المذاهب الفقهية الأربعة وطُرق انتشارها في العالم الإسلامي

دائمًا ما نسمع إلى مصطلح المذاهب الفقهية لكن في الغالب لا نعرف معناه على وجه الدقة ولا نعرف من هم مؤسسي المذاهب الفقهية. إن المذاهب الفقهية قائمة على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الواردة في القرآن الكريم ثم السنة النبوية، وقد وُضعت تلك الأدلة وفق أصول محددة تتفق في العقيدة والأصول الشرعية، لكنها تختلف في الأحكام المستنبطة بين فقيه أو آخر.

المذاهب الفقهية لدى المسلمين كثيرة إلا أن أشهرها عند أهل السنة أربعة، وهنا سنتعرف على هذه المذاهب ومؤسسيها، وطرق استنباط الأحكام التي اعتمد عليها كل فقيه، وكيف انتشرت في العالم الإسلامي.

أولًا: المذهب الحنفي
المذهب الحنفي هو أول مذهب فقهي يأخذ به أهل السنة والجماعة، ومؤسسه “أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي” المولود عام 80 هجرية، والمذهب الحنفي هو أكثر المذاهب انتشارًا في العالم الإسلامي، وهو مذهب ليس قائمًا على أقوال الإمام ولكن معه أقوال الصحابة، ويعد المذهب الحنفي له فضل كبير على الفقه الإسلامي خاصة في ترتيب أبواب المسائل الفقهية.

من هو الإمام أبو حنيفة
ولد الإمام “أبو حنيفة” في الكوفة بالعراق وعمل بمهنة والده، التجارة، تلقى العلم على يد شيخه “حماد بن أبي سليمان”، وهو من الفقهاء والتابعين في مدينة الكوفة. لازمه أبو حنيفه مدة 18 سنة وبعد وفاته تولى أبو حنيفة رئاسة حلقة الشيخ “حماد” بمسجد الكوفة يدارس تلاميذه من بعده .

أسس قام عليها مذهب أبو حنيفة 
عنه روي أنه قال:” آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسوله فإن لم أجد أخذت بأقوال الصحابة من شئت منهم وادع قول من شئت منهم ولا أخرج عن قولهم لغيره. فعنده القرآن هو المصدر الأول والأعلى في حل المسائل الفقهية ولا يقبل الشك في ذلك، وبعده يأخذ بالسنة النبوية لكنه يقدم السنة القولية على الفعلية لجواز أن تكون السنة الفعلية هي فعل خاص بالنبي فقط، ويقدم السنة المتواترة على خبر الآحاد أي أنه يفضل السنة التي رواه أكثر من راو عن تلك التي رواها راوي ولحد، ثم بالإجماع وهو ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة المجتهدين ثم يلحق بعد ذلك القياس وهو إلحاق فرع المسألة بأصل أو بنص بحكم معين سواء بناحية الوجوب أو التحريم وهو يقدم السنة على القياس ويقدم الحديث الضعيف على القياس .

علاقة أبو حنيفة بالخلفاء والسلطة

كان “أبو حنيفة” عنده خبرة طويلة في التجارة والمعاملات المادية وهذا أعانه على تدوين الفقه الإسلامي فيمَا يخص معاملات الناس إلى جانب فراسته ومهارته. واجه “أبو حنيفة” بعض العقبات، ومنها أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك عام 121 هجرية كان الإمام مؤيد لزيد وقال إن خروجه يضاهي خروج الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وانتهت ثورة زيد بقتله هو وابنه يحيى عام 130 هجرية وهذا اغضب الإمام من الأمويين وابتعد عنهم.

كان والى الكوفة” يزيد بن عمر” يرسل لأبو حنيفة حتى يجعله يختم على كل حكم بضرب العنق والإعدام لكن الإمام ، رفض يتولى المهمة غضب الوالي عليه وأقسم على جلد الإمام بالفعل تم حبسه وجلده حتى ساعده جلاده على الهرب من السجن.

المشكلة الثانية التي واجهت الإمام أبو حنيفة كانت في بداية عهد العباسيين ورأى اضطهاد الأمويين لبيت سيدنا علي بن أبي طالب وآل بيت النبي، استمر ولاءه للعابسين حبا في آل البيت ورفضا للتنكيل بيهم، كان الخليفة أبو جعفر المنصور يغدق في كرمه عليه لكنه كان يرفض وغضب لغضب آل البيت ومن خرج على حكومة أبو جعفر المنصور ، خاصة محمد النفس الزكية بن عبدالله الكامل بن الحسن ابن علي ابن أبي طالب وناصر خروجه على الخليفة ، لذلك وجد الخليقة أنه مساند لأعدائه فأراد اختبار طاعته فعرض عليه منصب القاضي لكن الإمام رفض.

كان” أبو حنيفة”  لا يرتاح لبني منصور كونهم قتلوا بني علي فعاد للعلم فقط ودروسه ولم يقترب من الساسة والقصور لكنه كان مساندًا لبني علي من حين لآخر حتى عرض عليه الخليقة المنصور منصب القاضي فرفض الإمام ، وهذا تسبب في تعذيبه وحبسه، وقال الراوية أنه مات في حبسه مسمومًا والبعض الآخر نفى ذلك وتوفي عام 150 هجرية ودفن بالأعظمية.

أشهر  مؤلفات الإمام أبو حنيفة
ـ علم الكلام
ـ كتاب الفقه الأكبر
ـ الفقه الأوسط

كيفية انتشار مذهب أبو حنيفة 
انتشر مذهب الحنفية وقت تولي هارون الرشيد الخلافة، إذ تولى القضاء يوسف صاحب أبو حنيفة وتابع مذهبه، أيضا اختيار كل القضاة من تلاميذ أبو حنيفة . انتشر المذهب الحنفي في مصر حينما أمر الخليفة المهدي شخص اسمه إسماعيل ابن اليسع الكوفي بتولي القضاء عام 146 هجرية، وهو أول قاضي بمذهب الحنيفية في مصر إلى أن دخل الفاطميين القاهرة وادخلوا معهم المذهب الشيعي الإسماعيلي وعملوا على تبديل القضاة الحنيفية بغيرهم من الشيعة واستمر هذا لحين دخول الدولة الأيوبية مصر ، التي قضت على التشيع، وأنشأت مدارس سنية، لا سيما المذهب السني الشافعي أما في المغرب فدخل عن طريق أسد بن فرات بن سنان لحين تغير القاضي وأصبح المعز بن باديس فأدخل المذهب المالكي.

ثانيًا: المذهب المالكي
أسس المذهب المالكي الإمام “مالك بن أنس” ، ويعود نسيه إلى بني سبأ من عرب اليمن،  أمه هي العالية بنت شريك الأسدية وهم أشهر قبائل العرب القحطانية،  جده هو مالك بن أبي عامر، وكان من رواة الحديث عن سيدنا عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

عن الإمام مالك 

ولد الإمام مالك عام 93 هجرية في خلافة الوليد بن عبد الملك في المدينة المنورة بقرية ذي مرو . كان بيت الإمام مالك يهتم بنشأته وتلقيه العلوم الدينية، وأول ما تعلم الإمام مالك كان علم الحديث أو علم الأثر وشرح الحديث وفهم مدارك السنة النبوية، وهذا لأن جده كان من كبار التابعين  ورواة الحديث. حفظ القرآن وهو طفل ثم اتجه إلى حفظ الحديث وحضر مجالس العلماء، وكان أول من جالسهم من العلماء هو “ربيعة بن أبي عبد الرحمن” الشهير بـ”ربيعة الرأي” فأخذ عنه فقه الرأي.

كانت المدينة المنورة في فترة حياة الإمام مالك هي مهد العلم النبوي وهذا لأن بها عدد كبير من التابعين وقيل إنه لازم” ابن هرمز” ثم أخذ من علماء آخرين مثل “نافع” مولى بن عمر ثم أخذ عن “ابن شهاب الزهري” . أمّا  عن طبيعة عمله فلم تذكر المصادر التاريخية على وجه التحديد حرفته لكن البعض رجح التجارة وقيل إن الخلفاء  كانوا يتولون إرسال الهدايا له فكان يقبل عطية هارون الرشيد عمن سواه.

اتخذ الإمام مالك مكانًا له في المسجد النبوي لإلقاء دروسه وفتاواه وحل المسائل الفقهية بعد أن أجاز له شيوخه ذلك، واختار نفس المكان الذي كان يجلس فيه سيدنا عمر بن الخطاب بالمسجد، وهو نفس المكان الذي كان يعتكف فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما سكن نفس الدار الذي سكنها عبدالله بن مسعود.

بعد مرض  الإمام مالك نقل مسجده إلى داره وكان يخفي طبيعة مرضه “بسلس البول” وفضل أن يبقى في داره لحاجته الدائمة إلى الوضوء. يذكر أنه عندما كان الناس تأتي إلى داره يرسل جاريته تسألهم هل جاءوا في مسألة فقهية أم للحديث فإن قالوا مسائل خرج إليهم فورًا، وأما لو كان للحديث يقول لجاريته أجلسيهم حتى يغتسل ويتطيب ويلبس أجمل الثياب ويتبخر لأنه يرى أن هذا لا يليق بحديث رسول الله .

أصول مذهب الإمام مالك 

أما أصول مذهبه فلم يكن له أصول فقهية خاصة لكنه بنى على القرآن والسنة والإجماع وعمل أهل المدينة والقياس والمصالح المرسلة والعرف والعادات وسد الذرائع.  كان الإمام مالك يفضل البُعد عن الثورات والسياسة والفتن، ورغم ذلك طاله غضب أبو جعفر المنصور لدرجة أنه تم جلده وتسبب والي المدينة في الوقيعة بينه و السلطان وكان تعذيبه أسباب سخط في المدينة على الخلافة العباسية .

أشهر مؤلفات الإمام مالك

من أشهر مؤلفات الإمام:
ـ كتاب الموطأ وهو من أوائل الكتب في الحديث وأشهرها .

ـ ورسالة القدر والرد على القدرة.

ـ وكتاب في النجوم والحساب .

طرق انتشار مذهب الإمام مالك

أما عن انتشار المذهب المالكي فانتشر فالحجاز ومصر وتونس ثم الأندلس، ومازال المغرب يتبع المذهب المالكي. دخل المذهب المالكي مصر عن طريق عثمان بن الحكم الجوزامي،وظل مذهب مصر إلى جانب الحنيفية إلى أن دخل المذهب الشافعي وحل محله سنة 200 هجرية.

ثالث: المذهب الشافعي

المذهب الثالث فهو مذهب الشافعية وينسب إلى محمد بن إدريس الشافعي القرشي المولود سنة 150 هجرية، وهو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، ومؤسس علم أصول الفقه، ولد بغزة وانتقلت به أمه إلى مكة.

حفظ القران وعمره 7 سنوات ثم بدأ في طلب العلم فحفظ موطأ مالك وهو ابن 10 سنوات ثم ترك مكة وذهب إلى المدينة لتلقي العلم على يد الإمام مالك بن أنس وبعدها هاجر لليمن ثم إلى بغداد ليطلب العلم عند القاضي محمد الشيباني ودرس المذهب الحنفي إلى جانب المذهب المالكي.

يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد عبد مناف بن قصي وقيل إن نسبه من أمه أنها أسدية يمنية وهي فاطمة بنت عبدالله الأسدية وقيل إنها قرشية علوية يعود نسبها لنسل الإمام علي بن أبي طالب وانتقلت به أمه للحفاظ على نسبه لأهل البيت بعد وفاة أبيه ف دي سن صغير .

لازم قبيلة هزيل ليتفقه في اللغة العربية، إذ كانت أفصح قبائل العرب فتعلم منهم الشعر، لما رجع مكه مرة ثانية حينها سمح له مفتي مكة وقتها “مسلم بن خالد الزنكي” بالفتوى، هاجر للمدينة للقاء الإمام مالك بن أنس ليطلب العلم منه وورد عن الإمام مالك أنه قال له:” يا محمد اتقي الله وأجتنب المعاصي سيكون لك شأن..  إن الله قد ألقى في قلبك نورا فلا تطفأه بالمعصية”.

منه أخذ علم الفقه وبعدها عاد مرة أخرى إلى مكة ليلقي دروسه في الحرم المكي ويتحدث في المسائل الفقهية حتى تولى الخليفة عبد الله بن المأمون وبدأ يقرب منه المعتزله ويجعلهم حاشيته وهذا كان سبب كافي لبعد الشافعي عن الخليفة وحاشيته إلى أن طلب منه الخليفة تولي القضاء فرفض وبعدها توجه إلى مصر ونزل على أخواله من الأسدين و وجد الناس في مصر على مذهبين أما الحنيفية أو المالكية واستطاع أن يدخل المنهج الثالث وهو منهجه الشافعي إلى جانب انتشاره في مكة والسودان وبلاد الشام والعراق وفارس وخرسان. توفي الإمام الشافعي في مصر ودفن فيها عام 204 هجرية وعمره 54 سنة.

إقرأ أيضا

هانا ميلبرانت وجاكسون بورغيت.. أطفال عانوا من جشع وجنون أمهاتهم

مؤلفات الإمام الشافعي

ومن أشهر مؤلفات الإمام الشافعي :

ـ كتاب الرسالة القديمة والرسالة الجديدة.

ـ وكتاب اختلاف الحديث.

ـ وكتاب أحكام القرآن.

رابعًا: مذهب الحنابلة
ورابع المذاهب الفقهية مذهب الحنابلة الذي أسسه الإمام أحمد بن حنبل. وقد وُلد الإمام  عام 164 هجرية، واختلفوا في مكان مولده ما بين مدينة مرو أو خرسان. تربى يتيم الأب وعاصر المحدثين والمتصوفة وعلماء اللغة والفلسفة. حفظ القران في صغره ثم دخل الديوان ليتعلم القراءة والكتابة تزوج بعد أن أصبح في سن الأربعين من العمر لانشغاله بالعلم.

لما بدأ يطلب العلم كان أمامه عدد كبير من العلماء في مختلف العلوم الشرعية الإسلامية بعدها اتجه إلى الفقه ورجاله الذي جمعوا بين الرأي والحديث وأول من تلقى العلم على يده هو القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبو حنيفة، وبعدها أخذ العلم عن علماء الحديث في العراق والشام والحجاز وتُهامة.

بدأ اتجاه الإمام أبو حنبل للحديث علم 179 هجرية، ظل يدرس الحديث في بغداد على يد علمائها مدة 7 سنوات حتى رحل إلى البصرة لطلب العلم من أهل الحديث. لزم الأئمة منذ أن كان في عمر الـ  16 ثم رحل الحجاز عام187 هجرية وهناك التقى بالأمام الشافعي في مكة بعدها اتجه للكوفة.

بعدما جمع الإمام ابن حنبل العلم من العلماء جلس للفتوى ولم ينصب نفسه لذلك ولكن نصبه الناس وهو ابن الأربعين لإفتائهن في الحديث والفقه.

أصول مذهب الإمام ابن حنبل

وتقوم أصول المذهب على القرآن والسنة وفتوى الصحابة والإجماع والقياس والاستصحاب والمصالح وسد الذرائع . توفي الإمام عام 241هجرية ودفن في بغداد عن عمر 77سنة.

أشهر كتب ابن حنبل 
ومن أشهر كتب ابن حنبل :
ـ المسند
ـ معرفة الرجال
ـ والأسامي والكنى
ـومسائل الإمام أحمد
لم ينتشر مذهبه كما المذاهب الأخرى بسبب بعد مذهبه عن الاجتهاد، كما أنه ابتعد هو وتلامذته عن السلاطين والقضاة .

المذاهب الأربعة هدفها اتباع الحق والأخذ بالقرآن والسنة أما الاختلاف خاص بالمسائل الفقهية وهي غالبا مسائل فرعية بعيدة عن الأصول، الأئمة الأربعة اشتهروا بالصدق وتتبع العلم الشرعي الصحيح فلم يكن علمهم سدى .