همتك نعدل الكفة
562   مشاهدة  

العلمانية في العالم الإسلامي والمسيحي

العلمانية
  • كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.



يختلف تعريف الناس للعلمانية بإختلاف مواقفهم منها، فمنهم من يرى أنها تقصر الاهتمام على الإنسان ومصالحه الدنيوية، وأنها في جوهرها مُعادية للدين والغيبيات، ومنهم من ينفي أنها ضد الدين في شيء، أو أنها تُنكر عالم ما وراء الطبيعة، كُل ما هُناك هو أنها لا ترى الخير قاصرًا على الآخرة، وترى أن الحياة الدُنيا يُمكن أن تكون خبرًا عظيمًا، وأن طلب الخير فيها خير، وهي تذهب إلى أنه ثمة في هذه الحياة الدنيا مقاصد ماديةمن الغباء والخطر إهمالها وعدم الاحتفال بها، وأنه من الحكمة والمصلحة، بل ومن قبيل الرحمة والواجب، أخذُها في الحُسبان، حتى تتوافر الرفاهية المادية لأكبر عدد ممكن من الناس، فهي لا تُنكر أن ما عند الله خير وأبقى، ولكن:

«وما جعل عليكم في الدين من حرج».

(الحج ٧٨).

«يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».

(البقرة ١٨٥).

«قل من حرم زينة الله التي أخرجت لعباده والطيبات من الرزق».

(الأعراف ٣٢).

«ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى».

(طه ٢).

«يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله».

(البقرة ١٧٢).

فأما ما دفع أعدائها إلى وصمها بمُعادة الدين، خاصةً في العالم المسيحي، فإصرارها على الانتصار لحُرية الفكر، ولحق كُل إنسان في أن يُفكر لنفسُه، وحقه في الإختلاف في الرأي بصدد كافة مجالات المعرفة، وفي مُناقشة كافة المسائل الحيوية مثل أسس الإلتزام الخلقي، ووجود الله، وخلود الروح، وسُلطان الضمير، وفي أن يتخذ مباديء الأخلاق الطبيعية أساسًا لنظامه الأخلاقي، وأن يعتبر العقل هادية الأكبر في هذه الحياة الدُنيا، والحُكم الأول في سبيل إيجاد الحلول لمُعضلاته، أما ما يتفق هؤلاء وأولئك عليه بصدد تعريف العلمانية، فهو مُحاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المُسلمات الغيبية.

 

جذورها الحديثة في أوروبا.

يُمكن القول بأن الجذور الحديثة للاتجاه العلماني في أوروبا تمتد إلى أواخر العصور الوسطى، حين وضع أشياع الفلسفة المدرسية حدًا فاصلًا يُميز بين الإيمان، بالمُسلمات الغيبية وبين المعارف العلمية مُعترفين في الوقت ذاته بمجال مُستقل لعلم اللاهوت وللديانات السماوية، مُختلف في طبيعته عن مجال الحقائق التي يُمكن للعقل البشري أن يُدركها وأن يمحصها ويتحقق منها، وقد هؤلاء تأثُرًا عظيمًا بكتابا الفيلسوف الأندلسي ابن راشد، خاصةً بكتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وهو ما ينعكس في تقليل القديس توما الاكويني من شأن العداوة بين المعارف العقلية والديانات المنزلة، غير أن البعض خطا بعد ذلك  خطوة أبعد، فذهب دوني سكوتوس وأوكهام وأنصارهما إلى أن كُل مسائل العقيدة مليئة بالمُتناقضات التي يأبى العقل البشري قبولها، وأنه ليس بوسع هذا العقل أن يؤدي رسالته، وينهض بمهمته، إلا في مجال الخبرات القابلة للتحميص لا في عالم ما وراء الطبيعة، وقالوا أنه على الإنسان أن يفصل فصلًا جليًا بين مجالات المعرفة التي يُمكن للعقل البشري تحصيلها، وبين مجال العقيدة، أي بين العلم والإيمان، وقد مهد هذا الاتجاه لنمو العلم الحديث وتطويره، وشجع على النظر والتحري القائمين على المنطق، كما أدى الاهتمام الشديد الدائب الذي أولاه العُلماء والمُخترعون للمظاهر المتنوعة لعالمي الطبيعة والإنسان، وجهودهم المُثمرة من أجب خدمة البشرية وسد احتياجتها المادية، إلى الغض من سُمعة رجال الدين ومكانتهم، وهُم المشغولون بمسائل وخلافات رأي عدد مُتزايد من الناس أنهم في غنى عنها، وأنها لا تُحقق طائلًا أو نتائج ملموسة، ومع ذلك.. وبالرغم من المُساهمة القيمة التي قدمها لنا عصر النهضة في سبيل تعزيز النظرة العلمانية ونشرها، فإن جذورها لم ترسغ إلا في القرن السابع عشر، وذلك بفضل ديكارت وهوبز، وسبينوزا ولايبنيتز، ثُم ديدرو ودلامبير من بعد، وهم الذين حاولوا لأول مرة رسم صورة عقلانية للكون تقوم على أساس من المعارف العلمية الثابتة، لقد ظل الاعتقاد السائد حتى نهاية العصورالوسطى هو أن الكنيسة تحتكر الوصاية على خير الإنسان في الدُنيا والآخرة، وأن لها حق الهيمنة على الدولة وتوجيه الحكومات التي يقتصر دورها على تنظيم بعض مظاهر الوجود البشري العرضي قصير الأمد في هذه الحياة الدُنيا “متاع الغرور”، أما عصر النهضة فالبرغم من أنه كان يُمثل نقطة تحول هامة في الفكر الفلسفي والفكر السياسي معًا نتيجة إعلائه من شأن النظرة العلمانية، فقد هدد إنجازاته ما اتسم به عصر الإصلاح الديني الذي تلاه مُباشرةً من جهود تستهدف العودة إلى مفاهيم الكنيسة، ففي حين أكد ماكيافيلي واتباعه الكثيرون حق الأمير في أن يحكُم رعاياه مُستقلًا عن الكنيسة، وفي أن يصدر القوانين والتشريعات غير المُنبثقة عن القانون الكنسي، عاد مارتن لوثر إلى بيان ضرورة إخضاع الأنظمة والمؤسسات الدنيوية للسُلطة الدينية، كما تمكن كالفن من تأسيس حكومة ثيوقراطية في جنيف تحكم وفق ما خال أنها شريعة الله.

 

عصر التنوير.

أما القرن السابع عشر فقد شهد تثبيت دعائم العلمانية، وذلك بفضل مُفكرين من أمثال مونتيسكيو أنكروا أن تكون الحقيقة واحدة مُطلقة وعالمية النطاق، وذهبوا لأول مرة إلى أن الشرائع لا تصح إلا متى أخذت في الاعتبار إختلاف المُجتمعات وتباينها، وعكست التطورات المُتلاحقة فيها، وقبلت مبدأ ضرورة تعديلها على ضوء ما يطرأ على كُل مُجتمع من تغييرات، ثُم جاء عصر التنوير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، فكان من أهم ما اتسم به تفجر النزاع حول حق الرجل العادي في النظر بنفسه في أمور الدين والعقيدة، فقد كان ثمة تفرقة واضحة جلية بين رجال الدين وبين غيره، كان على رجل الدين وحده واجب الالمام الواسع بالعقيدة وتفاصيلها، وما كان من أحد لينتظر من غيره التبخر فيها أو يُطالبه بأكثر من فكرة بسيطة  عن الأركان الأساسية للدين، أما غير ذلك من المسائل التي لا يُحيط بها علمه، ولا طاقة لقدرته على الفهم بها، فعليه بصددها أن يذعن لرأي الكنيسة وأن يُطيع أوامرها طاعة عمياء، وقد رضيت الكنيسة بهذا الوضع مُنذ نشأتها، ورضى به الرجل العادي، واستقر الاعتقاد بأنه لا مُناقص من أن يكون هذا الرجل العادي جاهلًا إلى حد كبير بالشؤون الروحية، ثُم طرأ على هذا الوضع تغير جوهري في عصر الإصلاح الديني، فقد سعت اللوثرية إلى تبسيطة العقيدة، وتخليصها من مظاهرهما المُعقدة، وقلصت من نطاق النظريات الكنيسة حتى باتت قاصرة على ما ورد في الكتاب المُقدس، وأنهت إحتكار القسس الكاثوليك للطقوس الدينية، كذلك فقد كان من شأن ترجمة الكتاب المُقدس إلى اللغات الأوروبية المُختلفة أن بات الدين أمرًا قريبًا من مفهوم الرجل العادي، ولا بُد من الاعتراف لكالفن بفضل إتاحة الفُرصة للرعية كُلها أن تقوم بنفسها بتفسير العقائد بعد أن كان هذا التفسير حكرًا على القساوسة، وذلك حين حث كُل مواطن على الاجتهاد، وبين لهُ فضل إقباله على التعمق والتبحر في علوم الدين حتى لا يكون أداة صماء بكماء عمياء في أيدي مُحتكرين، بعضهم من الأفاقين والدجالين، مثل هذا الموقف خلق متنغسًا صحيًا وصمام أمن في الدول البروتستانية حالًا دون إزدهار العلمانية العدوانية التي عرفها العالم الكاثوليكي،ففي الدول الأولى ظهر نوع جديد من المواطنين العاديين المقرين بنتائج البحوث العلمية، والمُهتمين مع ذلك بالنظر بأنفسهم في مسائل العقيدة، أما في الدول الكاثوليكية فسُرعان ما أعقب عصر الإصلاح الديني حركة مُناهضة للإصلاح بزعامة سواريز اليسوعي، أعادت تأكيد الموقف التقليدي البالي، وأصرت على ضرورة أن يُقنع الرجل العادي بفتات المعارف الدينية، والقول بأنه لا بأس عليه من جهله ما دام يذعن إذعانًا تامًا للحقائق التي تُعلنها كنيسته، وقد جاهدت العامة في فرنسا وغيرها من الأقطار الكاثوليكية من أجل تأكيد حقها في أن يكون لها دور فعال نشط في شؤون الدين رغم أنف كنيسته متشبثة بسياسة تجاهل الرجل العادي، وظهر مذهب الينسينية اللاهوتي الذي يؤيد منح الرجل العادي هذا الحق، غير أن الكنيسة أبت أن تكون مسائل العقيدة من شأن الهواة غير المُتخصصين، أو أن تكون في مُتناول أيدي القساوسة المدربين، وكانت خُلاصة موقفها أن ثمة بضع عقائد بسيطة واضحة يُمكن أن يشترك الناس العاديون في استيعابها مع القساوسة، بيد أن هُناك حشدًا هائلًا من العقائد صعبة الفهم مما لا ينبغي للعامة أن تخوض فيها، وعليها قبول حكم الكنيسة بصددها دون إعمال الفكر.

 

رد الفعل.

إزا ء هذا الموقف المتعنت من الكنيسة الكاثوليكية، أضحى البديل الوحيد أمام الكاثوليكي العادي الباحث عن شكل من أشكال التعبير عن نفسه، أن يحول إهتمامته وتساؤلاته وطاقته إلى مجالات لا دخل للكنيسة فيها، ولا يمتد إليها سُلطانها وهي المجالات الاجتماعية والسياسية والعلمية، وإذا أصرت الكنيسة على رفضها اشتراكه بأي وجه من الوجوه في مجال النظرية اللاهوتية واجتهاده في أمور الدين، فقد أصر الرجل العادي من جانبه على ألا تشارك الكنيسة على الإطلاق في المجالات الدنيوية العلمانية، كما أبى أن يستند في بحثه في المسائل الدنيوية إلى مفاهيم لاهوتية ومُسلمات دينية، وكان ظهور هذا الاتجاه المُضاد للكنيسة والمُعادي لرجال الدين مُعاصرًا لنمو الطبقة المتوسطة، وإذا عجز البورجواي المُثقف عن أن يجد لنشاطه مجالًا في الكنيسة باعتباره رجُلًا عاديًا، أدار ظهره كلية للكنيسة، وبات المُحرك الرئيسي للهجمات العنيفة المُتزايدة ضد عُلماء اللاهوت المشغولين بمسائل ما وراء الطبيعة والغيبيات، ولم يكُن في نية هؤلاء العلمانين الجُدد أن يفرقوا بين الكنيسة والدين، أو أن يظلوا على توقيرهم القديم للعقيدة حتى مع مُجاهرتهم بالعداوة للكنيسة، فقد كان العلم قد بدأ يلقى ظلال الشك على أقدس المُعتقدات الدينية، وكان لابد من وقوع الصدام في النهاية، وفي حين زادت بمرور الوقت دقة وسائل العلمانين وسهولة استخدامهم لأساليب البحث العلمي والنقد والتحميص، باتت سُلطات الكنيسة ونظرياتها عاجزة عن الحيلولة دون انتشار العلمانية في كافة المجالات الفكرية والنشاط البشريين، فكان أن تقلص نفوذها في المُجتمع، وكان أن انصرف الناس عنها، خاصةً الطبقة المتوسطة، لا يطلبون منها مُساعدة أو يلتمسون النُصح والإرشاد، وتعلقت الآمال بالعلم وحده باعتباره القادر على تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية والرخاء والسعادة لأكبر عدد مُمكن من أفراد البشر.

 

الدين العلماني.

ظل إذن دور الكنيسة في الانحسار والتقلص التدريجي، خاصةً مُنذ الثورة الفرنسية، حتى بدأ يظهر فيها اتجاه جديد من خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ طلع عدد كبير من رجال الدين في الدول الكاثوليكية والبروتستانية على السواء يقولون بأن العلمانية ليست ضد المسيحية ولا ضد الدين، ويرى هؤلاء أن كنيسة العصورالوسطى أخطأت إذ ركزت اهتمامها على الحياة الآخرى دون الحياة الدُنيا وأبدت احتقارها للمشاغل الدنيوية، كذلك فقد أخطأ العلمانيون الملحدون إذ بالغوا في حصر اهتمامهم على مجال التجارب العملية المُباشرة التي يُمكن التحقق منها فورًا، دون المكونات البعيدة للواقع، ودون الميتافييزيقا واللاهوت، ثُم خرجوا بنظرية «المسيحية العلمانية» قائلين بأنه من الواجب إهتمام المسيحية بالدُنيا اهتمامها بالآخرة، وأن تُتاح للإنسان في عالمه المادي فُرصة تعزيز القيم المسيحية ونشرها، وبأنه يمكن اكتشاف المعنى الحقيقي لرسالة المسيح وتحقيقه عملًا من خلال شؤون الحياة اليومية، وواقع الحياة العلمانية في المُدن.

 

العلمانية في العالم الإسلامي.

أما عن الوضع في العالم الإسلامي فإنه يختلف ويتفق مع ما ذكرناه لتونا عن العالم المسيحي في أمور كثيرة، وأبرز أوجه الإختلاف هو أن الإسلام في صدره لم يعرف كنيسة أو نظام رجال الدين، ولا كانت في دولته وقتها طبقة منهم مُتميزة عن غيرها، فالأمور الدينية والدنيوية واحدة لا تُمايز بينها، وإمام الجماعة في الصلاة هو قائدها في الحرب، ولا إختلاف في زي يحكمه إختلاف المنصب، والقُرآن كتاب مفتوح بلسان عربي مُبين، بوسع الكافة أن تقرأ فيه، ولا كان ثمة من إدعى أن التفسير حكر عليه، وكان النظر في علوم الدين مُرحبًا به.. مُشجعًا عليه، كما كان الاجتهاد في أموره مُتاحًا لكُل من قدر عليه، كذلك كان الإسلام أكثر الأديان إتفاقًا مع المنطق والعقل وطبائع البشر، وكانت تعاليمه أقل التعاليم حاجة إلى الدخول في صراع مع النتائج التي تتوصل إليها العلوم، وبالتالي فإن السُلطة في دولته لم تسع إلى الحد من حُرية العُلماء في أبحاثهم، ولا كانت تنكل بهم بدعوى خطر ثمار علمهم على العقيدة، وليس ثمة كتاب مُقدس أحفل من القُرآن بالآيات التي تحض الناس على النظر والتفكير وتحكيم العقل، ولا أحوى منه على عبارات مثل: «أو لم ينظروا.. فلينظر الإنسان.. أفلا يتدبرون.. أفلا يعقلون.. لعلهم يتفكرون.. لو كانوا يفقهون.. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف.. »، فإن كان قد ورد به بعض المعارف التاريخية أو الجُغرافية أو الفلكية أو غيرها، فهي لم ترد مقصودة لذاتها، وإنما للتدليل على قُدرة الله ولاقتناع قوم ذو حظ من العلوم محدود، ولا بأس من تنمية تلك العلوم فيما بعد بما يتفق مع سعة المدارك، ونمو حصيلة المعارف، وإن كان قد فضل العمل من أجل الآخرة فهو لم يُنكر أن العمل الدنيوي خير، ولا هو أوصى بإهمال المعايش والمقاصد المادية، ولا وقف حائلًا دون السعي من أجل توفير الرفاهية للناس، ولا قضى بإخضاع المؤسسات الدنيوية لسُلطة دينية لا وجود لها أصلًا في الإسلام، أضف إلى ذلك أن بساطة العقيدة الإسلامية وخلوها من كُل مظاهر التعقيد نفيا الحاجة إلى كهنوت يتخصص في الغوص في أعماقها للخروج على الناس بعد ذلك بما يكتشفونه من حقائق، كذا كان الإسلام حين كان الإسلام إسلامًا، فإن كان العصر الأموي قد شهد ظهور جماعة من الأتقياء الذين انصرفوا بكليتهم عن مشاغل الحياة إلى القُرآن يتفهمون معانيه، ويستنبطون منه الأحكام، وإلى الحديث يتلمسونه حيثُ كان، وإلى الجلوس في المساجد يتدارسون التفسير والسنة والسيرة، فإن التفرقة الواضحة بين الفُقهاء وعُلماء الدين وبين غيرهم لم تبدأ إلا في العصر العباسي، ففي ذلك العصر أضحى التعليم الديني أكثر تنظيمًا، وبات فيه من المناهج ما يسمح بالتخصص، فإن درس الدارس هذه المناهج وبرز فيها أمكن اعتباره من الفُقهاء، وإن لم تكُن ثمة درجات علمية يحرزها من أتم دراسته بعد امتحان، إنما كان الامتحان امتحان الرأي المُحيط به من عُلماء ومُتعلمين، وكان الفُقهاء أكثر العُلماء تلاميذ لأن الفقة يؤهل أصحابه إلى تولي مناصب يتعيشون منها كمنصب القاضي، ومنصب المؤدب والمُعلم لأولاد الخُلفاء والأمراء والأغنياء، أضف إلى ذلك أن الفُقهاء سُرعان ما تطلعوا في ظل دولة العباسيين إلى أن تُصبح لهم -دون طبقة الكُتاب والوزراء- اليد العُليا التي أطاحت بالأمويين بدعوى هجرهم للشريعة، فباتوا يصرون على أن يلتزم السُلطان بأحكام الشرع، وهو ما كان يهمهم إذ هم وحدهم المؤهلون في زعمهم لأ يحددوا في ثقة، ماهية الشرع.

 

رجال الدين.

وهكذا بدأت تتكون في العالم الإسلامي طبقة من رجال الدين شبيهة إلى حد كبير بكهنوت المسيحية، وبدأت تظهر فيه الشرور والدواعي التي أدت في العالم الغربي إلى غلبة العلمانية، فقد باتت هُناك الآن طبقة تحتكر مناصب مُعينة، ذات زي خاص تعرف به تصدر الفتاوي وتوجد الرخص لمن يشاء من ذوي السُلطة أو الثروة التتخلص من الإلتزام بحكم من أحكام الدين، تُحاكم وتجلد أو تعزل من قال قولة تُخالف عقيدة السُلطان وفُقهاء السُلطان -كما في محنة خلق القُرآن- تقتل السهرورداي وتسجن ابن تيمية بتُهمة الزندقة، وتصلب الحلاج المتصوف بتُهمة الكُفر، ترى من حقها أن تقفل باب الاجتهاد فلا يجوز لأحد بعد ذلك أن يعمل فكرة في مسألة قضى الأقدمون بحُكم فيها، تغرق الكُتب أو تخرقها أو تُحرقها (فعلها في كُتب ابن راشد)، وتستعيذ بالله وتبرأ إليه من العلوم التي لا تكون سببًا للناس إلى رحمة الله، ووسيلة إلى غُفرانه، (راجع قصة ابن ثوابة في كتاب «أخلاق الوزيرين» لأبي حيان التوحيدي)، فإن كانت لم تقتُل أو تسجن أحد من العُلماء نتيجة لنظرية طلع بها، فلأن العلوم لم تكُن قد بلغت في العصور الوسطى مبلغًا يُمكن للفُقهاء الاحتجاج عنده بتناقض اكتشافتها مع المعارف الواردة بالكُتب المُقدسة، وازداد وضوح معالم هذه الطبقة من رجال الدين المُسلمين حين ارتاي مُحمد علي على مصر، ثُم ولاة الأقطار الإسلامية الآخرى قطرًا تلو قطر، الأخذ بنظامين للتعليم مُتباينين كُل التباين، أحدُهما يلتزم بالنمط الغربي،وتوضيح مناهجه على غرار المناهج في معاهد العلم الأوروبية، ويغفل فيها تدريس الدين وعلومه، في حين يلتزم الثاني بالمنهج الإسلامي التقليدي القديم، وكانت أولى ثمار هذه السياسة أن نشأت هوة رهيبة بين عقلية مُتلقي التعليم الديني، وعقلية مُتلقي التعليم المدني، وبالتالي بين رجال الدين وسواد الناس، وأن أنصرف هؤلاء الأخيرون عن التبحر في العلوم الدينية، ولم يروا بأسًا في جهلهم المُستفحل بها، مُكتفين بأدنى قدر من الالمام بأركان الإسلام والشعائر، لم يعُد بالإمكان مُنذ ذلك الحين أن تتكرر قصة المرأة من العامة التي قامت في المسجد تُعارض رأيًا لأمير المؤمنين عُمر بن الخطاب، فيقر لها عُمر بالصواب وعلى نفسه بالخطأ، ولا بات بالوسع أن نعثر في مُجتمعنا على تاجر خز يشغل نفسه بالفقة كما فعل أبو حنيفة أو يقال يتخصص كما تخصص أبو بكر الباقلاني في درس إعجاز القُرآن، فمجال مثل هذه الدراسات قد ترك بأسره للفُقهاء: طبقة مُتميزة من غيرها من الطبقات في السلوك، وفي الخلفية الثقافية وفي درجة الإلمام بمظاهر حضارة العصر، بل وحتى في الزي واللهجة، فإن ألح على رجل عادي سؤال يتعلق بأمر من أمور دينه، لم ينظر في كب الأقدمين التي بات لا يُطيق فهمها ويدعوها بالكُتب الصفراء، وإنما يلجأ إلى رجل الدين يلتمس عنده الرأي أو الفتوى، ويقبل هذا الرأي أو هذه الفتوى دون جدال لعجزه عن الجدال، ثُم يقبل يده ويلتمس منه البركة كما تفعل العامة مع قساوستها في العالم المسيحي، وقد تقبل رجال الدين المسلمون هذا الوضع بالرضا، وإذل اضطرتهم الحكومات والظروف لأن يقبلوا أيضًا عدم التدخل في مُختلف شؤون الحياة المدنية، حاولوا الإصرار على عدم تدخل المدنيين في الشؤون الدينية، فإن أرادت الحكومة مثلًا أن تدرس لطلبة مدرسة القضاء الشرعي علوم عصرية إلى جانب العلوم الدينية، احتجوا على تدريس علم الطبيعة لأنه: «ومن يُقلل بالطبع أو بالعلة.. فقد كفر عند أهل الملة، وإن طلع طه حسين بكتابه «في الشعر الجاهلي» تقدموا ببلاغ إلى النائب العام يُطالبون بإبادة الكتاب، وإحالة المؤلف إلى النيابة وإلغاء وظيفته»، لأنه تعرض لقصة إبراهيم وإسماعيل في القُرآن، وللقراءات السبع، ولنسب النبي، وأن كُتب الدكتور هيكل سيرة نبوية، أو توفيق الحكيم مسرحية عن الرسول، هاجوا وعجبوا كيف يجرؤ رجال من غيرهم على التصدي لمثل هذه الموضوعات التي خالوها حكرًا عليهم، فإن كانت الظروف لم تتح لهم في ذلك الوقت فُرصة تحقيق مرادهم، فقد مكنتهم في الحقبة الأخيرة من منع عرض أفلام كفيلم «الرسالة» أو مسرحيات كمسرحيتي الشرقاوي عن الحُسين، وإرهاب الحكيم إذ شرع يكتب عن مناجاته ربه ثُم أحجم، ثُم إذا بهم الآن يسعون إلى تجريم طبع الكُتب الدينية دون تصريح منهم، وفرض عقوبتي الحبس والغرامة مع المُصادرة في أحوال المُخالفة، تمامًا كما كانت تفعل الكنيسة في أوروبا في العصور الخالية.

 

النهاية.

خُلاصة القول أن الاتجاه العلماني تبلور في الغرب كرد فعل لتعنت الكنيسة في رفضها أن يكون لغير رجالها شأن في بحث مسائل العقيدة، مما اضطر المدنيين إلى التحول بطاقتهم إلى مجالات رفضوا بدورهم أن يكون للكنيسة دخل فيها، وقد كان المفروض ألا تثور في العالم الإسلامي هذه المُشكلة لأسباب أوردناها، أهمها أن الإسلام لا يعرف كنيسة أو رجال دين، ويُشجع الكافة على النظر في علومه والاشتغال بها، غير أن الظروف التاريخية شاءت أن تقوم طبقة منهم، وأن يدعي أفراد هذه الطبقة لأنفسهم حقوقًا مُماثلة في أمور كثيرة لحقوق رجال الكنائس المسيحية، وأن تنطوي تصرفاتهم على نفس التعنت وضيق الأفق والتحكم، مما دفع بالرجل العادي في العالم المسيحي إلى تبني النظرة العلمانية وإلى تركه الدين بأسره لرجاله والإنشغال عنه بالأمور الدنيوية والعلوم غير الدينية، وقد شهد القرن العشرون في العالم الإسلامي بزوغ اتجاه محمود من جانب المُثقفين من غير رجال الدين إلى النظر في علوم الإسلام والكتابة فيها، وتأكيد حقهم في الاجتهاد، وكان المفروض والمنطقي أن يحظى هذا الاتجاه بمُباركة الفُقهاء وترحيبهم وتشجيعهم غير أن الذي حدث كان خلاف ذلك، وكان على غرار موقف اليسوعيين الذين أنكروا أن تكون مسائل العقيدة من شأن الهواة غير المُتخصصين وأصروا على ضرورة إذعان الرجل العادي للحقائق التي يُدلي بها رجال الكنيسة، فكان أن بدأ يظهر في العالم الإسلامي نوع من الإرهاب للمُثقفين والكُتاب من غير رجال الدين، من شأن امتداد نطاقه، وعجز المُثقفين عن استئصال شأفته، أن يؤدي إلى وأد الاتجاه الصحي الذي كان على وشك أن يفرض نفسه، وإلى شيوخ علمانية مُناهضة للدين ورجاله، وإفساح الطريق في مجال الدين للمزيد فالمزيد من التحجر والجحود والرجعية.

 

الخاتمة.

في النهاية نحنُ نُريد أن تكون كتابة التاريخ على ضوء أهداف محدودة سلفًا، وأن نفهم أنفُسنا الفهم الذي نهواه، وأن تفرض الحقيقة السيكولوجية نفسها على الكاتب والمُترجم لا الحقيقة المُطلقة، وفي رأيي أن فهم الذات والمُجتمع والحاضر مُتعذر في مثل هذه الحالة، بل هو مُتعذر ما لم يستند أيضًا إلى فهم موضوعي للحضارات الآخرى ولتاريخ العالم كُله بحيث تبني ذواتنا ومُجتمعنا على أساس خلفية من مجموع الإنجازات الحضارية للبشرية، غير أن عجزنا عن فهم ذاتنا يؤدي بالضرورة إلى العجز عن فهم الاختلافات الحضارية بين العالم الإسلامي والمُجتمعات الآخرى، وهو أمر يتحمل وزره مؤرخونا وكُتاب السير عندنا، كما يتحمله خطباء المساجد والوعاظ وعُلماء الدين، أو كما قال كارلوس زافون: «من المُستحيل إجراء حوار عقلاني حول المُعتقدات والمفاهيم مع شخص ورثها، ولم يكتسبها عن طريق العقل»، أما أهل الغرب أدركوا أنه لابد في الدراسات التاريخية من قدر كبير من الموضوعية إن شاء الناس أن يفهموا أنفسهم ومُجتمعهم، وأن يدركوا أبعاد حاضرهم، وأن هذه الموضوعية لن تأتي إلا بالإلتزام الصارم بالمنهج العلمي في البحث لا تؤثر فيه المشاعر القومية، أو الآراء السياسية، أو الاحتياجات النفسية.

 

الكاتب

  • العلمانية جوني ويليام آرثر

    كاتب وروائي مصري من مواليد مدينة المحلة الكُبرى، صدر لهُ رواية داليدا عام 2020 ورواية المجدلية عام 2022 عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع، كتب في عدة مواقع، كساسة بوست، وعربي بوست.






ما هو انطباعك؟
أحببته
21
أحزنني
0
أعجبني
22
أغضبني
1
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان