“بيد أمي لا بيدي” أن ننجح في إدراك معنى الحياة والحب عبر المكرونة بالبشاميل
-
منتهى أحمد الشريف
منتهى أحمد الشريف، باحثة شابة في العلوم الإسلامية، تخرجت من كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أمي الوحيدة التي لديها القدرة على تبديد حزني بطبق المكرونة بالبشاميل الذي جهلت طريقة صنعه، لم تكن والدتي تعرف طريقة عمل المكرونة بالبشاميل، والعجيب أنها حتى هذه اللحظة لا تعرف مكوناتها المتعارف عليها عند عموم الناس، فطريقتها عجيبة وجميلة والمكرونة أعجب وأجمل.
لقائي الأول بها
كنت صغيرة في ذلك الوقت عندما أبديت لأمي أمنيتي في أن أتذوق تلك الأكلة الغريبة التي سمعت عنها وبت أحلم بمذاقها، فما كان من أمي سوى أن وعدتني بأن تتقصى طريقتها ومكوناتها وتعدها لي في أقرب وقت.
اقرأ أيضًا
المرأة الصعيدية ليست بالضرورة أن تكون تقليدية “الموسيقية كارمن نموذجًا”
كان الأمر صعبًا بالنسبة لها لأننا في الصعيد لا نأكل سوى الطعام الروتيني وبشكل يومي وهو ما يعرف عندنا بـ “الطبيخ الأحمر أو الأخضر”؛ وبالفعل ادخرت أمي المال واشترت المكونات.
أتذكر ذلك اليوم عند طريقي للعودة إلى البيت بعد انتهاء اليوم الدراسي، صادفت أمي في الطريق وهي عائدة من عملها تحمل أكياسًا ولاحظت فرحتها تسارع حروفها وترتسم عليها ضحكة صافية وتقول لي “جبت المكونات وهعملها النهاردة”.
لم تبدل ثيابها واتجهت مباشرة إلى المطبخ متجاهلة إرهاق العمل لتبدأ في عمل المكرونة، كنت أختلس النظر عليها وهي منهمكة في إصلاح الصوص الأبيض الذي تكعور منها فقالت لي ضاحكة “ونبي يا مِّيّ أنا ربنا عالم بيا وبتيجي مع الهبل دبل” وتخرج بعدها ضحكة خجولة ممتزجة مع طيبة وعفوية في الحديث.
كانت تسليني بقصصها وهي صغيرة عندما تحكي لي عن مغامراتها وكيف كانت تستعير الجيبه (الميني جيب) من صديقتها، وطلاء الأظافر وأحمر الشفاه الذي كانت تخبئه في جيب حقيبتها السري لتضعه أثناء طريقها، وتشرع في حكايات السينما والمسلسلات، وتذكر لي أسماء عديدة من المطربين الذين اندثروا بحكم الزمان.
مكرونة بالبشاميل !
أحضرت أمي طبق به صنف غريب الشكل ولكنه شهي وجَلَست أمامي تنظر إليّ بعين حانية، بدأتُ في تناول ما في الطبق كنت أشعر أنني آكل شيئًا تفوح منه نكهة الحب، شعرت بأن قطع المكرونة في سباقٍ أي قضمة منهم تصل سريعًا إلى قلبي لتخبرني أن أمك تحبك يا صغيرتي، لم تعلم أمي حينها أنها مسحت عن قلبي وطأة ألم صفعة قلم انهالت بقوة على خدي الصغير من معلمتي بسبب رسمة فتاة رسمتها على جلدة كراسة العربي، وهكذا اعتادت أمي كلما كنت آخذ صفعة قاسية من الحياة ويصعب على أمي أن تجتر معي أطراف الحديث لأفضفض، تتجه مباشرةً صوب المطبخ وتصنع لي صينية مكرونة بالبشاميل لتقول لي أحبك.
هي تعرف كيف تزيل أي نوع من المشاحنات التي تحدث بين إخوتي الناجمة عن اختلافات في الطبائع ووجهات النظر وسن المراهقة، فبعد أن يتجنب كل واحد منا الآخر أو يغضب أبي علينا ويقاطعنا عقابًا لنا، تستعد أمي فتتوجه بهدوء وتحضر المكونات وتبدأ في صنع صينية بشاميل، وبعد أن تفرغ منها تضعها في منتصف البيت، لا يستطيع أحد منا مقاومة طعمها فنتهافت عليها ويجلس كل منا بجوار الآخر ليلحق قطعة قبل أن تنتهي الصينية، فتذوب الخصومة وتتلاشى، ويبقى مذاق المكرونة بالبشاميل عالقًا في قلوبًا.
الغريب أنني عندما كبرت وبدأت أتحدث أنا وصديقاتي في الجامعة عن صنوف الأكلات الجديدة كل واحدة منهن تذكر لي كيف تعد المكرونة بالبشاميل ولكني كنت أرى أنهن خاطئات لأني لم أرى أمي تصنعها هكذا؛ ثم مع مرور الأيام اكتشفت أن أمي تصنعها بالطريقة الخاطئة ومن غير الوصفات المعروفة والشهيرة حتى شكلها مختلف، وعندما سألتها كيف لها أن تطهي المكرونة بالبشاميل بطريقة غير المشهورة والصحيحة ومع ذلك فإن مذاقها يكون أجمل من المعروف، فأجابتني بضحكة خجلة وقالت لي “والله يا بتي علشان بعملها لعيالي”، حتى أصدقاء أخي في العمل تعلق قلبهم بهذه الأكلة فهي اعتادت أن تصنعها لهم ليقول أخي لأمي “صحابي بيقولولي احنا بنحب مكرونة أمك قوي”.
الكاتب
-
منتهى أحمد الشريف
منتهى أحمد الشريف، باحثة شابة في العلوم الإسلامية، تخرجت من كلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال