رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
1٬229   مشاهدة  

 المصريون و رغيف العيش .. محاولة لقراءة روحٍ عريقة

رغيف العيش
  • - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد



 

يعدُّ رغيف العيش ، لدى المجتمعات الإنسانية كلها، معادلا لمعنى الوجود نفسه؛ فالعدم هو المرادف لغيابه، والكلمة بالمناسبة، أعني كلمة العيش تحديدا، لا تشير إلى الخبز فحسب، لكنها، بالإضافة إلى الخبز، تشير إلى معان أكبر تماما (العيش، لغويا، يعني الحياة، ويعني ما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدَّخل، ويقال عيش بني فلان كذا بمعنى ما يعيشون عليه)
لدى المصريين، بالذات، ما يصنع قصصا وقصائد في دوائر علاقتهم برغيف العيش؛ فلهم أدبهم الخاص في التعامل مع الرغيف، ولا أظن أمة تقسم برغيف العيش إذا أرادت الحلف بشيءٍ غالٍ مصدَّقٍ سوى أمتنا، هي الأمة التي تقدِّر الرغيف تقديرا عظيما بالأساس؛ فترفعه وتمسحه ظهرا وبطنا إذا سقط على الأرض، وتقبِّله بحميميةٍ بالغة، وتستغفر ربَّها فورا كخائفةٍ من عواقب سقوطه غير المقصود، وهي التي تزدحم عليه ازدحاما رهيبا في مخابزها الوافرة العامرة، حتى يكاد الرجل الكبير القوي من رجالها أن يخرج من مكانه هناك صغيرا ضعيفا، من فرط التكالب والصراع الصاخب، لكنه جِدُّ سعيد لأنه حصل على أرغفته المشتهاة!.

صحيح من عادات المصريين الشهيرة أنهم يلقون بعيشهم الباقي، بعد الوجبات، في القمامة، غير أنه بُعْد يؤكد محبتهم للعيش ولا ينفيها؛ فالعيش عندهم ما كان مكتملا لا ناقصا، ونظيفا لا ملوثا بآثار الأطعمة، وخالصا تماما من تناول الأيدي له على الموائد.. وإن لم يكن الأمر كذلك؛ فليفسر لي مفسِّر: لماذا ينزعج المصريون انزعاجا رهيبا حين لا يجدون الرغيف؟! وحين يخرجون من الأفران برغيف محترق أو تجلِّله الشوائب؟! وليفسِّر لي مفسِّر: لماذا يرفضون الرغيف إذا شعروا أنه ليس طازجا بل بائتا وبدا كما لو كان تعرض لأعين الناس وتقليبهم إياه؟!.

لا تفسير إلا المحبة، والارتباط اللافت برغيف العيش (المكتمل) الذي يقاتل هؤلاء الطيبون من أجله، ويعتبرونه كافيا لإشعارهم بالصمود، بل يردُّ الواحد على صاحبه إذا عزَّاه في ضنكه البالغ: الحمد لله لا يزال عندي عيشٌ في الثلاجة!.

كانت الأفران البلدية في الماضي تغني أهل البيوت بالعيش؛ فلا يحتاجون إليه من المخابز الآلية إلا لِمَامًا، غير أن الزمن تغير تغيرا ينتصر للآلة الجامدة على حساب حيوية الإنسان، وتغيرت الأذواق؛ فمالت إلى صناعة السوق المبهرة لا الصناعة المنزلية الآمنة، وانشغل الناس في الحقيقة عن مثل ذلك الصنيع الجميل بأعمالهم وأولادهم، وارتفعت تكلفة المواد المستخدمة في صناعة الأرغفة المنزلية أيضا للأمانة، كما ارتفعت الأسعار عموما، وانقرضت الأجيال الأصيلة الخبيرة التي كانت تقوم بالمهمة الجليلة، كما حلَّ اعتقاد خاطئ عجيب بأن خبيز المنازل لا يناسب وجاهة الخلق، دعمه الاهتمام الجديد بالمظهر الاجتماعي على حساب الجوهر، فحلَّ مثل ذلك الكلام الأجوف محلَّ الخير الذي كان الخلق ينتجونه بأنفسهم، ويوزِّعون من فائضه على أقربائهم وجيرانهم، من باب التودد والمعروف.

 

إقرأ أيضًا…أصحاب الأوزان الكبيرة .. المادة الخام للإفيه والعنصرية

ضع صورة على صفحتك بالسوشيال ميديا للرغيف الشمسي الذي أنتجه الصعايدة الجنوبيون خصوصا، من زمنٍ قديمٍ، ولا يزالون ينتجونه لكن بمعاناة كبيرة وبثمن مبالغ فيه، على عكس ما فات، وراقب كمية الإعجاب التي سيحصل عليها من جميع البيئات المصرية والطبقات، القلوب الحمراء بصورة أكثر كثافة، وستعلم وقتئذ، بما لا يدع مجالا للشك، أننا خائبون في مسألة فقه جذورنا، أعني الخيبات الحكومية بالأخص، وجميعنا لا نحسن الاستثمار فيما يمكنه أن يميزنا، بل يكون علامة زمنية مستمرة على غنانا وتفوقنا.. والسؤال المشروع هنا: هل هناك قيمة استثمارية تعلو قيمة استثمارنا في رغيف العيش- سيما الرغيف الذي يعبر عنا ببساطة ووضوح؟!.

قبل أن تعلن وزارة التموين، في الأيام الأخيرة، خفضها لوزن رغيف الأفران الآلية إلى 90 جراما، وقد كان 110، أي خفضه بنسبة 20 جراما تامَّة، بدعوى تجويده، كان المصريون فقدوا نصف علاقتهم اللطيفة العبقرية بالرغيف تقريبا؛ فالمنتج صار رديئا بكل معنى الكلمة، طاله الغش، وعبث به خبازون عابثون ليسوا كأسلافهم، وأهملته حملات التفتيش الموجهة لا العمومية. وقد يسأل سائل بسيط هنا (وله الحق كله): أما من سبيلٍ للجودة العالية المزعومة بينما الرغيف العزيز محتفظ بوزنه الطبيعي؟!..
هذا غيض من فيض، ووالله لا يستهين أحد من الناس بما بين المصريين ورغيف العيش من رسوخ الصلة ومتانتها إلا أن يكون واحدا من ثلاثة: مجنونا، أو تافها، أو غريبا لا يعرف المصريين ولا مديحهم العالي لسنابل القمح التي تأتي منها الأرغفة بعد الحصاد والتنقية والطحين والتخمير والخبيز (ما أبلغ قول شاعر العامية المصرية الراحل الفذ صلاح جاهين: القمح مش زي الدهب/ القمح زي الفلاحين).

إن المداخل لعقل المصريين ووجدانهم كثيرة، لمن أراد أن يدخل باحثا ودارسا
وفاحصا ومتأملا، لكن يظل رغيف العيش من أبرزها، هذا الذي كان عظيم القيمة في أعوامه الغابرة، ثم جعلوه متوسط القيمة، إلى أن انعدمت قيمته أو كادت، تلك التي هي من قيمة الشعب العريق المجبر على شرائه وتناوله في جميع الأحوال!.

 

الكاتب

  • رغيف العيش عبد الرحيم طايع

    - شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة

    كاتب نجم جديد






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان