أنا فقير إذن أنا موجود!
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
ليس الوقت وقت شك وتفكير بكل أسف، الوقت وقت نقود كثيرة طائلة، ممتلكات عقارية ومشاريع منوعة وسيولة مالية في اليدين ودفاتر شيكات مدعومة بحسابات بنكية لا تنفد، رينيه ديكارت كان فيلسوفا عظيما رائدا، لقبه “أبو الفلسفة الحديثة”، كانت نظريته المعرفية هي الشك الذي يزيد من التفكير ومن ثم يزيد من إحساس الإنسان بوجوده.. قال “كلما شككت ازددت تفكيرا فازددت يقينا بوجودي”.. تخصصه الرئيسي كان الرياضيات والجبر والبصريات، غير أنه أحب الفلسفة وبرع فيها؛ فعرفه العالم فيلسوفا نظريا لا عالما تجريبيا (1596- 1650).
لقد صار الأغنياء أغنياء لأن معظمهم كفوا عن الشك والتفكير، وصرفوا هممهم إلى الكسب الذي لا يقتصر على توفير ضروريات الحياة، لكن يصنع ثروة تجعل صاحبها يقف، بثبات، في وجه خصومه الفعليين والمحتملين، وتجعله ذا قيمة حقيقية بين خلق الله وذا وزن راجح بينهم؛ فلا قيمة ولا وزن كذلك لمن لا يملك السكن الفخم والسيارة الحديثة والعمل الشهير والأسرة المتفوقة المستقرة والخدم والمساعدين والأحصنة والكلاب وشراء اللوازم الشخصية من الخارج وقضاء العسل والاستجمام بأمريكا وأوروبا وشرق آسيا وانتقاء المصايف والمشاتي الفاخرة المناسبة.
صاروا أغنياء لأنهم لم يكونوا ديكارتيين بالمرة، حتى لو كانوا يجمِّلون أحاديثهم أحيانا باستعراض حصائلهم الديكارتية؛ من باب إضفاء مهابة الكلام المتخصص على شخصياتهم، وإيهام المستمعين بأنهم يقرؤون أرفع التصورات وأبلغها، لو وجدوا أوقاتا وطالت أيديهم الكتب السامقة بأعالي رفوف مكتباتهم العامرة!.
في كل عصر كانت النقود كل شيء، وكان الفقراء، من أمثالنا، لا يرونها هكذا البتة، لكن يحطون من قدرها ويسفهون أحلام أصحابها، لا يفعلون ذلك لأنهم يصدقونه؛ فأعينهم ترى ما للنقود من الفوائد الجمَّة، وما لأصحابها من التقديس في نفوس الآخرين، لكنهم يفعلونه من فرط العجز الكامل عن إدراك الثراء، وقد يقولون (إمعانا في خداع أنفسهم): ليس في الكتب الدينية ما يمدح النقود ولا أصحابها.. إنها تعتبر النقود زينة لا أكثر، والزينة زيادة لا أصل، وتعتبر أصحابها مفتونين بها وأقرب إلى جهة الشيطان.
يعزون أنفسهم بمثل هذه المقولات التي تنطلي على الأغرار والسذج، لكن المعاناة تهلكهم في المشاوير، أعني مقاساة الحاجة والعوز، وكثيرا ما يضبط المؤمنون منهم أنفسهم داعين في الصلاة: اللهم ارزقنا واسترنا، وهب لنا من فضلك الواسع وكرمك العميم ما لا يضطرنا إلى سواك. يضبطون أنفسهم متلبسين بمثل هذه الدعوات مرارا وتكرارا، إلا أنهم لا يفيقون من سكرتهم التي أدمنوها.. سكرة ذم المال وأهله!.
اقرأ أيضًا
ما هي الفوارق بين الفقراء والمساكين “الرضا بديل اللحمة أحيانًا”
الأغنياء هم سادة الأرض بحق، تخلصوا من الإفلاس الموجع، وانتهت علاقاتهم بقصص استجداء الناس أن يمنحوهم معونة تساند ظروفهم الصعبة، أو يتبرعوا لهم، وقووا ونفذوا، ولم يعودوا يشتهون شيئا من الأشياء بألم ناجم عن عدم التحقق؛ بل يحصلون على كل ما يريدونه بيُسْرٍ، ويلهون بما لا يريدونه أيضا.
قد يعانون من الأمراض النفسية أو البدنية، لكن الفقراء يعانون منها أيضا، غير أن الأغنياء يستطيعون زيارة الأطباء الكبار والمستشفيات الخاصة ذات العناية الفائقة وشراء الأدوية الغالية الفعالة.. وقد يموتون فجأة، إلا أن الفقراء يموتون موتا فجائيا بالمثل، والفارق أن موت الأغنياء موت يتلوه نفع لوارثيهم وموت الفقراء موت تعقبه حسرة للوارثين.
طوبى للأغنياء؛ فهم الجديرون بالاستمرار حقا، لو كنا أمناء مع أنفسنا، هم الباقون أصلا ولو ماتوا وبليت عظامهم؛ فسيرهم خالدة بالأعمال المضيئة التي تشير إليهم في كل حين، وبالاحترام الذي ينالونه في ذكراهم من الذين يعرفون أقدار الناس، وأما الفقراء فلا أعمال ولا سير، سوى أن عصبة من الموهومين، في أحاديث المقاهي البائسة التي تجمع أرباب الكلام، تذكر لهم طرفا من ملامح إنسانية مدهشة كانت فيهم ومن تصرفات آسرة صدرت منهم، وتمنحهم بها الخلود، ولو أنصفت العصبة الموهومة لوجدت في الأغنياء من تلك الملامح والتصرفات قدرا وافرا، لكنها أوهام الطبقة المتوسطة التي لا ينتهي انحيازها غير المنصف وجموحها غير المبرر مهما نبهها المنبهون الراشدون لطغيان مثلهما.
شيئان وحيدان بقيا للفقراء، من هذه الدنيا العجيبة الفانية، بقيا لهم وحدهم للأمانة وليس للأغنياء فيهما نصيب، الأول شغفهم بلحظتهم الحاضرة والمستقبلية إلى حد الشبع والارتواء (الفقراء الحقيقيون مشغوفون بالحياة)؛ فكل ما في الآفاق، ظهر بتلألؤه أو توارى بحجابه، يمنحونه غرامهم به. والثاني أنهم يشُكُّون ليل نهار حتى يقتلهم الشَّكُّ ويفكِّرون بعدد ساعات أيامهم القاسية حتى يفنيهم التفكير.. يشكُّون في كل أمر، بما في ذلك العدالة الإلهية، ويفكِّرون في كل مسألة، بما في ذلك كيف يتخلصون من التفكير نفسه؟!.. هم ديكارتيون ولو لم يكونوا يعرفون ديكارت، فأكثرهم أبسط تعليما وثقافة من هذه المعرفة، ومن ثم فهم يحسون بوجودهم فوق ما يحس الأغنياء بوجود أنفسهم هكذا؛ ولعمري إن الإحساس بالوجود أعظم النِّعم وأبلغها، وعلى هذا لو كان الأغنياء سادة الأرض والجديرون بالاستمرار فيها؛ فالفقراء مُلَّاك الأرض الفعليون ومرسلو الأنفاس لا خانقوها بالاستهلاك المهين!
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد