الوساطة الرباعية بتأييد مصري .. قراءة في دلالات الموقف المصري السوداني من سد النهضة
-
طاهرة توفيق
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
دفعت التصرفات الإثيوبية الأحادية دولتي المصب؛ مصر والسودان لتنسيق المواقف إزاء هذا الملف وتحديد الموقف من الوساطة الرباعية إذ يؤكد البلدين أهمية التواصل لاتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة بما يحقق مصال الدول الثلاث ويحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان، كما طالبا إثيوبيا بإبداء حسن النية والانخراط في عملية تفاوضية فعالة يرعاها الاتحاد الإفريقي، من خلال تشكيل رباعية دولية تقودها وتسيرها جمهورية الكونجو الدمقراطية، بصفتها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، وتشمل كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، للتوسط في المفاوضات للتوصل لاتفاق ملزم.
ذكر تقرير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أن هناك مفاوضات ماراثونية حول ملف سد النهضة ترنحت بين الوساطات الدولية، وسط تعنت إثيوبيا التي كانت ترفض مبدأ الوساطة للوصول لاتفاق ملزم بشأن السد؛ فيما عانت دولتا المصب من القرارات الأحادية التي مازالت تنتهجها الدولة الإثيوبية، والتي شهدت حالة من الانسداد السياسي حتى مع دخول الاتحاد الأفريقي برئاسة جنوب أفريقيا والوساطة الأمريكية.
ومع تغير الإدارات السياسية، كان هناك مزيد من الأمل حول حدوث انفراجة وحلحلة سياسية حتى مع تغير الإدارة الأمريكية ووجود بايدن الذي كان يرغب منه الجانب الإثيوبي أن يتخذ موقفًا مغايرًا لموقف ترامب من قصية السد، ولكن على العكس اتخذت إدارة بايدن موقفًا مهتمًا بالقضية ذات الأوراق الواضحة للإدارة الأمريكية خاصةً في ظل ما تعاني منه الدولة الإثيوبية من خلافات حدودية مع الجارة السودانية، وأزمات إنسانية في إقليم التيجراي، ومشاكل انفصالية داخلية قد ساهمت في لفت أنظار الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للدور الإثيوبي المتباطئ الذي لا يهتم غير بالصالح السلطوي وليس التنمية التي تزعم الحكومة الإثيوبية تحقيقها.
يُضاف إلى هذه المتغيرات تولي الكونغو الديمقراطية رئاسة الاتحاد الأفريقي؛ كونها أحد دول حوض النيل المعنية بالأزمة وقربها بشكل أعمق من الأزمة في ضوء رؤية تهدف لتحقيق التنمية دون الإضرار بمصالح دول حوض النيل، مما يعد رسالة بأن تكون قضية السد على رأس أولويات أجندة الكونغو بعد توليها رئاسة الاتحاد.
هذا إلى جانب اللقاءات الدبلوماسية المكثفة من الجانب المصري والسوداني مع ممثلي الاتحاد الأوروبي والدول العربية والأفريقية بشأن مناقشة القضية الأكثر تأثيرًا على دولتي المصب، وانتهت باتخاذ موقف مماثل يتضمن تأييدًا مصريًا للمقترح السوداني بشأن المشاركة الرباعية الدولية في مفاوضات سد النهضة وتضم إلى جانب الاتحاد الأفريقي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للتوصل لاتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل السد في أقرب فرصة ممكنة.
رئاسة الكونغو للاتحاد الأفريقي وحلحلة قضية سد النهضة
شهدت مفاوضات سد النهضة في ظل وساطة الاتحاد الأفريقي أثناء رئاسة جنوب أفريقيا على مدار العام الماضي مزيدًا من التباطؤ الإثيوبي، عقب الرفض الإثيوبي لمسودة الاتفاق الملزم الذي تؤكده القاهرة، وتوصلت إليه في ظل وساطة الإدارة الأمريكية، فجاءت المطالبة بوجود مزيد من الخبراء الأفارقة؛ حتى وصلت المفاوضات إلى نوع من الانسداد السياسي.
ولكن مع تولي الكونغو الديمقراطية انفتح الباب أمام مؤشر حدوث حلحلة إيجابية في قضية السد، من خلال توافق الرؤية مع الجانب المصري والتي ظهرت في زيارة الرئيس فليكس تشيسيكيدي إلى القاهرة قبيل توليه رئاسة الاتحاد الأفريقي في فبراير الماضي، وتأكيده أولوية القضية على الأجندة الأفريقية خلال فترة توليه.
وتنبع أهمية الوساطة الأفريقية في ظل رئاسة الكونغو الديمقراطية لكونها أحد دول حوض النيل من منطلق التعاون المشترك القائم على التكامل دون الإضرار بمصالح الشعوب، والتحفظ على كل ما يهدد الأمن المائي لدول الحوض بالكامل، مما سيعطي الملف ميزة إيجابية لإمكانية لجوء كل من مصر والسودان إلى المجتمع الدولي وغيرها من السيناريوهات البديلة التي تحتاج إلى دعم الاتحاد الأفريقي للدخول فيها، مما يعد مؤشرًا إيجابيًا على وجود أداء مختلف من الاتحاد الأفريقي عما شهدناه على مدار العام الماضي.
وأظهر الرئيس تشيسيكيدي، الجدية في التعاطي مع ملف سد النهضة، حيث سبقت زيارته للقاهرة دعوته لكل من رئيسة إثيوبيا ووزيري الخارجية والري السودانيين في كينشاسا كل على حدة لتبادل الرؤى حول مياه النيل وتأكيد الالتزام التام بعدم التصعيد وتغليب الرؤية الواحدة على مصالح الدول الثلاث بوصف نهر النيل مصدرًا للتعاون والتنمية، والحوار والإنصات للرئيس عبد الفتاح السيسي، وتأكيد ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم.
وانطلاقًا من الدور الكونغولي في ملف السد استقبل وزير الخارجية سامح شكري، البروفيسور ألفونس نتومبا، منسق خلية العمل المعنية برئاسة جمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية للاتحاد الأفريقي، في إطار حرص الجانب الكونغولي على التعرف على آخر التطورات الخاصة بملف سد النهضة وأبعاده المختلفة، وكذلك قابله وزير الري المصري محمد عبد العاطي الذي أكد حق مصر المائي.
وهو ما ينبئ بدور مغاير للاتحاد الأفريقي للمساعدة في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة يراعي مصالح الدول الثلاث، وذلك في ظل التأييد المصري للمقترح السوداني حول تكوين رباعية دولية لتطوير آلية مفاوضات سد النهضة تشمل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للتوسط في المفاوضات تحت رعاية وإشراف الرئيس “فيليكس تشيسيكيدي” بوصفه رئيس الاتحاد الأفريقي، لدفع المسار التفاوضي قدمًا ولمعاونة الدول الثلاث في التوصل للاتفاق المنشود في أقرب فرصة ممكنة.
الولايات المتحدة وعودة مسار المفاوضات
اتسم الدور الأمريكي في مفاوضات سد النهضة بالتأثير الكبير، والذي ظهر في مسودة الاتفاق برعاية وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي بين الدول الثلاث والذي رفضت إثيوبيا التوقيع عليه؛ مما دفع الولايات المتحدة إلى وقف بعض المساعدات الموجهة لإثيوبيا والتي بلغت 100 مليون دولار في سبتمبر 2020 وبلغ المبلغ الإجمالي للمساعدات لإثيوبيا المتضررة من التوقف 270 مليون دولار بحسب الخارجية الأمريكية.
ومع تغير الإدارة الأمريكية كانت هناك مخاوف من تغير النظرة الأمريكية للقضايا الأكثر تأثيرًا، ولكن أبدت الولايات المتحدة تفهمًا في قضية السد؛ وذلك للمعرفة الكاملة للخارجية الأمريكية لخلفيات القضية، ووضوح الموقف المصري والسوداني، والذي ظهر مرارًا في تصريحات وزير الخارجية في إدارة بايدن أنتوني بلينكن حول الحق السوداني في التعرف على كافة المعلومات حول عملية الملء، هذا إلى جانب نقد انتهاكات حقوق الإنسان للدولة الإثيوبية، والدعم الأمريكي كذلك للسودان خلال اللقاء الذي جمع وزير خارجية السودان السابق بالسفير الأمريكي لدى السودان.
وبالرغم من استخدام ورقة قطع المساعدات كورقة ضغط على الجانب الإثيوبي لاتخاذ موقف أقل تعنتًا في المفاوضات، إلا أن قطع المساعدات لم يسهم إلا في تحقيق ضرر أكبر للشعب الإثيوبي الذي يعاني بالفعل من أزمات إنسانية داخلية، فجاء تغير القرار الأمريكي في ظل إدارة بايدن بعودة المساعدات، وعدم ربط المساعدات بمفاوضات سد النهضة، ليكون ذلك بمثابة مؤشر جديد للحكومة الإثيوبية حول تبني وجهة نظر جديدة بشأن العودة للمفاوضات والوصول لاتفاق جديد ملزم؛ إذ إن تجميد مساعدات إدارة ترامب لم يحقق سوى إثارة المزيد من التعنت وإلحاق الضرر بالشعب الإثيوبي.
وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أن “الولايات المتحدة ستحاول لعب دور بناء في المناقشات الجارية بين مصر وإثيوبيا والسودان حول قضايا استخدام مياه نهر النيل، من خلال تسهيل التوصل إلى حل بين كافة الأطراف.”
وهو ما يضعنا أمام موقف دولي أكثر ضغطًا للدخول في المفاوضات؛ ذلك أن الاتفاق السياسي يفتح أي نص تم الاتفاق عليه لتفسيرات مختلفة، وبالتالي يحتاج الاتفاق لكونه اتفاق فني أو قانوني ملزم، وأنه من المتوقع أن يتبع فترة توقف المحادثات بعض المشاورات نتيجة أن هناك الكثير من الضغوط من المجتمع الدولي، ليس فقط الاتحاد الأفريقي ولكن أيضًا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأصحاب المصلحة الآخرين للبقاء على طاولة المفاوضات.
لكن الجهود الدبلوماسية يمكن أن تتحرك ببطء خاصة في ظل تصريحات الجانب الإثيوبي بالاستمرار في استكمال والإعلان عن موعد ملء الثاني للسد في استمرار الموقف الأحادي الذي يتناقض بشكل مباشر مع مصر والسودان واتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015 التي تنص على أنه لا ينبغي أن يكون هناك إجراء أحادي الجانب بشأن الملء”، وعلى الجانب الآخر مازالت التصريحات الإثيوبية بشأن اكتمال 78% من السد والبدء في الملء الثاني مع موسم الأمطار بعيدًا عن المفاوضات الجارية مع مصر والسودان.
الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والضغط الدولي
عكفت الخارجية المصرية والسودانية على عقد لقاءات مطولة رسمية مع الدبلوماسيين الأوروبين في كل من البلدين. وبجانب قضية سد النهضة ناقش السودان أزمة الحدود السودانية الإثيوبية التي شهدت توترات مؤخرًا واستقبل السودان على إثرها ما يزيد عن 60 ألف لاجئ على الحدود مما جعل القضية ذات اهتمام دولي خاصة في ظل ما تعانيه الحدود من أزمات إنسانية.
وعلى الجانب المصري، استقبلت وزارة الخارجية المصرية السفراء العرب والأوروبيين في البلاد لإطلاعهم على آخر التطورات في مستقبل المفاوضات المتعثرة منذ عقد بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا بشأن سد النهضة الإثيوبي.
وبحث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش ورئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك تطورات ملف سد النهضة، وأكد الجانبان “أهمية تعزيز السلام والاستقرار بالمنطقة”.
وهو ما يشير إلى المسار التفاوضي المدعوم من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالفعل للتعرف الجيد على أبعاد الملف والتي دخلت فيه مسبقًا عقب الاتفاق على لجنة دولية لاستكمال الدراسات الفنية وتم الاتفاق مع مكتب فرنسي رفضت إثيوبيا التعاون معه، وسيزيد من الضغط الدولي ما تشهده الحدود السودانية الإثيوبية من أزمة إنسانية.
ويتضح لنا أن الاقتراح السوداني والذي أيدته الدولة المصرية حول مشاركة اللجنة الرباعية الدولية في المفاوضات من شأنها أن تحرك المياه الراكدة لحلحلة المفاوضات بشأن السد إذا ما اتخذ الجانب الإثيوبي موقفًا مختلفًا بالرفض وهو غير متوقع. فضلًا عن أن سياسة العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية السابقة لم تؤتِ بثمارها.
ولكن من المتوقع أن الإصرار الإثيوبي على البدء في الملء الثاني قد يسهم في تزايد الضغط الدولي للوصول إلى اتفاق قبل موعد هذا الملء، أو توقيع عقوبات، ولكن عقوبات هذه المرة ستكون على انتهاكات حقوق الإنسان في الأقاليم الإثيوبية المتصارعة والقضايا الحدودية، بعيدًا عن العقوبات الاقتصادية التي ستوقع على إثيوبيا في حال تسبب السد في أضرار إنسانية على السودان بوصفها الأكثر تأثرًا من ناحية البنية التحتية والخسائر البشرية بسبب عملية الملء الأول للسد التي قامت بها إثيوبيا العام الماضي دون مراعاة لمطالب السودان بتأجيل الملء لمدة شهر.
وكان واضحًا أن إثيوبيا شرعت في الملء الأول للسد لأسباب سياسية وليس فنية، خاصة في ظل تصريحات المسؤولين المصريين بأن كفاءة سد النهضة الإثيوبي 30% فقط، وأنفقت إثيوبيا تكلفة أكثر من اللازم، بدليل إلغاء 4 توربينات من السد لعدم الحاجة إليها، من بين 16 توربينا، لأنها غير قادرة على إنتاج الكهرباء.
ومن المنتظر أن يتمكن الاتحاد الأفريقي بوصفه المشرف على اللجنة الرباعية الدولية في المفاوضات من طرح القضية للتصويت داخل الاتحاد، أو اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي إذا ما رغب في التصعيد ضد تعنت أي من الأطراف، أو المواجهة بعقوبات تصل إلى تعليق العضوية بالاتحاد الذي يحاول استعادة مكانته أفريقيًا.
الكاتب
-
طاهرة توفيق
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال