الشعر يا سيدي هو بديل الانتحار.. وصية “أمل دنقل” الأخيرة قبل موته
-
خالد سعد
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
وجه احد الصحفيين سؤالًا إلى الشاعر أمل دنقل عن معنى الشعر، فاجابه :«الشعر يا سيدي هـو بديل الإنتحار» هكذا ظل الشاعر الراحل يموت في قصائده عبر ثلاثين عامًا من الشعر،فلم يكن متفائلًا او عبثيًا، فقد سُئل الشاعر احمد حجازى عنه فى حديث له بالمجلة البيروتية عام 1980، فقال «أخشى على أمل دنقل من عدميته» فعلق عليه ساخرًا فقال: لقد أراد احمد حجازي ان يواري خوفه على نفسه، لأننى أراقب اندفاعه نحو العدمية والتجريد .
لم يمنعه الموت من ممارسة حياته ونزوله للشارع ومراقبة الناس وكتابة الشعر،فلم يكن يعرف غيره، عاش حياته بسيطًا متفرقًا بين مقهى ريش وميدان سليمان باشا«طلعت حرب حاليًا» مقيمًا فى الفنادق والحجرات المفروشة ، لايحمل فى يده أوراق ، يكتب الشعر على هوامش المجلات وعلب الكبريت الفارغة وعلب السجائر ،ممتنعًا عن الاكل فى فترات الكتابة ،يشرب دون إهتزاز اوغياب ،فكان يسمي تلك الحالة بـ«المعايشة النصفية»للواقع. حسبما قال صديقه الشاعر المقرب إليه احمد اسماعيل فى مقاله بمجلة أدب ونقد عام 1984.
يلعب «دنقل»الطاولة عندما يغلبه التوتر ، يتجه إلى المقهى القابع خلف مسكنه الدائم ،كان يؤكد أنها تخلصه من «التوترات الهائلة» والغريب ان ملامح وجهه كانت تتغير . وفى احدى المرات عام 1976 رسم له صديقه الفنان دسوقي فهمي بورتريه أثناء اللعب ،فاعجب به «أمل» وظل متأملا فيها وأعتز بها بعد ذلك ،كما كان الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور يعتز بها أيضًا ،ونشرت فى مجلة «الكاتب»في نفس العام مع« قصيدة سفر الدال» التى بدأ كتابتها فى أكثر لحظات حزنه فى صيف 1975 إثر فقدانه لصديقته البولندية التي جاءت للقاهرة لتحصل على رسالة الماجستير في أشعاره فاحبها وأحبته إلا انها تركته وغادرت القاهرة إلى وطنها
بدأ رحلته العنيدة ضد المرض اللعين الذي هاجمه «السرطان» وصدر قرار رئيس الوزراء لعلاجه على نفقة الدولة –الدرجة الثانية –وكان «أمل»يقيم بالدرجة الاولى وتحمل فارق التكاليف من ماله الخاص ،بل رفض عرضًا كويتيًا من احد اصدقائه ،بالسفر إلى أمريكا للعلاج ،وكان الوسيط بينهما الشاعر «احمد اسماعيل» الذي ذكر الموقف عام 1984 بمجلة أدب ونقد ، أضف إلى ذلك أنه رفض العروض العديدة من أصدقائه للمساهمة في نفات علاجه.
ظل يعايش الموت فى لحظات حياته الأخيرة ، بل اعتبره لحظات للتأمل ، كما رفض ان يعبر عن لحظات ألمه ، فى إحدى الليالي الذي رافقه فيها الشاعر أحمد إسماعيل بالمستشفى ،طلب من «أمل» ان يصرخ باعلى صوته ،فى اللحظات التي كان المرض يفتك بخلاياه وأحشائه فرفض امل ونظر إليه مبتسمًا وقال :«يجب ان تححمل عذابك وحدك ،لأن الصراخ يعنى دعوة الآخرين للمشاركة» كما كان يطرد الذين يبالغون نحوه فى إظهار مشاعر العطف ،وكان دائم السخرية من المرض والخوف والموت .
العجيب أن الشاعر «بدر توفيق» تنبأ برحيل «امل دنقل» عام 1969 في مقاله كتبه بمجلة الآداب البيروتية ،فترة صدور الديوان الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» :« كل هذا يملأ قلبي بالرعب والشفقة على صديقى «أمل دنقل» عندما أذكر كيف مات جمال الدين الأفغاني ،هذا الشريف مصابًا بالفم ،لان «أمل» الذي يكتب شعرًا بعد ان يعصر كل نقطة ضوء فى جسده ،وأعماقه لا يمكن ان يطول به العمر »
وصدقت النبوءة ليموت أمل دنقل عام 1983 ، عن عمر لم يتجاوز الــ43 عامًا ، وكانت وصيته الأخيرة كانت دفنه قرب أبيه في قريته النائية الهادئة بعيدًا عن صخب القاهرة ،وكانه أراد أن يقول أنه ووالده ماتا فى نفس العمر ،وربمــا نفس المرض ، حسبما جاء فى كتاب «أمل دنقل ،شاعر على خطوط النار»لأحمد الدوسري .
ويقول الشاعر الراحل «عبد الرحمن الأبنودي» عن تلك الوصية :«قبل حوالي ثلاثة أشهر أدرك بشفافيته أنه قرب الموت ،فقال لي ولزوجته سيناريو كاملًا عما يريده بعد موته ،قال كل ما له وما عليه ،طلب ان يدفن قرب أبيه وفي قريته وعندما ذهبنا لدفنه ، وجدنا مصلى فى المكان الذي حدده ،فاستأذنا وحفرنا له فيها قبره ، لقد صعقت وأنا أشاهد جسده عندما غسلناه ، بعد وقاته ، كان جسدًا متحللًا ، كيف عاش تحت هذا الجسد؟ أليست معجزة »
الكاتب
-
خالد سعد
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال