البحث عن كمامة في جيوب أغنياء الحرب
-
أحمد المقدامي
كاتب نجم جديد
لم تعرف مصر طوال تاريخها مصطلح “غني حرب” أو “تاجر الأزمات” إلا مع إنطلاق الحرب العالمية الثانية حيث ظهر على الساحة مصطلح “تاجر الأزمات” و “السوق السوداء” بعد قيام بعض التجار بتخزين الحبوب والبقوليات و السكر خلال فترة الحرب حتى تشح من الأسواق ليتمكنوا من رفع أسعارها، وبزغ في تلك الفترة العديد من التجار الذين تحولوا من تجار صغار إلى أصحاب رؤوس أموال و أطيان وأطلق عليهم مصطلح تجار الأزمات.
أما أغنياء الحرب فهو مصطلح أطلق على فئة من البشر استغلوا فترة الحرب في التعاون مع الجيش البريطاني لتوريد السلع الغذائية او في مجال المقاولات والتشييد أو حتى بعد انتهاء الحرب في تجارة الخردة من الأسلحة التي تركتها قوات الحلفاء و المحور في الصحراء الغربية بعد انتهاء الحرب.
يـــا ثـــريّ الــحرب البغيضة مهلا بــــعــــض هـــذا فـــما ولدت أميرا!!
لو تحسسن ما يصيبك من غم ز تــــمـــنـــيـــت أن تــــعــــود فـــقـــيــــــــرا
أنـــت أشـــقـــيـــتـــنـــا بـــمـا بتّ تقني وأحـــلــــت الــــحـــيــــــاة فــــيـــنـــا سـعيرا
فــــتـــمـــتـــع مــــا شـــئـــت وارتـع فإنا ســـــنــــــرى فـــــيـــــك عـــــبـــــرة ونــــذيــرا
الشاعر محمد مصطفى الماحي
السينما وتجار الخردة
عانى الكثير من المصريين من هؤلاء التجار حتى أن السينما المصرية وقتها أنتجت فيلما يحمل اسم ” غني حرب “ ناقشت فيه أزمة هؤلاء التجار ، ويعد الفيلم الذي أنتج عام 1947 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامين أحد أيقونات السينما المصرية بفضل رؤية المخرج نيازي مصطفى والسيناريست العبقري أبو السعود الإيباري، اللذين وثقا إحدى الفترات العصيبة التي مرت على الشعب المصري جراء إفعال هؤلاء الشرزمة من المتربحيين من الدماء، وهو مادفع تجار الخردة حينها لشن حرب شعواء ضد السينما المصرية التي كانت تمثل أحد أهم أركان الاقتصاد المصري حينها وأكثرها ازدهارًا، ليقتحموا مجال الإنتاج السينمائي بمجموعة من الأفلام الهابطة و الركيكة المليئة بالمشاهد المبتذلة مستغلين معاناة الشعب في محاول الخرج ونسيان ويلات الحرب و أطلق عليها النقاد أفلام “الجمهور عايز كده”.
نجد ذلك تكرر في فترة السبعينات عقب انتهاء حرب أكتوبر المجيدة و ظهور مجموعة من الإفلام الهابطة أطلق عليها ” افلام المقاولات ” لإلهاء الشعب من أوجاع الحرب .
غير أن السينما لم تغفل ذكر هؤلاء ففي عام 1992 أنتج فيلم ” حكايات الغريب ” الذي رصد مشكلة تجار الأزمات وجسد شخصية تاجر الحرب الراحل ” حسين الإمام ” في دور شفيق ، وكذلك في عام 1989 رصد العبقري عاطف الطيب في فيلم ” كتيبة الإعدام ” إشكالية أغنياء الحرب من اللصوص أمثال ” فرج الأكتع ” الذي جسد شخصيته الفنان عبدالله مشرف.
رحلة البحث عن كمامة
في منتصف شهر فبراير الماضي قبل انتشار فيرس كورونا واجتياحه أغلب دول العالم، كان انتشاره محصورا في الصين وما لبث أن تفشى إلى دولة الكويت و لبنان و إيران والعراق و قطر .
حينها تلقيت اتصالاً هاتفيًا من أحد الزملاء يطلب مني مساعدة مجموعة من أصدقائه العاملين في وزارة الصحة بإحدى الدول العربية، قدموا إلى مصر لشراء 5 مليون كمامة نظرًا لتفشي المرض في أمارتهم الصغيرة، وأنهم مستعدين لشراء الكمية بأي ثمن حتى لو وصل سعر العبوة التي تحوي 50 كمامة إلى 250 جنيه، فتعجبت من الرقم و أخبرته أن العبوة جملتها 12 جنيه فقط، فضحك قائلا أنهم لم يستطيعوا العثور على تلك الكمية في أي بلد، وأن سعر الكمامة الواحدة لديهم تجاوز ال 140 جنيه مصري.
فأخبرته أني أعرف العديد من الورش في المحلة الكبرى يعملون في صناعة الماكينات التي تنتج مثل تلك المستلزمات الطبية قد يساعدوه في الحصول على مبتغاه .
وقمت بالتواصل مع صديق لي بالمحلة ، والذي انفجر ضاحكا عندما أخبرته عن تلك الصفقة، قبل أن يستطرد قائلا ” أنت الصفقة دي وصلت لحد عندك دول لفوا مصر كلها ياعم” ، فتعجبت و صمتُ قليلا ويبدو أنه تدارك الأمر وشعر بمدى اندهاشي ،فاستكمل قائلا ” الصين اشترت إنتاج أكبر مصنع كمامات في مصر و كذلك إنتاج الورش الصغيرة لمدة 3 شهور مقدمًا، وهذا سبب عدم عثورهم على الكمية حتى الآن”
فسألته مندهشا و هل الصين في حاجة إلى الاستيراد من مصر ؟ فقال لي نعم أنهم يعانون من عجز رهيب خاصة مع توقف بعض المصانع عن العمل.
فشكرته على المعلومة التي كانت مضحكة له وكانت مرعبة لي، فالصين التي تنتج أي شئ وكل شيء تعاني من نقص حاد في الكمامات فلأي درجة تفشى الفيرس في الصين حتى أنهم يستوردون من مصر، هل انقلب حال الدنيا أم أن الفيرس اجتاح الصين و بات في طريقه إلى مصر ودول العالم أجمع.
من السعودية إلى نيوزيلاندا إلى أمريكا
بعدما أغلقت الهاتف مع صديقي المحلاوي و أنا مصدوم ، تذكرت أن قريب لي يعمل محاميا كان لديه موكلا مقيم في السعودية يعمل في مجال الأدوات و المستلزمات الطبية، فقمت بالاتصال شارحا له مادار حول قصة الكمامات ، فوعدني بالتواصل مع موكله ، وبالفعل بعد نصف ساعة أخبرني أن موكله أوصله بشخص فلسطيني مقيم فى السعودية أيضا يعمل وكيلا لشركة عالمية أمريكية تمتلك أفرع في عدة دول أوروبية و في نيوزيلاندا على استعداد لتوفير الكمية المطلوبة بما يوازي المطروح بالدولار ، فتشجعت و قولت له ” فُرِجَت”
فأخبرني أن عليهم الإسراع لأن الدول ترفض الآن تصدير الكمامات و أن أزمة تلك الأمارة وصلت للسعودية حيث قاموا بشراء 3 مليون كمامة من شركة سعودية، ولكن المملكة رفضت خروج الكمامات نظرًا لبدء ظهور المرض في أراضي الحجاز العربية، وهو مادفع الأمارة للتوجه لمصر.
وهنا علمت أن الأزمة عالمية فبالطبع الدول التي تعاني من الفيرس لديها نفس المشكلة، وشكرت قريبي على مجهوده وقمت بإيصال زميلي بالوكيل الفلسطيني ولا أعلم هل استوردت الأمارة الكمية المطلوبة من مقر الشركة الأمريكية بنيوزيلاندا.
البحث في مصر مرة أخرى عن كمامة
بعد مرور يومين فقط جمعتني الصدفة على إحدى مقاهي مصر الجديدة مع شاب مصري يعمل وكيلا في الشرق الأوسط لشركة انتاج طابعات ثلاثية الأبعاد ومتخصصة في مجال الالكترونيات وهي شركة عالمية تمتلك عدة مقرات في دول .
وتحدثنا في أمور عديدة و منها سفرياته إلى الصين و عن الوضع الحالي في الصين، فأخبرني أن الأمور في الصين تحت السيطرة نظرًا لأن الصين تمتلك تكنولوجيا متطورة جدًا لا تصدرها إلى الدول الأخرى ساهمت في حل جزء كبير من المشكلة على سبيل المثال و ليس الحصر أنه عندما أعلنت الصين حظر التجول في المقاطعات المصابة كانت الريبورتات تقوم بمهمة توصيل الطعام إلى المنازل وكذلك الطائرات المسيرة كانت تقوم بتطهير الشوارع ولديهم أجهزة كشف متقدمة جدًا بالاضافة إلى ان الشعب الصيني شعب مطيع جدا لحكومته و لا يستطيع أن يكسر الحظر حتى لو مات جوعًا.
وما لبث أن أخبرني إنه قام بأرسال 50 ألف كمامة إلى الصين منذ أسبوع ، فأخبرته عن قصة الكمامات التي حدثت معي ، فضحك قائلا حتى لو وجدوها فلن يستطيعوا تصديرها خارج مصر لأن الدولة أصدرت قرارا بحظر تصدير الكمامات و المعقمات .
فسألته وكيف أرسل هو الشحنة إلى الصين، فأخبرني أن الدولة حظرت تصدير المصنع محليا في بداية الأمر فقمت بشراء الكمامات المستوردة من الصين و إعادة إرسالها مرة أخرى ولكن بعده الدولة حظرت التصدير نهائيا.
وتعجبنا جميعا كيف تحظر الدولة التصدير في تلك الظروف وهو ما قد يحقق مكاسب خيالية للورش والمصانع الصغيرة فأخبرنا أنه من المحتمل أن يصل المرض إلى مصر و الكمامات بضاعة ليست رائجة فلم يكن يتم تخزينها لأن استخدامها قاصر على الفئات التي تعمل في مجال الطب، وهذا القرار لتأمين احتياجات الدولة في حالة وصول المرض، و تنفسنا الصعداء فهذا يعني أن الدولة تعمل على تأمين نفسها مقدمًا وهي خطوة لم تخطر ببال أكبر المتفائلين من الأداء الحكومي.
عودة إلى محلة الغزل و النسيج
بعد فترة وجيزة ومع بداية ظهور بوادر الكورونا في مصر عاود صديقي المحلاوي الأتصال بي و سألني عن صفقة الكمامات فأخبرته ما حدث، فأخبرني أن الأفضل الأتجاه إلى التصنيع و أن ماكينات صناعة الكمامات متوفرة و يتم تصنيعها محليا عدا قطعة صغيرة تأتي من الصين، وهي غير متوفرة نظرًا لتوقف المصانع في الصين وهو ما جعل سعر الماكينة يرتفع من 52 ألف جنيه مصري حتى 130 ألف جنيه.
مضيفا أن الماكينة تصنع حوالي 500 ألف قطعة في 10 أيام وهي مربحة جدا رغم تكلفتها العالية، ولكن هناك مشكلة أخرى بعض الخيوط كنا نستوردها من الصين أيضا، فأصبحنا نبحث عنها في دول أخرى ، وهو ما سيضاعف سعر الكمامة .
فسألته هل معنى هذا أن التجار لم يستغلوا الأزمة ؟!
فأجابني بالنفي ، واسترسل في شرح الأسباب التي عادت أغلبها إلى صعوبات التصنيع التي أدت إلى ارتفاع تكلفة كل كمامة ،وعدم توفر بعض المواد الخام وقطع الماكينات و لا ينفي هذا جشع بعض التجار في بعض الأحيان .
هل التصنيع هو الحل ؟
قد يعتبر البعض أن أزمة ارتفاع أسعار منتجات بعينها في وقت الأزمات يرجع إلى عدم اهتمام الدولة بقطاعات التصنيع ، ولكن ما لا يعرفه أحد أنه لا توجد دولة تنتج كل شئ العالم وكله أصبح متعاونا ، فالسيارات المرسيدس تجدها عبارة عن تجميعة مكونات من الصين و أمريكا و ألمانيا و مصر وهكذا فلا توجد دولة فى العالم تنتج شيء كامل من موادها الخام .
دور الدولة توفير المنتج و ليس صناعته فالصناعة و التجارة قطاع خاص و مستقل الدولة توفر له المناخ وتشجعه و تراقب الأسواق لمنع الأحتكار و تعظم من التنافسية بين المصانع والشركات لتقديم أفضل خدمة بأقل تكلفة وهو ماحدث في قطاع الأتصالات فعندما فتحت الدولة المجال للشركات للمساهمة في السوق المصري ظهرت شركات متعددة مثل فودافون وموبينيل و اتصالات و أصبح سعر الدقيقة 5 قروش و 4 قروش، وذلك بسبب التنافس بين الشركات فلو كانت الدولة وضعت يدها على قطاع الاتصالات لظل سعر الدقيقة 10 جنيهات كما كان في أوائل الألفية.
و في أزمة الكورونا تم تبرئة التجار من استغلال الأوضاع ولم يكن ارتفاع السعر يرجع لجشع التجار ولكن لقلة المواد الخام ، ومن هنا يجب علينا أن ننتبه إلى احتياجتنا الأولية و نصنعها و نتخصص فيها.
فمصر دولة لا تعرف أن كانت زراعية أو سياحية أو صناعية ، فهي عبارة عن كوكتيل من كل هذا ولذلك لا تجدنا متخصصين في صناعة معينة نساوم بها مقابل الحصول على الصناعات الأخرى من الدول الأخرى ولا يعني هذا أن نتخلى عن كل القطاعات السابق ذكرها و لكن يعني الاهتمام بالتخصص في مجال معين و باقي المجالات تكون مكملة له.
الكاتب
-
أحمد المقدامي
كاتب نجم جديد