بره الشبابيك : محمد منير .. أغاني الشتاء الخالدة (1)
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
دائمًا ما كنت أتساءل لماذا تأخر محمد منير في التعاون مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي حتى سابع ألبوماته “شيكولاته” حيث ظهر اسم الأبنودي لأول مرة في ألبوم رسمي له، هل كان يريد تجنب صدام قد يقع بينه وبين عبد الرحيم منصور الأب الروحي للتجربة، بسبب الخلاف الشديد بين الأبنودي وعبد الرحيم منصور، أما أن منير في بداياته كان في احتياج كلمات عبدالرحيم منصور التي منحت تجربته خصوصية ولون مختلف عن جيله، على عكس كلمات الأبنودي التي دومًا ما تحمل أفكار أغنية القاهرة المباشرة السهلة، وهنا أتحدث عنه كشاعر أغنية وليس شاعر العامية الكبير.
يعتبر ألبوم شيكولاته نقطة فاصلة في مشوار منير الغنائي، و الاختبار الحقيقي له في كيفية قيادة تجربته منفردًا بعد انفصاله عن شركة سونار فرقة يحيى خليل، وخلافات شديدة مع أحمد منيب، هل سينجح في الوصول إلى توليفة مناسبة تضمن له الحفاظ على خصوصية مشروعه وفي نفس الوقت يلحق بركب الذائقة الجديدة التي تشكلت بعد التغييرات التي حدثت في سوق الغناء و الانتشار الكاسح لجيل الأغنية الشبابية.
كلها أمور كان لها تأثير على اختياراته داخل الألبوم التي غلب عليها طابع المباشرة باستثناء “شمس المغيب” و”مزامير” المنتمين للحقبة السابقة، فكان لزامًا عليه أن يستعين بمن يستطيع الحفاظ على خصوصية التجربة وفي نفس الوقت يفهم طبيعة جمهور القاهرة فكان وجود الأبنودي ضروريًا لتحقيق ذلك، وهذا ما يفسر نجاح أغنياته أكثر مثل “مش جرئ” و”كل الحاجات” و”بره الشبابيك” التي اقتنصت النجاح الأكبر بينهم.
اقرأ ايضًا
حوار خاص مع المايسترو والموزع الموسيقي عماد الشاروني
الكلمات.
موضوع الاغنية عاطفي درامي يبحر في نفسية شخص يحاول الإجابة عن بعض التساؤلات التي تؤرقه حول علاقته بحبيبته، هل هو في حالة حب هل قلبه مازال ينبض بحبها ام صار أشبه بالحجر، تلك الحالة غلفها الأبنودي بأجواء درامية مصاحبة لتلك التساؤلات من غيوم ومطر وهو جالس خلف الشبابيك في خوف وترقب وبكاء.
“بره الشبابيك غيوم – بره الشبابيك مطر – مالي خايف كده وحاسس بالخطر”
في المقطع الثاني يفرج الأبنودي عن القصة وأسباب الخوف بعد آخر لقاء تم مع حبيبته وتفضيله الصمت وعدم الإفصاح عما يؤرقه وكأنها لم تعد تعني له شئ، وأن أي إجابة عن تلك التساؤلات ستكتب نهاية القصة.
“آخر مره اما سبتك كتمت الشكوى ليه .. مش كان احسن حاسبتك وعرفت القصة ايه
لكن محسبتكيش وقلتلك مفيش .. كأنك يا حبيبتي أمرك ما يهمنيش
صياغة الأبنودي لم تأخذ شكلًا تقليديًا من مذهب وكوبليهات، بل جاءت في مقطعين مختلفين و بمفردات مباشرة جدًا دون فلسفة زائدة أو إسقاط غير مفهموم أو اللعب بالكثير من المحسنات البديعية ، وفي نفس الوقت مكتوبة بتماسك وحرفية شديدة، ونجح في جذب انتباه المستمع من أول استهلاله الذي جعل الأغنية شتوية بامتياز رغم أن الفكرة لا تتحدث عن الشتاء بشكل مباشر لكنه كان عامل مؤثر في الفكرة الأصلية.
.اللحن والتوزيع
في العادة عندما أتناول أي أغنية أقسمها إلى ثلاثة أجزاء منفصلة ، لكن في تلك الأغنية كان لابد من دمج اللحن مع التوزيع لأن دور الموزع عماد الشاروني في اللحن كان رئيسيًا جدًا،الأغنية من ألحان الموسيقار الكبير “كمال الطويل” والذي كان مبتعدًا عن الساحة الفنية، وعندما تحدث معه أحد أصدقاء منير عند عدم تعاونه مع الجيل الجديد فاجأه بقوله “لا تحدثني عن أحد من النجوم الجدد، الوحيد الذي يمكن أتفاوض في الحديث عنه هو محمد منير”، بدوره حكى الصديق الموقف لمنير الذي تجرأ وطلب من الطويل تلحين أغنيتين له من كلمات صديقه الأبنودي، منير كان ذكيا في اختيار الموزعين الموسيقيين، اختار مدكور العائد من أمريكا لتوه لتوزيع “مش جرئ” والتي قربته من جيل الأغنية الشبابية كثيرًا، واختار عماد الشاروني لأنه يعرف أنه الوحيد القادر على بناء جسر تواصل مع الأغنية الكلاسيكية مع لمسات عصرية في التنفيذ الموسيقي.
قبل بدء العمل على بره الشبابيك اتصل منير بالموزع عماد الشاروني، واخبره بانه هناك لحن يعده الموسيقار كمال الطويل وأنه اختاره لتوزيعه، بدأت جلسات العمل واكتشف الشاروني أن الطويل لم يضع أي لحن بعد بل سيبدأ محاولاته الأولي معه، فجلس خلف البيانو وبدأ الشاروني في تسجيل تلك المحاولات على شريط كاسيت، انزعج الطويل و اشتاط غضبًا بسبب رفضه التسجيل يحاول الشاروني إقناعه أنها الطريقة التي يتبعها عادة في توزيع أي أغنية وتسهل عليه حفظ اللحن، وبعد عدة محاولات رضخ الطويل للأمر في النهاية.
لم يكن لدى الطويل خطة واضحة لـ اللحن فبدأ التلحين من المقطع الثاني “آخر مرة اما سبتك” ثم بدأ يجرب أكثر من لحن ، ثم ترك حرية الاختيار بينهما للشاروني وأوكل له مهمة تحفيظ ما يختاره لمنير، ميزة الشاروني أنه يدرس صوت المطرب جيدًا ويعرف كيف يختار الطبقة التي يلمع فيها صوته فما بالك لو اختار له اللحن أيضًا، توصل في النهاية إلي التوليفة المناسبة فأخذ جزء من لحن وأضاف جزء من لحن آخر، وتحرى أن يكون هناك ترابط وتماسك بينهما، والحقيقة أن العمل مع الملحنين الكبار على الرغم من صعوبته لكن يضعك في اختبار حقيقي لموهبتك وقدرتك على أن تخرج ابداعه في أبهى صورة.
اللحن مكون من فكرتين بالعدد كل فكرة في مقطع على مقام النهاوند العاطفي، جمل الطويل بسيطة ومتماسكة دون فذلكة عبرت بشكل جيد عن موضوع الأغنية الدرامي ،بنفس منطق الأبنودي في غموض المقطع الأول، اختار الشاروني البدء بجملة غامضة هادئة من الأكوستيك جيتار على نفس مقام الأغنية النهاوند ، تجاورها وتريات متحفزة ستعيد ستعيد عزف نفس الجملة ويتراجع الجيتار للخلف ثم فجأة تبدأ الوتريات في الأنفعال لتسليم الغناء لمنير.
يصاحب غناء منير ضربات من الإيقاع في محاولة لتوصيف أجواء الطقس الماطرة، في الجزء الثاني من المقطع الأول “ده حب ولا وتر” تتألق الوتريات التي تحاول الإجابة على تساؤلات منير ، ثم يركز على جملة “خايف” كتأكيد للحالة وتوصيفها موسيقيًا،جملة الفاصل مغايرة تمامًا لجملة البداية معزوفة بالجيتار والوتريات بالتبادل بينهما، وتريات عماد الشاروني قوية ودسمة جدًا هو لا يكتب خطوط وتريات تصنع زحامًا زائفًا في الهارموني، بل يعطيها دور البطولة في الأغنية بجمل متدفقة تصعد وتهبط مع الحالة، ويظل أفضلها الجملة الشجية جدًا التي ترد على غناء منير في جزء “لكن محسبتكيش – وقلتي ليه مافيش” مع قوة في الإيقاع و خط باص جيتار قوي جدًا، اختيار إعادة غناء المقطع الثاني كان جيد أطال من زمن الأغنية قليلًا ، مع العودة مرة أخرى للجملة الافتتاحية، ثم لفت انتباه المستمع بسحبة الباص جيتار في قفلة الأغنية.
مع قدوم فصل الشتاء يعيد الجمهور تذكر بعض الأغنيات المرتبطة بهذا الفصل الجدلي ، وبالطبع بره الشبابيك واحدة من الأيقونات المفضلة للكثيرين وبالأخص عشاق محمد منير ولا غرابة في كونها صدرت منذ ثلاثون عامًا ولا زالت تحتفظ بطزاجتها وكل مرة تستعيدها تشعر وكأنك تسمعها لأول مرة.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال