المقاهي والأدباء
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
لا مفر.. لا بد من اللجوء إلى المقهى. هنا يتنزل الوحى، وها هو قد نزل بالفعل. وإن كنتُ لا أعرف لمَ ارتبطت الكتابة بالمقاهي..
شخصياً لا علم أدبي نشرته إلا وتم كتابته على مقهى ما. وربما عدة مقاهي.. دار الغواية مقهى الكرنك بفيصل، كيس أسود ثقيل مقهى ميدان رمسيس، رب الحكايات مقهي السندباد بفيصل، قانون البقاء هي ابنة المقاهي بامتياز، تقريبا كل فصل على مقهى مختلف..
في الحقيقية لست الوحيد المتيم بالمقاهي أثناء الكتابة.. غيري كُثر.. نجيب محفوظ مثلا اشتهر بالكتابة في مقهى، بل اعتمد المقاهي كـ مكاتب بديلة للعمل..
لهذا فإن أعظم أعماله الروائية ولدت في مقاهي كـ علي بابا، ريش، الفيشاوي، قشتمر، وزقاق المدق.. وغيرهم..
وارتباط نجيب محفوظ بالمقاهي برز بصورة أدبية واضحة من خلال رواية الكرنك، وهي الرواية التي تدور أحداثها بداخل المقهى.. الكرنك..
وهو ما فعله الكاتب خالد إسماعيل حين نشر روايته (زهرة البستان).. وهو مقهي بوسط البلد اشتهر بكونه قبلة الأدباء والشعراء.. حتى أنه هذا المقهى، والذي يقع في نهاية ممر مقهى ريش، حرص على إعلان ذلك من خلال اللافتة الخاصة بالمكان: (قهوة البستان للأدباء والفنانين).
تلك القهوة تفتخر دوما بأنها كانت مصدر إلهام لكبار الشعراء والأدباء كـ يحيى الطاهر عبد الله، نجيب سرور، خيري شلبي، إبراهيم عبد المجيد.. قائمة لا يمكن حصرها..
هذا الثراء جعل منها قبلة لكل أديب شاب، وهو ما رصده خالد إسماعيل في روايته بدقة، حيث يعتبر هذا المكان شهادة ميلاد حقيقية وموثقة لهذا الأديب.
وزهرة البستان ليس حالة متفردة.. في على سبيل المثال سنجد مقهي ريشة وأهميته في النهوض بالثقافة العربية والفن كذلك، وهو المقهى الذي تبني أم كلثوم في بداية مشاورها الفني، وفتح لها أبوابه وهي فتاة لا تزال، وسمح لها بأن تقدم وصلتها الغنائية عوضا عن الشارع والوقوف أما جروبي..
وهو المقهى الذي خصص لنجيب محفوظ ندوة أسبوعية، يجتمع فيها كبار الفكر والفن والأدب..
بالإضافة إلى دوره الهام في ثورة 1919م والتي شارك فيها بشكل سري، وهو ما تم اكتشافه مؤخراً حين عثروا عن غرفة سرية بقبو تحتوي على مطابع ومنشورات تعود لثورة 19.. ومنه أيضاً خرجت الحركات والثورات عبر تاريخه..
أعتقد أن هذا العشق المتبادل بين الفن والمقاهي هو السبب الرئيسي لكونها المكان الأنسب للإبداع..
الآن أتذكر أبو السعود الأبياري الذي كتب ثلث السينما المصرية على المقاهي، يد تحمل اللي وأخرى تبدع بالقلم..
وهو ما يذكرني أيضاً بوحيد حامد وأسامة أنور عكاشة.. وعشرات وعشرات من الكُتاب الذين ارتبطوا ابداعيا بالمقاهي..
ارتبطوا بها لدرجة أن البعض أتخذها بيتاً له. الله يرحمك يا مكاوي يا سعيد.. كان مكاوي سعيد أيضاً من عُشاق المقاهي، وبالأخص زهرة البستان، الصديق الوحيد الذي لا تحتاج أن تهاتفه أو أن تتفق معه على موعد.. كان دائماً موجودًا على كرسيه بمقاهيه المفضل.. لهذا ليس من الغريب أن تُزين جدارية عملاقة لمكاوي على الحائط المجاور لقعدته الدائمة..
تلك العادة، الكتابة على المقاهي، حرص الكاتب وحيد طويلة على توثيقها من خلال روايته جنازة جديدة لعماد حمدي. والتي وضمت ضمن هوامشها قائمة طويلة بالمقاهي التي كتبت فيها، مع ملاحظات عن كل مقهي ومميزاته وعيوبه..
لذلك استحق وحيد طويلة لقب عمدة المقاهي.. وهو لقب يعتز به! وله الحق.. فـ المقاهي بيت الفن الأول، بداخلها حُكيت السير على أنغام الربابة، وكانت ساحة لتقديم الحاوي، عازف البيانولا، القرداتي وغيرهم من الفنانين الذين وجدوا في المقهى مسرح مفتوح لتقديم فنونهم على الجمهور..
ومع التقدم، لم تتوقف المقاهي على الاهتمام بالوسائل الحديثة لبث الفن.. فالراديو عُرف في بدايته بداخل المقاهي، وكذلك التلفزيون، ومن بعده الفيديو وهكذا..
الآن، وأنا أوشك على الانتهاء من تلك المقالة، أرشف رشفة أخيرة من كوب الشاي، وأردد ما ردده الأبنودي وهو يستقبل وحيه على قهوة بشبرا: “كوباية شاي القهوة غير كوباية شاي البيت خالص”.
ربما لذلك يٌفضل الوحي المقاهي عن أي مكان آخر..
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد