إِنَّ وَشَطَحَاتُهَا” .. قراءةٌ موضوعيَّةٌ في رسالةِ سارة حجازي”
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
عاشت الشابة الراحلة “سارة حجازي” تبحث عن دعمٍ لحقِّها في “المثلية الجنسية” ببلدها مصر، ضمن من عاشوا كذلك، حتى ذهبت إلى كندا فرارًا من مجتمعٍ متحفِّظٍ يأبى أن يمنحها اعترافا (يقال إنها وصفت ناسه بالرَّجعيِّين والمتخلِّفين فيما يشاع الآن وليس بالكلام الثَّابت قطعيًّا للأمانة)، وانتحرت هناك في مفاجأةٍ حزينةٍ لكلِّ من يعرفونها، ولجمعٍ بشريٍّ كبيرٍ في الحقيقة؛ لأنها صغيرة السِّنِّ غضَّة المشاعر في التقييم الأخير.
كثيرون أثنوا على الشابة الراحلة نفسها، لكن لم يقم أحد بالثناء على “المثلية الجنسية” التي رفعت الشابة الراحلة علمها “رينبو”، في واقعة شهيرة في يوم غابر، إلا أن يكون مثليا صريحا هو الآخر، أما الأغلبية ممن والوها موالاة فقد كانوا “إنسانيين”، بتنوُّعات تيَّاراتهم الثقافية والفكرية، أعني ممن يعلون الحقيقة الإنسانية بذاتها ويوقِّرونها، مهما عظمت أخطاء الإنسان، وهم إن كانوا لم يعلنوا عن موافقتهم المباشرة على ميول الراحلة التي لا توافق كل الأديان ولا ترضي الأكثرية المجتمعية، فيما يعلمون كغيرهم علما يقينيا، إلا أنهم تورَّطوا فأعلنوا احترامهم لخيارها الخاص، بناء على توجههم الإنساني نفسه، بل حاربوا كل من رفض اختيار الراحلة بناء على ذلك التوجه، كأنهم يؤيدونه (بذاته) تماما.
راجت بين الجموع التي عادت سلوك الشابة الراحلة مسألة إلحادُها، بجانب مثليتها، وهو الشيء الذي لم يؤكِّده دليلٌ قاطع، لكنه جعل هؤلاء يعتقدون بفسادها المطلق، ولا يتصوَّرونها ناجية من العقاب الإلهي!
استبدل المنحازون إلى الإنسان، بالمعنى والمبنى، صورة الراحلة بصورهم الشخصية في صفحاتهم، وكتبوا عندهم ما يفيد بأن المثلية لا دخل لصاحبها فيها لكنها نتيجة لعوامل بيولوجية وجينية غاية في التعقيد، كما وصفوا الانتحار بالوضع الاضطراري الذي يلجأ إليه “شخص حائر طال عذابه” ومن ثَمَّ فغالبا لا تُعاقَب فعالُهُ في الآخرة؛ فالله أعلم بمرائر خلقه ومن جميل عفوه قبول الأعذار.. هكذا، بينما وضع المحتجُّون على نبئها في صفحاتهم كلَّ شيءٍ يناهض المثليين والمنتحرين شكلا ومضمونا، واعتبروا الانتحار كفرًا، وليس بكفرٍ للأمانة، ورأوا المثلية رفاهية قذرة ولم يروها كساكنٍ أصليٍّ لا ذنب لمسكنه فيه، لم يروها شيئا قسريًّا قطُّ ولا حتى خللًا يحتاج إلى معونةٍ نفسيَّةٍ.. (هكذا كانت الفرقة).
معضلة الشابة الراحلة، في ظنِّي المتواضع، كمنت في جهرها بهوية جسدها المغايرة للمجاميع، ولو في ظاهرهم، ذلك الجهر الذي جرَّها إلى مصادمة مجتمعية صاخبة، وقد حاز موضوعها اهتمامات الخلق، وانقسموا فيه إلى ثلاثة أقسام، قسمٌ جزم بنضالها وبطولتها، وثانٍ قطع بفسادها وعارها، وثالثٌ قليلٌ وقف بين الرؤيتين وقوفًا وسطيًّا!
تركت ” سارة حجازي ” رسالة مؤثِّرة للغاية، وُجِدَت ونُشِرَت على السوشيال ميديا، وتناقلها الناس بحرارة بالغة، تناقلوها بنفس حالاتهم الانقسامية، بين محتفلٍ بها ولاعنٍ إيَّاها، وقائمٍ بينهما في منتصف الطريق الصعب؛ فلا يحتفل بها ولا يلعنها، إنَّما يذيعها على صفحته بتعليقٍ لطيفٍ عجيبٍ، ضفائره من حبلين متناقضين هما الاختلاف معها والترحم عليها.
الرسالة: إلى إخوتي.. حاولت النجاة وفشلت، سامحوني. إلى أصدقائي.. التجربة قاسية، وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني. إلى العالم.. كنت قاسيا إلى حد عظيم، ولكني أسامح. هكذا، ثم توقيعها (جميل الشكل بالمناسبة).
وبوسعنا هنا العثور على حَجَرٍ كريمٍ، تبيِّنُهُ أبسط قراءة في الرسالة، هو طغيان “المسامحة” ومرادفها “العفو والغفران”.. طغيانها في الرسالة التي صارت أشهر ورقة متداولة في هذه الفترة، أشهر حتى من أوراق النقد!
تزيَّدت جميع الأطراف في استعراض القضية الحسَّاسة الشائكة، وعلَّق بعضها خيباتِهِ الشَّخصيَّةَ على الضَّحِيَّة الجاهزة التي لا حول لها ولا قوة في مقامها الغيبيِّ، وغفل أكثر من تصدُّوا لفحص الأمر وتحليله عن تحديد المفاهيم بشكل لا تبقى معه القصَّة مائعة؛ والقصد أن معظم المهتمِّين تقريبًا، ممَّن رفضوا الشأن المطروح للرَّأي العامِّ وممَّن قبلوه وممَّن توسَّطاهما، كانوا مضطربين في تناول الأزمة، وليسوا صرحاء ولا أمناء ولا واضحي الأهداف، وهكذا جعلوا أيدي الرَّاغبين في الصَّواب خاليةً من اليقين.. ههنا، أملك ثلاثة أسئلة تفاعليَّة في الصَّميم: لو كان “الإنسانيون” يتعاطفون حقًّا مع المثليين؛ فلماذا تكون نكات أكثرهم في الجلسات الخاصة، بالبيوت والأندية والمقاهي، عن لقطات المثليين المخزية، ولماذا يتنمَّرون لهم هناك؟! ثانيًا: إذا كان حاملو الشُّعَل الأخلاقية والدينية يملكون مفاتيح السُّمعة في الأرض والمصائر في السَّماء؛ فلماذا تتصاخب أمواجهم أمامنا ولا نسمع رنينًا لهذه المفاتيح ضمن تصاخبها البتَّة؟! وأخيرا: هل تقودنا الوسطية، تلك التي نفشل دائما في قبض أبعادها وإحصاء مراميها وتحديدها بدقَّة، جميعًا، إلى شيءٍ ذي بالٍ في النهاية كنقطة الحسم المطلوب إدراكها مثلا؟!
في انتظار الأجوبة التي أرجو تفهُّمَها الذَّكيَّ لما استفسرت عنه، راغبا في نوال الحقِّ الأكيد الذي لا لبس فيه، وأرجو صوابها طبعا..
بالأساس، نحن نختلق ما يضيِّق الآفاق الحياتية الرحبة، نختلقه اختلاقًا، ثم نشكو شكاياتٍ أليمةً من آثار صراعاته الضَّارية علينا، ومع ذلك لا نؤمن بالحرية (النَّاضجة المسؤولة) ولا نعترف بأفضليَّتها.
اقرأ أيضا
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد