بين واقعِِ و رؤية أدبية.. السجن عند صُنع الله إبراهيم
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
صُنع الله إبراهيم روائي مصري فريد فارس من زمن مفقود، أحبّ اللغة العربية و بلادها. وُلد ذات يوم مُختلف باسم مُختلف ليكون رجلًا و أديبًا مختلفًا. صُنع الله إبراهيم أديب سياسي على غير المعهود يهتم بتفاصيل الشوارع و الحواري، يهتم بتفاصيل الفلاحين البسطاء والعمال وأسواقهم يزعجه كثيرًا الجشع و يقف بالمرصاد لمن هم ضد الحرية بكلمات وتشبيهات تنساب من حبره صور فتزداد تشابكًا لتندفع خارج سجن كبير قديم .
“صنع الله” تاريخ حافل من النضال والسجون، تَنقل في سجون عدة، ونقل ما فيها في أعماله الأدبية بكلمات ورؤى واقعية بعيدًا عن خيال الروائين الجامع في مواطن كثيرة من مؤلفاتهم و لعل أبرزها رواية “شرف” .
السجن حقيقةً في حياة صُنع الله إبراهيم
في عهد الرئيس “جمال عبد الناصر” تعرض “صُنع الله” للسجن لأسباب عِدة، لعلّ أهمها إن “صنع الله” كان صاحب حزبًا سياسيًا له وجود في الشارع المصري، ولمّا كان “عبد الناصر” يَعتد بذاتية ويحب أن ينفرد بزعامة كل شيء كان يرفض المعارضة متصورًا أن هذا سيخدم مصلحة العدوّ المتربص بمصر.
وبعد محاولة اغتيال”عبد الناصر” في الإسكندرية على يد جماعة الإخوان المسلمين لم يفرق حينها بين المعارضة وأمر بالقبض على كل المعارضين؛ شيوعين إخوان.. كل الأطراف، والزج بهم في السجون، ومن بينهم “صنع الله” لكونه شيوعيًا، وجدير بالذكر هنا أن دخول الشيوعين السجن في تلك الفترة كان بمقتضى قانونًا دستوريًا منذ الملكية، وكان مفاد القانون أن كل الشيوعيين إلى السجن لقلب نظام الحكم.
مشهد حقيقي
تنقل “صنع الله” بين ثلاث سجون؛أسيوط والإسكندرية والقناطر ، وأبو زعبل، لكن أقسى ما مرّ به على الإطلاق كان في سجن أبو زعبل ففيه تعرض لتعذيب شديد وكان وقتها في سن صغيرة.
في إحدى لقاءات “صنع الله” التلفزيونية روى تجربة لعلها الأقسى في حياته، وكانت بمثابة محنة حقيقة. والقصة تبدأ حينما انتقل ” صُنع الله” رفقة الشيوعيين من الإسكندرية إلى سجن أبو زعبل فكان معه في القيد الحديدي”شُهدي عطية” سكرتير الحزب حينها.
ولمّا وصل إلى سجن أبو زعبل تحديدًا ملحق السجن كان هناك ما يسمونه بـ”حفل الاستقبال”؛ وهو نوع من كسر الشخصية والذات، وبعد هذا الحفل جلسوا قرفصاء وجوههم للحائط يتبادل السجّان ضربهم بالعصي. ثم بعد ذلك تم استدعائهم أمام لجنة بقيادة “إسماعيل همت” رفقة مأمور سجن الإسكندرية، ومأمور سجن أبو زعبل ،ومندوب المباحث العامة ، ومندوب مباحث المخابرات و 12 آخرين، وأثناء مرورهم من أمام اللجنة وهم يلفظون أسمائهم كان يتم ضربهم ببشاعة على مؤخرة عنقهم “قفاهم” وأماكن متفرقة في أجسادهم بالعصا.
حفل استقبال داخلي
بعد انتهائهم من المرور أمام اللجنة كان ينتظرهم حفل استقبال آخر، لكن كان هناك أربعة من بينهم “صنع الله” لم يتلقوا هذا الاستقبال، وكان رد ” صنع الله إبراهيم ” عن تلك الواقعة أنّ من كان معه من ذوي الثراء ولهم أقارب من ضباط الجيش، أمّا هو فمن الممكن أن يكون بسبب اسم العائلة الذي يوحي بأنها عائلة إقطاعية كبيرة، أو لصغر حجم جسده وسنه، فكان هناك تخوف أنه إذا ما تعرض للضرب سيموت.
عَلم” صنع الله” أن “شُهدي” مات نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرض له، وكان هناك واقع مؤسف لحق بـ”صنع الله” ورفاقة وهو أنهم مجبرين على القول بأن “شهدي” مات أثناء الطريق لا من التعذيب في السجن. وكان هذا صعب عليهم .لعله قال عنها هي من أصعب لحظات حياتي .
درامية الحياة
وكان القدر معهم أو هي درامية الحياة الحقيقية ربما، حيث إنه في هذا التوقيت كان “عبد الناصر” في يوغسلافيا، وكان هناك لقاء صحافي فسأله صحفي فرنسي عن مقتل “شهدي” في سجن أبو زعبل، فكان رد “جمال” أنه أرسل يستفسر عن الواقعة، وكانت النتيجة بعثة أخرى من وزارة الداخلية ولمّا شاهدوا منظر المسجونين وما لحق بهم بكوا تأثرا وأوقفوا التعذيب داخل السجن.
انفراجة سياسية
مع تغير المناخ السياسي، واتجاه مصر للاعتماد على الاتحاد السوفيتي من أجل بناء السد العالي وغيره، كان ” خرشوف”، وهو رجل دولة وزعيم حزب شيوعي في زيارة مقررة إلى مصر وطلب من”عبد الناصر” الإفراج عن الشيوعين فجودهم في السجن مع زيارته إلى مصر ستقضي على حياته ومستقبله السياسي، هذا إلى جانب الأزمات المتلاحقة التي مرّ بها “عبد الناصر” من حيث انفصال سوريا وغيرها من الأمور التي حجمت من نزعته الفردية فبدأ يتقبل المعارضة خاصة بعد تعمق مفهومه عن الاشتراكية ومن ثم خرج الشيوعيين من السجن.
رؤية أدبية
في رواية” شرف” لصنع الله إبراهيم وصف السجن، ربما ليكون مشهدًا تكميليًا لما سبق أو هو وصف دقيق لما يحدث داخل السجون، برؤية أدبية نافذة، بعيدة عن قيد الرقابة والسلطات الحاكمة.
فحينما دخل “شرف” بطل روايته إلى السجن نتيجة قتله لأجنبي تعدى على شرفه، سلط الضوء على شكل السجن وشعور السجين للوهلة الأولى ، فوصفه بالمكان التي تتصاعد بين جنباته رائحة غريبة فهي مزيج بين الفنيك والبول.
ثم ينتقل “شرف” إلى ردهة مصفحة في طرفها فتحة صغيرة تضم مرحاضًا مكشوفًا تكوم البراز حول حافته وتتصاعد منه رائحة خانقة . ثم يصف مشهد استقبال ” شرف” في غرفة كبيرة جدرانها ملطخة بالحبر وبقع الدماء، واكتسبت أرضيتها بالزفت وخليط من البصاق والبول.
ونفس المشهد بين الواقع والرواية كان هناك من يجلس القرفصاء، وبعد حديث قصير بين” شرف”ورجل مسجون ظلمًا، كشف هذا الرجل عن باطن ذراعيه أسفط الإبط وباطن ساقيه أسفل الركبة، وكان بها كمدات زرقاء كبيرة وآثار تقيحات على حوافها. مشهد متكامل إذا نظرنا لما روى عنه حقيقة وبين أدبيته فاستطاع أن يوصل ما كان يتعرض له عن طريق توظيف شخصيات روايته”شرف”.
كما يروي “صنع الله” في رواية شرف تعنت السجون في الإفراج عن المسجونين حتى بعد أن صدر الأمر القضائي بالإفراج عنهم، وراح يعدد الإجراءات الخانقة والتعنت التي يتعرض له المسجون حتى لو كان مسجونًا خطأ في الخروج من السجن .
ثم ينتقل إلى حكايات متفرقة من داخل زنزانة السجن، لعلّ اللافت فيها أن الكل سواء برئ ومجرم، متعلم وجاهل الكل داخل جدران الزنزانة العفنة يتلقى نفس المعاملة أدامية.
بين الواقع و بين سطور الرواية ترى أن صنع الله إبراهيم كان ومازال هو أديب الواقعية.. هو المدون لتاريخ مصر السياسي والاجتماعي الحديث بلغة سهله وتشبيهات تتشابك بينها و بين بعضها لتعطيك صورة كلية فريدة.
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال