكان من المفترض أن تكون متوازنة.
لكن العيب الشنيع الذي كنت أراه في طريقة أسامة الشاذلي هو إنسانيته اللامحدودة في التعامل مع من يراهم مبدعين، وتلك الإنسانية ميزة شديدة الرقي وهي سر النجاح أصلاً، لكن آفة هذه الميزة أنها كانت تستنزف من أعصابه في حال إذا ما قوبلت إنسانيته بدون تقدير أو بخيانة أو باشتغالة ممن كان يتصور أنهم مبدعين.
ضريبة هذه الميزة العيب، هي حياة أسامة الشاذلي نفسه، فأسامة الحزين حضوره طاغٍ على أسامة الغاضب، وفي الحالتين الحزن والغضب فإن أعصاب أسامة الشاذلي تتآكل في صمت، فهو ليس من النوع الشكاء البكاء، فقط يكتفي بتجرع كأس مرارة اللاتقدير في صمت ويرسم على وجهه البسمة لمن لا يعرف فجيعته في من وثق بهم وخيبوا ظنه ورجاه.
وإشكالية أسامة العظمى أنه لم يكن ساذجًا، فهو يدرك أن فلان الفلاني لا يستحق ثقته سواءًا في حياته العملية أو حتى الشخصية وكان يعلم أنه يكذب عليه أو يشتغله، كذلك صار علان العلاني على أقل تقدير قد خيب رجاء أسامة وبات قاب قوسين أو أدنى من إحزانه أو إغضابه، ومع ذلك كان أسامة يصبر عليه وفي ظنه أن الزميل/ة سيتداركون تقصيرهم أو يوقفون طوفان اللاضمير الذي يتعاملون به في العمل، وعندما تكون الكارثة على شفا حفرة يلحقها أسامة قبل وقوعها لكن وجعه الداخلي يكون أسبق من يده ولسان حاله؛ وبالتالي كان على أسامة أن لا يكون صبورًا، لأن حزنه يكتمه بداخله مما يجعله يتأثر صحيًا وعصبيًا وهنا مكمن العيب.
إنت كبير !!
أي شخص اقترب من أسامة في إدارة العمل الإبداعي سيتوقع أن يباغته أسامة بعصبية جراء تقصير، ويتصور من عصبيته تلك أنها النهاية، لكن الواقع يثبت أنها بداية الشخص، فعصبية أسامة كانت بهدف تأهيل الشخص لمكان ما أو تخصص ما سيجعله أسامة من مسؤولية ذلك الشخص.
كان أسامة الشاذلي يعزز الكبرياء – بمفهوم الثقة في النفس لا أخذها العزة بالإثم – عند من يعملون معه لما يقع أحدهم في الخطأ أو التقصير ويعاتبه بكلمة «إنت كبير»، وفي نفس ذات الوقت يحب أن يجد التواضع موجودًا في الكاتب لديه أو المشتغل معه، وعلى ذات السياق نفسه يبغض نكران الذات منه، توليفة مركبة ومعقدة ينبغي أن تكون في الشخص الذي اقترب من أسامة في العمل حتى يستطيع التجانس والتآنس معه.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال