“الإجابة من تاريخه” لماذا لم يقم الإسلام السياسي بمواجهة حقيقية مع العدو؟
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
جددت الاشتباكات المشتعلة على أرض سوريا سؤالًا قديمًا: لماذا لم تدخل منظمات الإسلام السياسي المعروفة بـ الجماعات الجهادية التكفيرية معركة ضد إسرائيل؟ ففي الوقت الذي نفذت فيه تلك الجماعات عمليات عسكرية نوعية بعد أقل من يوم على تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” لرئيس النظام السوري “بشار الأسد“، لم تُطلق رصاصة واحدة نحو إسرائيل التي تستبيح دماء أهل غزة منذ عام بلا هوادة.
امتناع هذه الجماعات عن خوض معركة حقيقية مع إسرائيل ليس ظاهرة جديدة، بل هو سلوك متجذر منذ ظهورها الأول، مهما اختلفت الأيديولوجيات المعلنة، وهو النمط ذاته الذي وسم خطوات أولئك الذين تاجروا بالقضية الفلسطينية عبر تاريخها الطويل، مستخدمينها كوسيلة لتحقيق مصالحهم، لا نصرتها، على الرغم من أن أغلب تلك الجماعات تتخذ لنفسها أسماءً لها صلة بفلسطين مثل بيت المقدس.
المرتزقة الأوائل .. أبو نضال نموذجًا
لم تشهد قضية عالمية متاجرةً سياسية مثل القضية الفلسطينية، تلك المتاجرة التي قامت بها فصائل سياسية مختلفة الأيدولوجيا، وقامت بها أنظمة عربية أيضًا، ولا زال العمل مستمرًا، وللتأمل في نموذج جليّ على الارتزاق بالقضية الفلسطينية دون خوض معركة حقيقية ضد الاحتلال الإسرائيلي، يبرز أمامنا مثال حركة “فتح ـ المجلس الثوري” التي تأسست عام 1974م تحت زعامة صبري البنا، المعروف بـ”أبي نضال” [1937م – 2002م]، إثر انشقاقها عن حركة فتح الأم التي أبصرت النور عام 1965م.
مارست “جماعة أبي نضال” سلسلةً من الأعمال الدامية، تنوعت بين تفجيراتٍ واغتيالاتٍ استهدفت رموزًا فلسطينية كنائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية صلاح خلف “أبو إياد” [1933م – 1991م]، ومصرية كالأديب “يوسف السباعي” [1917م – 1978م]، أما المبررات، فكانت تتقاطع دومًا مع ادعاءات التعاون مع إسرائيل، مما أثار الريبة والشكوك حول دوافع هذه الجماعة وأهدافها الحقيقية.
ومن أبرز العمليات المريبة من تلك الجماعة، كانت عملية اغتيال “عصام السرطاوي” [1935م – 1983م]، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة البرتغالية لشبونة، أثناء مشاركته في مؤتمر الاشتراكية الدولية، فبينما كان “شيمون بيريز” [1923م – 2016م]، يقف إلى جواره، تجاهل القاتل المسلح “بيريز” وركّز جهده على تصفية “السرطاوي” وحده.
عندما سُئل القاتل “جمال توفيق” عن السبب، أجاب ببساطة: «كانت التعليمات واضحة، الهدف هو السرطاوي»، أما القيادي السابق في الحركة، “خلدون عبدربه”، فقد برر موقف القاتل قائلاً: «أثناء التنفيذ، لم يكن مطلوبًا منه إلا إصابة الهدف فقط»، ومع ذلك، تشير الوثائق إلى أن القاتل كان قد طلب الإذن بقتل “بيريز” أيضًا، لكنه وُوجِه بالرفض من المسؤول.[1]
تلك الحادثة تختزل مفارقة عميقة تجسد الانحراف عن مسار القضية الفلسطينية واستغلالها لمآرب أخرى، إذ كانت “جماعة أبي نضال” بندقية للإيجار تستخدمها أنظمة عربية ودولية لمصالحها.
الإسلام السياسي وماخور المتاجرة في السبعينيات والثمانينيات
في عام 1974م، ظهر أول نموذج لاستغلال الجماعات الجهادية للقضية الفلسطينية دون مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وذلك من خلال تنظيم جماعة بقيادة “صالح سرية”، فلسطيني الأصل وأردني الجنسية [1936م – 1976م]، وكان سرية يعمل موظفًا في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، ويقيم في 8 شارع عرفات بالدقي.
هذه الجماعة الإسلامية نفذت هجومًا عسكريًا ضد الكلية الفنية العسكرية في القاهرة يوم 18 إبريل 1974م بعد تجنيد 16 طالب في داخلها، وأسفرت العملية عن استشهاد عدد من أفراد طلبة الكلية.[2]
بإطلالة على تاريخ حادثة الفنية العسكرية، تلفت أنظارنا نقطتان جديرتان بالتأمل: أولهما توقيت الحدث الذي جاء بعد أقل من عامٍ من اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، وثانيهما الهدف المباشر للعملية، وهو الجيش المصري المنتصر في تلك الحرب.
تُثير هذه الحقائق تساؤلاً عميقًا: ما الدافع الحقيقي وراء هذه العملية؟ ولماذا لم يتجه منظرو الجماعة إلى استهداف العدو الإسرائيلي مباشرة، في عمق الأراضي التي يحتلها داخل فلسطين، أو سوريا التي كانت ساحةً للصراع؟.
أوراق التحقيق في القضية[3]، وكذا مذكرات بعض أعضاءها[4]، لم تُشر إلى ذلك الجانب من الموضوع، بل اكتفت بالإشارة إلى أن العملية كانت تهدف إلى الإطاحة بنظام حكم الرئيس “محمد أنور السادات” [1918م – 1981م]، باعتباره نظامًا كافرًا، وامتدادًا للجمهورية الناصرية التي وُصفت بالكفر، أما الغاية الكبرى من هذا الانقلاب، فكانت تأسيس دولة مصرية إسلامية، لتكون حجر الأساس لنواة الخلافة المنشودة.
بلغت المتاجرة بالقضية الفلسطينية ذروتها في الربع الأخير من سبعينيات القرن الماضي، حينما شهدت القضية الفلسطينية تحوّلًا جذريًا بسبب مقاطعة الدول العربية لمصر، إثر زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس عام 1977م، وما أعقبها من توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م ومعاهدة السلام عام 1979م.
وفي خضم هذا الزخم التاريخي، وُلدت جبهتا الرفض والصمود والتحدي، اللتان اتخذتا موقفًا صارمًا من سياسات مصر، تلك السياسات التي أدت إلى استعادة أرضها سنة 1982م، وأعلنت جبهتي الرفض والصمود والتحدي توليهما الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو الشيء الذي لم يحدث أبدًا.
فجميع هذه الدول لم توجه عملية عسكرية واحدة ضد إسرائيل لصالح فلسطين أو حتى تساعد فلسطين عسكريًا، فمثلاً الجزائر انشغلت بخلافاتها المستمرة مع المغرب، في حين فتحت سوريا، التي خسرت جزءًا من أراضيها لصالح الاحتلال الإسرائيلي، جبهتين للصراع: الأولى في لبنان، والثانية في نزاع داخلي وخارجي بين أجنحة حزب البعث العراقي والسوري، وعلى الجانب الآخر، استخدم القذافي جماعة فتح – المجلس الثوري لتنفيذ أجندات خارجية تخدم سياساته، أما دول الخليج، فاكتفت بتقديم الدعم المادي للقضية الفلسطينية دون أي خطوات مؤثرة.
وفي خضم هذه الأحداث، ضرب المشهد السياسي زلزالٌ جديد تمثل في الثورة الإيرانية، التي حجزت لنفسها موقعًا متميزًا وبارزًا في تشكيل خطاب المتاجرة بالقضية الفلسطينية، مضيفة أبعادًا جديدة إلى تاريخها.
اتخذت إيران من القضية الفلسطينية بوصلةً تتجه بها نحو العالم السُّنِّي، باستثناء السعودية والعراق، محاولةً تسويق نفسها كحليفٍ ومناصر، غير أن ذلك لم يكن يومًا إلا في إطار تحقيق مصالحها الخاصة، فعلى الرغم من سعيها لترسيخ قدم لها في لبنان ليكون على تماس مباشر مع فلسطين، فإنها في الوقت نفسه مدت يد التعاون مع إسرائيل، مظهرةً تناقضًا صارخًا بين الشعارات التي ترفعها والواقع الذي تصنعه.
ويؤكد ذلك فضيحة إيران كونترا سنة 1987م[5]، وخلاصتها أنه في خضم الصراع بين إيران والعراق، وبينما كانت أمريكا تُظهر عداءها المُعلن لنظام طهران، تسرّبت أخبار عن صفقة سريّة لبيع أسلحة متطورة لإيران.
كان الهدف الظاهر هو إتمام عملية تبادل تُفرج فيها إيران عن رهائن أميركيين محتجزين في لبنان، ولكن خلف الكواليس، استُخدمت عائدات هذه الصفقات لتمويل متمردي الكونترا في نيكاراجوا، الذين كانوا يقاتلون الحكومة اليسارية المدعومة من الاتحاد السوفيتي.
أما السلاح الذي استحوذت عليه إيران، فكان يشمل ثلاثة آلاف صاروخ من طراز “تاو” المضاد للدروع، إلى جانب صواريخ “هوك” أرض-جو، وقد تم نقل تلك الأسلحة عبر طائرات إسرائيلية، التي عبرت الأجواء وصولًا إلى الأراضي الإيرانية، كل هذا، وكان الوضع الفلسطيني في ذروة اضطراباته، إذ اشتعلت فتيل الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي.
الغضب الساطع “الذي لن يأتي بجماعات الإسلام السياسي”
مع انقضاء الحرب الباردة التي أسفرت عن سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، بزغ على الساحة جيل جديد من الجماعات الإسلامية، أكثر عنفًا وأشد بطشًا من أي تنظيمات سابقة.
وكان هذا الجيل هو جيل الأفغان والمتأفغنين، أولئك الذين حملوا السلاح في وجه الاتحاد السوفيتي (الشيوعي اللاديني) بما يخدم مصالح أمريكا (المسيحية الكتابية)، قبل أن تتحول أمريكا، في مفارقة الزمن، إلى عدو كافر لا يُرَحْم.
ظهر تنظيم القاعدة من رحم أفغانستان ولم يقم التنظيم بشن أي عملية ضد إسرائيل طوال فترة التسعينيات رغم أن هجماته المتعددة والموجعة التي طالت أمريكا لقيت مبررًا عنده وهو دعم الأمريكان لإسرائيل، أما الجماعات التي تأثرت بفكر القاعدة فقد ضربت عُمْق أغلب البلدان العربية بعمليات إرهابية وكانت مصر أكثر هذه الدول تضررًا من العمليات الإرهابية، ورغم حدوث عمليات مقاومة من الداخل الفلسطيني فإنها لم تلقى دعمًا قويًا من تلك الجماعات حتى بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م.
ومع سقوط العراق في عام 2003م، شهدت الساحة العربية والعراقية تزايدًا ملحوظًا في عدد الجماعات الإسلامية، فدخلت في مواجهةٍ مع أمريكا، قبل أن تنزلق في أتون صراعاتٍ طائفيةٍ ومذهبيةٍ هائلة.
كانت فترة ما بعد 2003م مليئةً بالمكاسب السياسية الرخيصة والمتاجرة بأقدار الشعوب من الجماعات الإسلامية، ومن أبرز النماذج التي تجسد هذا الانحراف، نجد شخصية مؤسس جماعة غرباء الشام “محمود قول أغاسي” [1973م – 2007م]، الذي عُرف في الأوساط الإعلامية بلقب “أبو القعقاع السوري“.
لم يكن النظام السوري، تحت وطأة هيمنة حزب البعث، ليقبل بأي نشاط إسلامي خارج مظلة المخابرات وأجهزة الأمن المتعددة، إلا أن “محمود قول أغاسي” كان استثناءً لافتًا في هذه القاعدة، فقد كان هذا الرجل، الذي تميز بمظهره الأفغاني وزيه التقليدي ولحيته الطويلة، يدعو بشجاعة إلى الجهاد في فلسطين.
وقد أسس، في عام 2002م، جماعات إسلامية داخل العراق، كان الهدف الظاهر من تأسيسها هو دعم الجهاد الفلسطيني، ولكن الحقيقة التي كانت تخفى وراء هذه الدعوات، لم تكن تجنيد أتباع لتحرير القدس، وإنما تأسيس منظمة سنية جهادية مسلحة، تعمل جنبًا إلى جنب مع حزب البعث السوري، مشابهة لحزب الله الذي أنشأته إيران في لبنان.
مع انهيار نظام البعث في العراق واندثار حكم “صدام حسين” [1937م – 2006م]، في العام 2003م، فُتِحت أمام المنطقة أبوابٌ جديدة من التدخلات الميدانية التي لم تكن لتخطر على بال، ففي تلك الأثناء، وبإيعاز من بشار الأسد، أخذت السلطات السورية تبني جسورًا من العنف عبر الحدود السورية العراقية، لتضخّ الآلاف من المقاتلين السوريين وغيرهم إلى قلب العراق بالتنسيق مع بقايا النظام البعثي المخلوع، الذي صُدِمَ بخسارته الكبرى.
وكانت سوريا، في ذلك الوقت، تستقبل الآلاف من الإرهابيين، وتوفر لهم الملاذ الآمن والتدريب العسكري في معسكرات تابعة للمخابرات السورية والجيش، ومن بين هؤلاء، كان هناك من صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من الإنتربول الدولي، مثل “محمد يونس الأحمد” و”سطام فرحان”، وأضحى التفجير الانتحاري سلوكًا مألوفًا في شوارع العراق؛ في تلك الأيام، قدرت الولايات المتحدة أن التفجيرات التي نفذها مقاتلون أجانب قد شكّلت نحو 90% من إجمالي التفجيرات التي كانت تهز العراق.[6]
مع تزايد أعداد الجهاديين وتوالِي التفجيرات الانتحارية، خرجت الأوضاع عن نطاق السيطرة تمامًا، ووجد العديد من هؤلاء الجهاديين أنفسهم في صفوف “تنظيم القاعدة” بأفرعه المتعددة مثل “دولة العراق الإسلامية” و”مجلس شورى المجاهدين” وغيرها، ولقد بدأ هؤلاء يوجهون سهامهم صوب الشيعة، في تجسيد صارخ للطائفية بأبشع صورها، مؤججين حربًا أهلية طائفية.
ومع تصاعد الغضب الأمريكي من النظام السوري، وإدراك “بشار الأسد” أن الولايات المتحدة بعد أن تفرغ من العراق قد تتحرك لإزاحة حزب البعث في سوريا كما فعلت مع نظيره العراقي، ظهر “محمود قول أغاسي” في المشهد السوري، مُعلِنًا أنه سيعمل على التواصل مع أصحاب السلطة في سوريا لتمويل مجاهدين سوريين للقتال في العراق.
لكن ما لبث أن تبين أن أغاسي كان يرسل هؤلاء الجهاديين من أتباعه إلى فصيل تابع لجهاز المخابرات السورية داخل العراق، وهو ما تأكد لاحقًا لدى قوات الأمن العراقية بعد استجوابها للمعتقلين، الذين اعترفوا بتدريبهم على يد محمود قول أغاسي نفسه.
لتُكشف بذلك حقيقة الدور المزدوج لأبي القعقاع الذي كان يعمل كسمسار وأداة في خدمة المخابرات السورية، مع العلم أن محمود قول أغاسي كان هو الملهم الفكري لـ “أبو بكر البغدادي” [1971م – 2019م]، زعيم داعش لاحقًا وذلك وفق كتاب كتبه أحد المنشقين عن داعش [انظر:- أبو أحمد، الحقـائِقُ المُخفـاة حَوْل دولة البغْدادي، نسخة الكترونية، موقع نور سورية، 23 يوليو 2014م، ص4 وص8] وفيه اعتراف بأن قول أغاسي كان عميلاً للمخابرات السورية وصديقًا لأبي بكر البغدادي.[7]
مع بداية ثورات الربيع العربي في عام 2011، وصل الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في عدة دول عربية، باستثناء سوريا التي شهدت صراعًا مستمرًا، وفي الدول التي تمكّن فيها الإسلام السياسي أو سعى للهيمنة عليها، دخلت تلك البلدان في مرحلة من الانهيار والفوضى، فذهبت اليمن وليبيا وسوريا إلى مصير اللاعودة، بينما كانت تونس محظوظة إذ بقيت كدولة غير منقسمة رغم أزماتها السياسية.
والحالة الاستثنائية الوحيدة في تلك الدول كانت ولا زالت هي مصر التي نجت من خطر التفكك والضياع، وذلك بفضل تماسك جيشها لأنه مختلف عن جيوش سوريا والعراق وليبيا.
لكن هذا الاستقرار كان بكُلْفَة باهظة متمثلة في ارتقاء مئات الشهداء من القوات المسلحة والشرطة والمدنيين خلال المواجهات مع الجماعات التكفيرية، والتي لم تشن عملية واحدة ضد إسرائيل رغم أن اسم الأم الروحية لهذه التنظيمات هو “بيت المقدس”.
تغطية عُهْر الإسلام السياسي بالدين
المعلوم من التاريخ بالضرورة، أن الجهاد ضد إسرائيل منذ أن كانت مجرد عصابات صهيونية، إلى أن تحولت لدولة، لم يكن مقتصرًا على الإسلاميين فقط، بل شهد الجهاد ضد إسرائيل مشاركة أطياف متعددة، منها الإسلامية الصِرْفَةً والنموذج على ذلك الشيخ عز الدين القسام [1882م – 1935م]، وأيضًا نماذج دمجت بين الدين والوطن ويمثله المقاوم عبدالقادر الحسيني [1907م – 1947م]، وأيضًا مكونات يسارية ومسيحية جماعة جورج حبش [1926م – 2008م]، ووديع حداد [1927م – 1978م].
لكن الجماعات الجهادية التكفيرية المسلحة، اختلقت لنفسها زعمًا يقول بأن فلسطين قضية إسلامية خالصة، والحقيقة، أن فلسطين ليست مجرد قضية إسلامية؛ فهي قضية تهم كل العرب، مسلمين بمختلف مذاهبهم، ومسيحيين من جميع مدارسهم اللاهوتية.
وتكشف مجريات التاريخ التي عرضها التقرير، إلى جانب تشابهات الحاضر، عن حقيقة أن الجماعات التكفيرية الجهادية قد باتت تعمل لصالح إسرائيل، حتى وإن لم يكن هناك اعتراف رسمي بذلك، على الرغم من العويل الدائم لتلك الجماعات حول عدائها لإسرائيل، فإن الواقع ينطق بعكس ما تدعي، وقد كان لزامًا على هذه التنظيمات الإسلامية أن تبتكر لنفسها مبررًا دينيًا، كما فعلت من قبل عندما استخدمت ذريعة دينية للنفاذ إلى عالم العنف باسم القضية الفلسطينية.
وتمثل المبرر الديني لهذه الجماعات في نظرية “العدو القريب والعدو البعيد”، التي كانت بمثابة الأساس الفكري لتوجهاتها المتطرفة، هذه النظرية التي انبثقت لأول مرة في عام 1980م على يد تنظيم الجهاد، من خلال كتاب الفريضة الغائبة الذي كتبه مُنَظِّر التنظيم “محمد عبدالسلام فرج” [1954م – 1982م]، ثم أخذت شكلًا أوسع وأوضح مع تنظيم القاعدة، لتتطور تدريجيًا وتكتسب أبعادًا جديدة مع ظهور داعش والفصائل المسلحة الأخرى.
وتتلخص نظرية “العدو القريب والعدو البعيد” في أن تحرير القدس يُعد واجبًا دينيًا مفروضًا على كل مسلم. ولكن، المسلم الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه “كيّس فطن”، هو الذي يتسم بالحكمة والبصيرة، يعرف مصلحته الحقيقية ويضع الحلول الجذرية والعملية لمواجهة التحديات، ومن هنا، يصبح قتال العدو القريب أولى وأهم من محاربة العدو البعيد، فالعدو القريب هنا هم حكام الدول الإسلامية الذين انحرفوا عن جادة الحق، وتبنوا مسالك الكفر، ولأن تحرير فلسطين لا يتحقق إلا تحت راية الحكم الإسلامي، فإن السبيل إلى ذلك يتطلب، من باب الأولوية، الإطاحة بهؤلاء الحكام وإزالة الأنظمة التي تقف في طريق هذا التحرير.
لم يقدم “محمد عبدالسلام فرج” دليلاً شرعيًا على تلك النظرية التي طرحها في كتابه[8]، لكن “سيد إمام” [من مواليد 1950م وليس معروفًا مصيره الآن]، أحد أحد أهم منظري القاعدة وبالتعاون مع زعيمها “أيمن الظواهري” [1951م – 2022م]، قدم لها تأصيل شرعي في كتابه العمدة في إعداد العدة[9]، وذلك أثناء إقامة “سيد إمام” مع “الظواهري” في باكستان سنة 1989م.[10]
على النقيض، فإن مؤسس تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” [1957م – 2011م]، الذي كفر كثير من المسلمين شعوبًا وحكامًا، لم يكن مقتنعًا بفكرة العدو القريب، وبدت رؤيته واضحة في “وثائق أبوت آباد”[11]، حيث قال في رسالةٍ إلى قيادي تكفيري اسمه “عبدالبصير” «تعلمون أن كثيرًا من الجماعات الجهادية التى أصرت على البدء بالعدو الداخلى قد تعثرت مسيراتها ولم تحقق أهدافها»[12]، داعيًا ابن لادن إلى التريث والتأني في مواجهة الأنظمة الحاكمة، لأن الاندفاع نحو محاربتها قد يؤدي إلى تبديد قوة التنظيم وتشتيت طاقاته، فضلاً عن فقدان تعاطف المسلمين الذين يشكلون ركيزة الدعم له، مشددًا في الوقت ذاته على أن الاستراتيجية المثلى في التعامل مع هذه الأنظمة ينبغي أن تكون قائمة على الدفاع ورد العدوان الذي تمارسه الدولة وأجهزتها الأمنية، مع رفض قاطع لمبدأ المبادرة بالاعتداء، محذرًا من العواقب الوخيمة لمثل هذا التوجه، مؤكدًا على أن كل الحكام كفار.
رغم ذلك فإن كل التنظيمات الجهادية التكفيرية تتبنى رؤية قتال العدو القريب، وعلى رأسهم تنظيم داعش الذي قال في بيان له عام 2014م أنه لا يقاتل إسرائيل لأنه عدو بعيد[13]، وكرر نفس الخطاب بعد اندلاع أيام معركة “طوفان الأقصى”، وذلك من خلال افتتاحية عدد مجلة النبأ التي يصدرها التنظيم الإرهابي.[14]
في العموم فإن نظرية “العدو القريب والعدو البعيد” التي طرحها “محمد عبدالسلام فرج” سنة 1980م تم الرد عليها من قِبَل شيخ الأزهر “جاد الحق علي جاد الحق” [1917م – 1996م]، في كتاب نقض الفريضة الغائبة[15]، وتوسع عضو هيئة كبار العلماء محمد عمارة [1931م – 2020م]، في الرد على التأصيل الشرعي لنظرية العدو القريب، وتأكيده على أن الحكام لا يكفرون ثم سخر من تلك النظرية بقوله «الاستعمار والصهيونية سيسعدان بتأجيل المعركة ضدهما، الأمر الذي سيتيح لهما دعم الحكام الذين يقولون أنهم أساس وجود الاستعمار، إن نظرية العدو القريب أثر من آثار حماس الشباب لا علاقة له بالفطنة والكياسة الإسلامية، وهناك فارق بين حاكم يأتي بالاستعمار وبين حاكم يسعى لاستقلال وطنه ولو حتى في إطار العلمانية، فهذا لا يُكَفَّر».[16]
يثبت التاريخ والواقع بما لا يدع مجالًا للشك أن التنظيمات الجهادية التكفيرية، منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، لم تجعل من قتال إسرائيل هدفًا فعليًا في استراتيجياتها العسكرية، وعلى الرغم من أن منشوراتها الإعلامية تعجّ بدعوات صريحة لاستهداف إسرائيل ومصالحها، إلا أن هذه الدعوات تظل مجرد شعارات دعائية تهدف إلى تعزيز زخم خطابها الأيديولوجي، دون أن تُترجم إلى عمليات ميدانية حقيقية، ويبدو أن هذا السلوك يتسق مع أولويات أجندتها الخاصة، سواءً في فترات تمددها أو مراحل انحسار نفوذها، مما يكشف عن ازدواجية في خطابها وأهدافها الحقيقية، وكل ذلك يخدم إسرائيل أصلاً.
[1] وثائقي الصندوق الأسود | “أبو نضال”.. تاريخ من الاغتيالات، قناة الجزيرة على يوتيوب، 5 فبراير 2017م
[2] صفاء شاكر، تنظيم صالح سرية بالكلية الفنية العسكرية 18 إبريل 1974م (نموذجًا لظاهرة العنف السياسي)، مجلة الروزمانة، الحولية المصرية للوثائق، ع15، 2017م، ص ص312–356.
[3] مختار نوح، موسوعة الحكم في الحركات الإسلامية المسلحة، ط/1، سما للنشر والتوزيع، القاهرة ـ مصر، 2014م، ص ص145–154.
[4] طلال الأنصاري، من النكسة إلى المشنقة، كتب عربية (نسخة الكترونية)، 2006م
[5] هرمان مول وميخائيل ليبمان، سمسار الموت .. فضيحة إيران ـ غيت من الداخل، ط/1، دار الحمراء، بيروت ـ لبنان، 1991م (100 صفحة)
[6] عبدالله حسن، سوريا الأسد الابن والصناعة العلنيّة للإرهاب، موقع دَرَج، 7 يوليو 2019م
[7] الصندوق الأسود | “أبو القعقاع السوري”.. ظهور لافت واختفاء مفاجئ، قناة الجزيرة على يوتيوب، 26 نوفمبر 2015م
[8] محمد عبدالسلام فرج، الفريضة الغائبة، (نسخة الكترونية منسوخة من الكتاب الأصلي)، ص15.
[9] سيد إمام، العمدة في إعداد العدة، (نسخة الكترونية منسوخة من الكتاب الأصلي)، ص ص306-307.
[10] أحمد فريد مولانا، الحركات الجهادية المصرية حدود الدور، موقع المعهد المصري للدراسات، 5 فبراير 2018م
[11] وثائق أبوت أباد هي مجموعة من الرسائل التي كتبها أسامة بن لادن، بلغ عددها 175 صفحة مكتوبة باللغة العربيّة، تحمل أرقامًا تتراوح من (3) إلى (19)، وقد كُتبت في مقرّه بمدينة أبوت آباد الباكستانية خلال الفترة بين سبتمبر 2006م وإبريل 2011م، وتم الكشف عنها بعد قتل بن لادن.
[12] وثائق أبوت أباد (نسخة الكترونية منقولة عن النسخة الأصلية) إشرف: مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، تفريغ وجمع وإعداد: نخبة الفكر، ربيع الآخر 1436هـ / يناير 2015م، ص113.
[13] داعش للشعب السعودي: هل تقتل دولتكم المرتد؟.. وهذه أسباب عدم قتال التنظيم لإسرائيل، موقع CNN بالعربية، يوم 7 يوليو 2014م
[14] مجلة النبأ، ع413، الخميس 4 ربيع الآخر 1445هـ / 19 أكتوبر 2023م، ص3.
[15] جاد الحق علي جاد الحق، نقض الفريضة الغائبة، ط/1، هدية مجانية لمجلة الأزهر، عدد محرم 1414هـ / 1993م، ص104-105.
[16] محمد عمارة، الفريضة الغائبة .. جذور وحوارات .. دراسات ونصوص، ط/1، دار نهضة مصر، القاهرة ـ مصر، 2009م، ص56.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال