همتك نعدل الكفة
390   مشاهدة  

الإسلام في عالم مُتغير

العالم الإسلامي
  • كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.



إزاء التغيرات الضخمة  المُتلاحقة التي يُشاهدها العالم المُعاصر، تغدو المُشكلة المحورية التي يتحتم على المُفكرين في العالم الإسلامي أن يحلوها مكان الصدارة في قائمة اهتماماتهم هي: هل من المصلحة تكييف المفاهيم والقيم الإسلامية وفق الأحوال الاجتماعية والاقتصادية المُتغيرة؟ فإن كانت الإجابة  بالإيجاب، انتقلنا إلى التساؤل: كيف؟

ونبدأ بتقرير حقيقة واقعة قد لا تكون لها صلة كبيرة بالمُفكرين، وهي أن المفاهيم والمُعتقدات والقيم في أي دين لا تبقى أبدًا على حالها، فالمسيحية في العصر الوسيط تختلف إختلافًا جوهريًا عنها في زمن الحوريين وعنها في زمننا هذا، وقد ذكرنا في موضع آخر كيف اتجه مسلمو أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين -بتأثير صلاتهم بالفرنجة- إلى التركيز على الصلة الوثيقية بين دين الإسلام، وبين المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كالحكم النيابي، والعدالة الاجتماعية والمساواة، ووضع المرأة، والعناية بالتعليم والصحة إلى آخره، وهي صلة لم تكن لتخطر إلا عرضًا في أذهان المُسلمين قبلهم، وما كانت لتشغل جانبًا كبيرًا من اهتمامتهم.

فتطور المفاهيم والقيم إذن حتمي، سواء ساهم فيه المُفكرون وخططوا لهُ، أم لم يفعلوا، غير أني أعتقد أن هذا التطور إن تُرك وشأنه دون تخطيط وتوجيه من جانب الصفوة قد لا يتخذ دائمًا سمتا إيجابية محمودًا.. قد يسير أحيانًا في الاتجاه السليم: كتوقف عادة خروج عُلماء الدين والعامة في مصر إلى صحراء القلعة لتلاوة صحيح البُخاري وقت ظهور الطاعون، أو تأخر الفيضان، لاعتقادهم الساذج أن هذه التلاوة تؤدي إلى إنكشاف الغُمة، أو سقوط الأمطار، غير أنه قد يسير أيضًا في اتجاه غير سليم: كتفشي ظاهرة تقديس النبي في القرون الأخيرة بتأثير الفكر المسيحي، بعد أن كان المسلمون الأوائل يرون مُحمدًا بشرًا مثلهم لا يختلف عنهم إلا في أنه يوحى إليه. وفي رأيي أنه في عصرنا هذا الذي أخذت فيه مُعظم مجالات النشاط البشري، من سياسية واجتماعية وثقافية وعمرانية واقتصادية بمبدأ التخطيط والتوجيه، فإن التخطيط والتوجيه الواعيين في المجال الديني ليسا فقط ممكنين، بل ولا غنى عنهما في عصرنا الحديث من أجل الوقوف في وجه المفاهيم الضالة، وتعزيز الاتجاهات الحميدة.

 

نقطة الإنطلاق.

سيكون على هؤلاء المُخططين والمواجهين أن يتخذوا من الأسئلة التالية نقطة الانطلاق في مُهمتهم: يعيش مسلموا اليوم في مناخ حضاري يختلف اختلافًا عظيمًا عن المناخ السائد وقت ظهور الإسلام، ف هل بإمكان المفاهيم والقيم التي أفادت أهل القرن الأول الهجري أن تسهم في حل مُشكلات القرن الخامس عشر؟ نحن نعلم علم اليقين أن الجانب الأكبر من التوتر والصراعات النفسية يرجع إلى التناقض الكامن بين مواقف الأفراد الذهنية وقيمهم الروحية، وبين الأوضاع دائبة التغير والتحول في مُجتمعهم، فهل بالاستطاعة إزالة هذا التوتر والتخفيف من حدة هذه الصراعات عن طريق توفير حلول إسلامية لا تتجاهل الواقع الحي، وتتكيف بهذا الواقع، وتضفي على الواقع في نفس الوقت طابعها الروحي الإسلامي؟ إن إعادة تفسير العقيدة على ضوء التغيرات المُستمرة من أجل مجابهتها مجابهة إيجابية، أمر لا غنى عنه إن نحن أرادنا لهذه العقيدة البقاء، بيد أن تعقد مظاهر المدنية الحديثة، وتشابك العناصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية فيها وتأثيراتها المُتبادلة، تجعل من أمر إعادة تفسير العقيدة أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، أفليس إذن من المصلحة أن تتصدى لهذه المُهمة جماعة أو لجنة أو هيئة دائمة تضم نخبة لا من علماء الدين وحدهم، وإنما أيضًا من كبار الخُبراء في علوم الاقتصاد والإجتماع والسياسة، وفي علوم التاريخ والمُستقبل والتحول الاجتماعي، والأطباء وعلماء النفس واللغة وغيرهم، سواء كانوا من العلمانين أو من غيرهم، مُسلمين أو غير مُسلمين، من أجل المُساهمة بمداولاتهم ونتائج نقاشهم في الوصول إلى صياغات جديدة؟

هذا الاقتراح من جانبي ينبع عن حقيقة بالغة الأهمية.. هي أن عالم اليوم بات يشهد سُبلًا مُتفرقة عديدة من سُبل التفكير وأوجه التخصص، كُل منهما له جوانبه الإيجابية والسلبية، ولهُ تأثيره العميق الفعال في منهاجية البحث وإعادة التفسير والصياغة، وبإمكانه أن يُسهم في سد أوجه النقص الملموس في السُبل الآخرى.

 

المُداولات.

قد يبدأ العلمانيون أو دعاة التغريب والمُعاصرة بتأكيد مفهوم “التقدم”، وضرورة طرح القديم البالي متى شئنا مواكبة المدنية والتفاعل مع روح العصر، وقد يرد عليهم التراثيون والسلفيون بأن فكرة التقدم ذاتها قد باتت موضع شك، وأن التقدم في مجالي العلم والتكنولوجيا قد صاحبه فساد القيم، وتدهور في مُستوى الأخلاق وفي الفنون والآداب، وتفشي مشاعر القلق والتوتر والأمراض النفسية، وأنه ليس من المفروض أن يكيف الدين نفسُه وفق البدع المُتغيرة من عصر إلى عصر، وقد ينبهنا العلماء النفس إلى أن خيبة الأمل الواضحة في نمط مجتمعاتنا الراهنة، وفي عصرنا الحديث، بعد قرن أو قرنين من الإيمان المُبالغ فيه بأن العلم سيخلق لنا في المُستقبل عالمًا أفضل، ‏هي التي أدت بالبعض إلى المبالغة في حديثه عن عظمة الماضي وروعته، وفي تأكيده أن القديم أفضل من الجديد ‏لمجرد انه قديم، والسلف خير من الخلف لمجرد أنهم سلف، وأن المصلحة والخير هما في أن نعيد إلى عالم اليوم ‏كافة الأنظمة وأنماط العيش التي كانت سائدة بالأمس، وقد يشير علماء التاريخ إلى تطور العقيدة والشريعة في الإسلام عبر العصور، وأنه من الخطأ والوهم أن نحسب مفاهيمنا الراهنة عن الإسلام من صميم الإسلام الذي بينه القرآن والسنة الصحيحة، ويشرحون كيف أدى تطور الأوضاع في المجتمع الإسلامي إلى ظهور اتجاهات مثل التصوف أو تقديس الرسول والأولياء الصالحين، وإلى وضع الأحاديث ‏ونسبتها كذبًا إلى النبي، وإنقسام الجماعة الإسلامية إلى مذاهب وفرق، وكيف أنه لا ينبغي أن نسمح للدخيل على الإسلام مما لم نجده في القرآن والسنة الصحيحة أن يقف عائقًا دون مسايرة العصر، ‏وأنه بإمكان هذا التحرر من الدخيل ثقيل الوطأة، أن يؤدي إلى تحرير قدرتنا الخلاقة، ‏والتجاوب مع روح العصر تجاوبًا لا يخالف إلتزامنا بالإسلام الحقيقي.

‏وقد يشرح التراثيون الجدد مدى إرتباط العاطفة الدينية بالتقاليد، وكيف يؤدي هدم الإطار الاجتماعي للتقاليد إلى تبديد ‏المناخ المساعد على إذكاء العاطفة الدينية وينصحون بالتالي بالامتناع عن العبث بهذه التقاليد، ولا شك أن غيرهم سيبادر إلى سؤالهم عن طبيعة العناصر المكونة للتقاليد: هل هي مجرد توقير القديم؟ ‏أم هي العادة والمعروف الشائع؟ وسيرد علماء الاجتماع مؤكدين ارتباط التقاليد بالأحوال الاجتماعية السائدة، وأن النمط الاجتماعي وشكل الإنتاج لهما ‏التأثير الاكبر في تغذية العاطفة الدينية وإخمادها، ولكن قد يكون من اللازم من أجل التقدم وزيادة الإنتاج تغيير الظروف الاجتماعية المقترنة بالتقاليد والعاطفة الدينية، ‏فهل ترون التضحية بهدف زيادة الإنتاج، بأساليب الصناعة الحديثة وبالمدن الكبيرة وغير ذلك، من أجل الحفاظ على التقاليد؟

‏وقد يسفر مثل هذا النقاش عن تراجع دعاة التغريب والمعاصرة بعض الشيء ‏عن مفهومهم عن التقدم المطلق وعن اسرارهم على إدراج الظاهرة الدينية في نطاق هذه الفكرة، وقد يعترف السلفيون بأن العلم والتكنولوجيا يحققان تقدمًا لا أنقطاع فيه ولا انحسار، ‏وبأنه بإمكان الدين الاستعانة ‏بطرق البحث العلمي الحديثة ووسائله في تصحيح الأخطاء وتعديل المسار وتوسيع نطاق المعرفة، وإعادة طرح الفروض والنظر في المسلمات و تصنيف المعارف المتراكمة، ‏وبأنه من الخطأ أن يقف الدين حائلًا دون تقدم العلوم، وقد يقر رجال الدين بعد ذلك بضرورة زيادة الإهتمام بالحاضر والحياة الدنيا، وبأن حيوية الحاضر تأبى النظر إليه بإعتباره ‏موقفًا قديمًا قد تكرر، ‏وترفض أن يعالج الداء ‏الحديث بعقار قديم، وقد يعترف علماء النفس بأن الإنسان في زمن الوفرة والسلام يميل إلى الركون إلى فكرة أن الرخاء المادي كفيل وحده بتحقيق السعادة والرضا، وأن الأزمات التي يعاني منها عالم اليوم ساعدت الفرد على أن يدرك أن للمجتمع جذورًا في الروح البشرية هي أعماق مما كان يتصور.

 

تنوع المفاهيم والمواقف.

وقد تُناقش هذه اللجنة أو هذا المجمع موضوع فائدة البنوك، فينبري عالم الدين لطرح مفهومه عن الربا المنهي عنه في القرآن، وكيف أنه يعني أية زيادة في أصل الدين، وبالتالي تُصبح فائدة البنوك من الربا، وقد يأبى هذا العالم الأخذ بحجج رجل الاقتصاد وما ذكره من مُبررات الفوائد في النُظم المصرفية التي تُفيد الاقتصاد القومي من قبيل استغلال الدائن للمدين، وهو الاستغلال الذي لا شك أن القرآن توخى الحيلولة دونه بتحريمه الربا.. ومع ذلك فقد يقبل عالم الدين حجة عالم اللغة إذ يذهب إلى أن الربا في اللغة هو النمو والزيادة (كقولنا: “فلان يربي ولده”، أي يُشرف على نموه)، وحيثُ أنه لا يُعقل أن يكون القرآن قد نهى عن أي نمو أو زيادة في أي شيء، فلابد أن تكون الآية قد قصدت نوعًا مُعينًا من المُعاملات في الجاهلية ربما خفيت طبيعته عنا، أو لم تعد معروفة لدينا اليوم شأنها شأن الأنصاب والأزلام، وهُنا قد يتدخل المؤرخ فيوضح أن الدائن في الجاهلية كثيرًا ما كان يقبل طلب المدين المعسر فيؤجل موعد الوفاء بالدين مُقابل مُضاعفة قيمته، وأن هذه المُضاعفة، لا مُجرد الفائدة، هي المعنية بالتحريم.

وقد تُناقش موضوعات آخرى مثل شهادة المرأة، وما إذا كان من المنطقي في عصر نالت المرأة فيه قسطًا من التعليم مساويًا لما ناله الرجل منه، أن نصر على أن شهادة الرجل الواحد تُعادل شهادة امرأتين، وقد يثار موضوع حصة الأنثى من الميراث التي هي نصف حصة الذكر، وما إذا كان من المصلحة على ضوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة إعادة النظر فيها، وقد يطالب الأطباء بالإدلاء برأي الطب في تأثير الصوم على نمو الصبيان وصحة الشيوخ، ويطالب الاقتصاديون ببياناتهم عن حجم الإنتاج خلال شهر رمضان، وعلماء النفس والاجتماع برأيهم في عواقب حجاب المرأة، وسنعود إلى الأطباء لسؤالهم عن صحة الزعم بأن نسل المحجبات أضعف من نسل السافرات، لما لهذا الموضوع أهمية تتعلق بالتكوين البدني لأفراد الجيل التالي في مُجتمعنا.

وأكاد أجزم بأن اشتراك عدد كبير من عُلماء الأمة في مُناقشة هذه الموضوعات وغيرها، في جو من الحُرية الأكاديمية المُطلقة والصراحة التامة، لا يُعكره تكفير أو سباب أو ضيق صدر، ولا تُفسده المُزايدة أو الاتجار بالدين أو مُراعاة الاتجاهات الفوغائية، لابد أن يؤتي ثمار بالغ الأهمية، كذلك أومن بأن إعادة تفسير المفاهيم والقيم الإسلامية لا يُمكن أن تتم على نحو إيجابي فعال إلا من خلال جُهد جماعي تسهم فيه الخبرات والتخصصات المُختلفة لأناس متنوعي المشارب والنزاعات، قد نشأوا مع ذلك في بيئة اجتماعية واحدة، هي المُجتمع الإسلامي، فبات يجمعهم -رغم اختلافهم، وبالإضافة إلى وحدة المصير- قدر لا يستهان به من أوجه الشبه والاتفاق.

 

التغيير العفوي، والتغيير الواعي.

وأنه لمن المصلحة أن تُدرك الكافة، بأديء ذي بدء، أن الإسلام لا ينفي ضرورة تغيير القيم والمفاهيم بتغير الأزمنة والظروف، فكلمة الإسلام تعني الإذعان لارادة الله والتسليم بغايته، مع العمل على أن تكون هذه الإرادة هي العُليا، وباستطاعة العالم الواعي الذي يدرس حركة التاريخ وطبيعة التغيرات الطارئة بغرض استشفاف كنه الإرادة الإلهية، أن يُميز بين الاتجاهات التاريخية الحتمية التي تُمثل قضاء الله الواجب الرضا به، وبين الأحداث والاتجاهات التي تسير ضد تيار التاريخ، وتُقاوم حتميته، وتُعرقل وصوله إلى هدفه، فيُدرك أن من واجبه أن يُحارب تلك الاتجاهات الأخيرة وأن يُجاهد في سبيل الله ضدها، “حتى تُصبح إرادة الله هي العُليا”، وعليه فإنه يُمكن أن نتصور أن يكون بعض الحركات المسماة بالإسلامية في مُجتمعنا ضد إرادة الله، (وبالتالي غير إسلامية ويحق لنا مقاومتها)، أن هي عميت عن كنه الإرادة الإلهية الكامنة في التغيير، وتجاهلت الحتمية التاريخية، وأبت أن تُغير مفاهيمها على ضوء المعارف المُستجدة، في حين يُمكن  أن تكون جماعات غيرها، دون إدراك واع منها، إسلامية حقًا، إن كانت ذا وعي بالاتجاهات التاريخية، مُساعدة بجهدها على دفعها إلى غايتها المنشودة.

وقد أبدى المُسلمون الأوائل همة عظيمة في سبيل تطوير العقيدة والشريعة والمفاهيم الإسلامية حتى أغلق باب الاجتهاد، ثُم زاد الطين بلة ما أدت إليه عُزلة المُسلمين عن العالم الخارجي في ظل الدولة العُثمانية من جهل  بالتطورات الإيجابية الهائلة التي حدثت في أوروبا خلال عصر نهضتها، فكان من أثر هذا الجهل، مع ما اتصف مُجتمعنا لأكثر من أربعة قرون من سمات الركود والتحجر وقلة التغيرات الطارئة في كافة نواحي الحياة أن ضعفت أو خمدت حاجة المُسلمين إلى تطوير القيم والمفاهيم والعقيدة، فما فتحت أبواب الاتصال بأوروبا مُنذ قرابة قرنين حتى ثارت الأزمة الروحية التي ما كانت لتتسم بذلك القدر الرهيب من الحدة لولا طول أمد العُزلة والركود والأحجام عن الاجتهاد، عندئذ نشأ الإحساس لدى الصفوة بضرورة تطوير المفاهيم، وأدلى البعض كالأفغاني ومحمد عبدة بدلوه في هذا الشأن، غير أن تلك الجهود الفردية مع استنارتها.. لم يجمعها تنظيم، ولم يكُن بوسعها ادراك أهمية التخطيط الجماعي، فلم يسفر عنها بالتالي غير نتائج محدودة.

ونحنُ اليوم مُطالبون بخلق أداة للتغيير وللتوجيه العلمي الرشيد ليحلا محل التغيير العفوي أو اللاشعوري، ومن هُنا تأتي أهمية فكرة المجمع الإسلامي  التي أدعو إليها.. سيكون بوسع مثل هذا المُجمع بنتائج مُداولاته أن يضع حدًا لعملية الانسحاب من التاريخ التي ينطوي عليها فكر الجماعات الدينية الرجعية في أقطارنا الإسلامية، وسيكون من أهم واجباته بصفته مجمعًا إسلاميًا توفير الإجابات الواضحة الشافية على الأسئلة الخمسة التالية:

  • ما هي القيم الإسلامية الأساسية التي ينبغي أن تحكم أي اتجاه إلى التكيف والمواءمة؟
  • ما هي طبيعة التغيُرات الرئيسية التي يشهدها عالمنا المُعاصر؟
  • كيف يُمكن مواجهة هذه التغيرات على ضوء القيم الإسلامية الأساسية؟
  • ما هي التعديلات التي ينبغي إدخالها على القيم الأساسية من أجل ضمان كفاءة أكبر في مواجهة التغيرات؟
  • ما هي حقائق البيئة المُتغيرة التي يُمكننا قبولها على ضوء القيم الإسلامية، وما هي الحقائق التي تُلزمنا تلك القيم بواجب مقاومتها؟

غير أن هذا السؤال الأخير يقتضي منا بعض الإيضاح.

 

حدود التكيف والمُسايرة.

نعلم جميعًا أن الحياة هي عملية مُستمرة من التكيف وفق مواقف دائمة التغير، واختيار القيم التي تحكم هذا التكيف جُزء لا يتجزأ من هذه العملية، قد يُصر عُلماء الدين على وجوب تطبيق مجموعة من الأحكام مهما تغيرت الظروف وطال الزمن واختلفت الأقاليم، غير أن من واجبهم أن يُجيبوا بوضوح، ما داموا على اصرارهم هذا، على تساؤلنا: كيف تتسنى إطاعة هذه الأحكام مادامت الظروف التي سنت الأحكام في ظلها، قد تغيرت؟ وقد يهب الفلاسفة والملاحدة ينادون بطرح الأحكام والقيم القديمة التي تحول دون التكيف وفق الظروف المُستجدة، غير أن من واجبهم هُم أيضًا أن يُجيبوا بوضوح على تساؤلنا: ألا يعني التكيف لمُجرد التكيف إغفال مفهوم الخير والشر سواء كان هذا المفهوم إسلاميًا أو غير إسلامي؟ ولو كان مُجرد التكيف هو المطلوب، فما معيار التفرقة في هذه الحالة بين المُتكيف المُسلم، وغير المُسلم؟

في رأيي، أن الهدف النهائي لدى المُسلم الحق ليس هو مُجرد التكيف حسب ظروف مُتغيرة زائلة، أو بيئة محدودة مُعينة، وإنما التكيف عنده هو مُجرد وسيلة لا يقبلها إلا إن دخلت في إطار مفهومه الديني عن الحياة، فهو يتمسك بمجموعة من القيم الإسلامية يرى لزامًا عليه يتسلح بها وهو في معرض حل مُشكلات الاستجابة للواقع المُتغير، والبيئة الاجتماعية المتطورة، وهو يعترف بأن نجاحه يستلزم تعديلًا هُنا وهُناك في هذه القيم، وهو يقبل مبدأ الإقدام على هذا التعديل، غير أنه لا يقبل أن يكون مُجرد النجاح في التكيف هدفًا نهائيًا إن كان معناه ضياع القيم، وضياع معنى حياته الإسلامية بضياع القيم، ومن حق هذا المُسلم أن يعترض على الرأي التحكمي القائل بأنه إزاء التغير والتطور ليس ثمة غير سبيل واحد للتكيف والاستجابة.. باستطاعته أن يرد بأنه حتى في المجال البيولجي تختلف استجابات الحيوان والإنسان لنفس الظروف الاجتماعية بإختلاف تكوينهما البيولجي، فعند سماع طلق ناري قد يعدو الأرنب هاربًا، وقد يختبيء الإنسان وراء صخرة، وقد يتصلب الضفدع في مكانه دون حراك، بل أن ثمة إختلافًا في الاستجابة ورد الفعل لدى أفراد النوع الواحد باختلاف تكوينهم السيكولوجي، فقد ينبري صبي في شجاعة لمواجهة إعتداء عليه، وقد يشرع صبي آخر في العويل أو التوسل متى تعرض لاعتداء مماثل، ولا شك في أن كُل نمط من ردود الفعل هذه هو من قبيل التكيف والاستجابة، وما دُمنا قد اعترفنا بأن التكيف وفق الظروف الطاريء الواحد أنواع، فلابد من الإقرار بأنه بالإمكان أن نتصور تكيفًا إسلاميًا، وتكيفًا غير إسلامي إزاء التغيرات في الواقع، فالتكيف الإسلامي هو التكيف القائم على أساس من القيم الإسلامية.. حتى لو اقتضى الحال تعديل بعض هذه القيم، ولن يعني هذا التعديل تنازُلًا أو ترجُعًا أو هزيمة كما يدعي المُتطرفون المتزمتون، فالمُسلم قد يقرر قبول الأوضاع، وقد يُقرر مقاومتها، ويكون كُل من قراريه من قبيل التكيف، ومُعياره في هذا القبول أو هذا الرفض يحدده تفسيره الإسلامي للحياة، ومفهومه عن السلوك، غير أنه لن يتقاعد أبدًا عن أداء واجبه الذي يفرض عليه إتخاذ موقف إيجابي واضح من البيئة المتطورة، وهو لن يرضى لنفسُه أن ينسحب من التاريخ.

 

الاهتداء بالقيم الدينية.

إن التمسك بالقيم الدينية هو وسيلة الشعوب الإسلامية لمُقاومة فقر الحياة الروحية في المُجتمع الحديث، وإنما تكمُن المُشكلة في أن الرجعيين من المُسلمين، لا يعترفون بقابلية القيم للتكيف والتعديل مع ثبات جوهرها، ولا يُدركون أن الفشل هو مصيرهم المحتوم ما لم يترجموا التجربة الدينية الحقيقية إلى لغة الظروف المُستجدة، وأن الشلل أو التخريب هو عاقبة كُل مُحاولة لتطبيق الأحكام بصورتها القديمة على هذه الظروف، وستكون من بين المهام الرئيسية للمُجمع الإسلامي المُقترح أن يهديء من مخاوف هؤلاء عن طريق بيان انتفاء التعارض بين التمسك بمفهوم القيم، وبين الاستجابة لاحتياجات البيئة الجديدة، وأنه أن كانت الأولى الكفيلة بتحديد الهدف النهائي من تصرفات المُسلم، فإن الثانية تمكنه من المُعاصرة، وتحول بينه وبين الانسحاب، كما سيكون عليه أن يعرض البدائل الراهنة في ميدان إعادة البناء الاجتماعي للأمة، ويُساعد هذه الأمة على إنتقاء ما يراها منه مُتماشيًا مع المفهوم الأساسي الإسلامي عن الحياة، ورفض ما عداها، فقد يصل هذا المجمع بعد مداولات طويلة إلى اعتراف صريح بأنه ليس ثمة نظم إسلامية مُفصلة في مجالي الاقتصاد والسياسة، رغم زعم الزاعمين وهُراء المُؤلفين في هذه الموضوعات، وهُناك العديد من الأمور مما لا يتناوله الإسلام ونجد لزامًا علينا مع ذلك أن نُطبقه ونأخذ به، غير أن بوسعنا دائمًا أن نستعرض البدائل والنُظم الراهنة، وأن نتبنى بعد دراستها ما نرى من النُظم الاقتصادية والسياسية أنه أكثرها تمشيًا مع روح الإسلام، وما نقتنع بأنه سيُتيح أمام نمط الحياة الإسلامية فُرصة أكبر للنمو والإزدهار.. أكرر: لن تكون هذه الأنظمة إسلامية، غير أنها ستخلق من الظروف ما يُمكن للمُسلم في ظلها من أن يحيى حياة إسلامية غنية.

سيحدد هذا المُجمع سلفًا للمُخططين الاقتصاديين المظالم المُنافية للإسلام التي نُريد استئصالها في ظل النظام الاقتصادي الجديد، وسيحدد للمُخططين السياسيين أشكال السُلطة المرغوب فيها ومفهومه عن توزيع السُلطات ورقابتها، وسيُحدد لواضعي سياسة التعليم والمسئولين عن وسائل الإعلام الأهداف التي ينبغي أن يتوخاها المُجتمع الجديد، وسيكون على جميع هؤلاء وغيرهم أن يلتزموا بهذه الأهداف عند تخطيطهم للنظم الاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية وغيرها، ذلك أنه لا سياسة ولا بناء ما لم نبدأ بمُناقشة المباديء الهادية، وتحديد الأهداف المنشودة، أما أسلوبنا الراهن في مواجهة كُل مُشكلة على حدة، وكيفا اتفق، دون مفهوم شامل مُسبق، ودون إدراك للصلة العضوية الوثيقة بين كافة المُشكلات، فلن يُجدي فتيلًا.

 

التحدي والاستجابة.

لقد بات مُجتمعنا اليوم.. أشبه بخلية النحل التي فقدت ملكتها، قد نرى النحل مُستمرًا في مجيئه وذهابه، وقد نحسب هذه الحركة حياة، غير أننا متى اقتربنا من الخلية لنتأملها بعناية.. ستهولنا مظاهر الفوضى التي ضربت أطنابها فيها بعد رحيل الملكة، والتي جعلت من الأجدى التخلص من الخلية بإلقائها طعمة للنيران، وفي إعتقادي أنه بوسع هذا المُجمع الذي اقترح تأسيسه أن يُعيد إلى مُجتمعنا الإسلامي حقه في البقاء على قيد الحياة بين الأمم النشطة الحيوية المتوثبة حولنا، لقد كان من حُسن حظنا أن ووجهنا بالتحدي الغربي، ثُم بالتحدي الإسرائيلي، فأخرجنا الأول من عُزلة قاتلة، وأيقظنا الثاني من سُبات عميق، وقد خلق التحدي لنا مُشكلة حضارية ضخمة، غير أن المُشكلة ليست مُستعصية على الحل.. هي إحدى تلك المُشكلات التي وصفها نيتشه بأنها لم تقتُلنا، بل زادتنا قوة.. ولكي لا تقتُلنا هذه المُشكلة لابد من التقاء خيرك العقول في كافة المجالات في مُجتمعنا في تنظيم كي تتضافر على رسم معالم النظام إجتماعي جديد، والتخطيط لهُ تخطيطًا واقعيًا لا هو بالمثالي، ولا بالرجعي؛ مهتدية بالقيم الإسلامية التي احتضنها المُجتمع البدوي في القرن السابع، والتي يُمكن مع ذلك أن نوسع مفهومها وأن نُعدله حتى يشمل البيئة المُغابرة التي نعيش فيها في القرن العشرين.

إنه لمن الثابت أن الإنسان يتأثر شعوريًا أو لا شعوريًا بنمط الحياة في مُجتمعه، فإن كان هذا النمط مشربًا بالقيم الدينية.. كان لهذه القيم من الأثر في تكوين الفرد ما يفوق آثر العلاقة الخاصة الانعزالية بين الفرد وربه، بالنظر إلى أن هذا الأثر الأول سيكون من نتائج الالهام المُكثف للأمة كُلها، فيرتفع بذلك مستوى أدائه فوق مستوى أداء الفرد الذي يعتمد على طاقته الروحية وحدها، ويغدو الخلاص الروحي خلاصًا جماعيًا، ومُهمة هذا المُجمع هي التخطيط لهذا النمط المنشود عن طريق تلاقي الآراء والمواقف والأشكال المُختلفة، وتوفير الإطار الديني المُزنظ لنمو مُجتمع حيوي. يُهيء لهذه الاتجاهات المُتعددة فُرصة التعايش والتلاقح، وفُرصة صياغة نتائج مُناقشاتها الحُرة في صورة خطة، حتى تحول دون نهوض القوى المُدمرة نيابة عنها بتكييف طباعنا، وتحديد مصيرنا.

 

الكاتب

  • العالم الإسلامي جوني ويليام آرثر

    كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان