تاريخ العنف في صحن الأزهر “حينما كان الجناة والضحايا أزهريين”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يأخذ جنود نابليون بونابرت نصيبهم من حظ اهتمام المؤرخين في أنهم أول الناس الذين أطلقوا الرصاص داخل صحن الأزهر لقتل الأزهريين وغيرهم في ثورة 21 أكتوبر 1798م؛ لكن لم يكن عساكر الحملة الفرنسية أول من قتلوا داخل الأزهر، وإنما كان الأزهريين أنفسهم.
«بسبب المنصب» الدم الحرام في الشهر الحرام
بغض النظر عن تحديد تاريخ بداية منصب شيخ الأزهر[1]، لكن الثابت أن الشيخ محمد الخَرشَي هو أول من تولى ذلك المنصب[2]، وليس معروفًا على وجه الاتفاق متى تولى وإن كانت بعض المصادر تشير إلى أنه تولاه عام 1679م[3]، وبقي الخرشي في منصبه إلى أن مات في 30 سبتمبر 1690م / 27 ذي الحجة 1101هـ، ثم تولى الشيخ البرماوي المنصب إلى أن مات عام 1695م /1106هـ.
مضى عهد أول وثاني شيخ للأزهر بهدوء ثم يجيء ثالث شيوخ الأزهر وهو محمد النشرتي فيتولى المنصب بعد البرماوي ويبقى فيه إلى وفاته في 10 مارس 1709م / 28 ذي الحجة 1120هـ، وبعد وفاته بأيام قليلة اندلعت أولى أشكال العنف والاقتتال الأزهري الأزهري في إطار الصراع على المنصب.
بدأت الأزمة في يوم السبت 23 مارس 1709م / 11 محرم 1121هـ، عندما انقسم الأزهريون إلى فئتين، فئة تريد الشيخ أحمد النفراوي شيخًا للأزهر والمدرسة الأقبغاوية التابعة له والملاصقة به، وفئة أخرى تريد الشيخ عبدالباقي القليني في نفس المنصب.
وليس هناك ثمة تميز يرجح كفة أحدهما على الآخر من الناحية العلمية، غير أن الشيخ القليني كان يحظى بدعمٍ معنوي واعتباري كبير لأن تلامذة الشيخ الراحل محمد النشرتي يؤيدونه كخلفٍ لشيخهم، ولم يكن القليني موجودًا في القاهرة فاستعجلوه لكي يحضر.
لم يعطي أحمد النفراوي اهتمامًا بالمعارضة لشخصه، فذهب إلى المدرسة الأقبغاوية للتدريس في تمهيدٍ لتوليه مشيخة الأزهر، لكن تلامذة الأقبغاوية منعوه من الدخول، وتزامن ذلك مع وصول عبدالباقي القليني إلى القاهرة، فأسرها النفراوي في نفسه ولم يبدي لهم أي رد فعل، فظنوا أنه رفع الراية البيضاء وكانوا في ذلك مخطئين.
في مساء ذلك اليوم توجه مجموعة من أتباع الشيخ أحمد النفراوي إلى صحن الأزهر وتحت تهديد السلاح أجبروا تلامذة القليني على الخروج من الأزهر ثم كسروا باب المدرسة الأقبغاوية وأجلسوا النفراوي على كرسي المشيخة، وفي عصر اليوم التالي حضر أتباع الشيخ عبدالباقي القليني إلى الأزهر فدخلوه وأغلقوه عليهم وعلى أتباع النفراوي، وتحول صحن الجامع إلى ساحة حرب مستباح فيها كل وأي شيء وفي أحد الأشهر الحُرُم وهو شهر المحرم 1121هـ الموافق مارس 1709م.
الجبرتي في تاريخه[4]، وقبله ابن عبدالغني[5]، ذكرا أن الجماعة القلينية تضاربوا مع الجماعة النفراوية عند صحن الأزهر فقتلوا منهم 10 أشخاص وجُرِح العشرات من الطرفين، وأثناء عملية القتل وقعت عملية نهب بشكلٍ سلس، إذ كسر القلينية كل قناديل الأزهر فصار الظلام حالكًا مما سهل نهب خزائن الكتب والمخطوطات ولوازم ومتعلقات المجاورين في الأروقة.
السلطة الحاكمة لمصر وقتها ممثلةً في الوالي العثماني إبراهيم باشا القبطان تدخلت بعد ذلك التناحر، فقرر الوالي إخلاء الجامع الأزهر من القتلى والمصابين واستصدر قرارًا بمنع فيه الصلاة يومًا بأكلمه، وكان ذلك الإجراء الأول والأخير إزاء ما حدث، فلم تحقق السلطة العثمانية جنائيًا في الأمر وهو ما جعل الشيخ النفراوي يذهب بنفسه إلى الوالي ومعه كشف بأسماء القتلى لعله يتمكن بذلك استصدار قرار من الوالي بمحاكمة القليني وأتباعه، لكن ما حدث هو العكس.
قرر الوالي العثماني وضع الشيخ أحمد النفراوي تحت الإقامة الجبرية، وسجن 12 من أتباعه في سجن العرقانة بالقلعة، ونفي الشيخ محمد شنن إلى بلدة الجدية في رشيد بتهمة التحريض والتهييج، وكان مبرر الوالي العثماني أن النفراوي وجماعته هم البادئين، خاصةً وأن حسن أفندي نقيب الأشراف شتم النفراوي وجماعته واصفًا إياهم بـ المفاسيد المدعين لطلب العلم.
بعد سنوات قليلة يموت النفراوي سنة 1714م / 1126هـ[6]، ثم يموت الشيخ عبدالباقي القليني ولا يُعْرَف تاريخ وفاته[7]، والمفارقة القدرية أن محمد شنن المنفي بسبب دعمه للنفراوي يتولى منصب شيخ الأزهر بعد وفاة القليني عدوه وعدو شيخه.
كيف تصنع انقسامًا دمويًا في صحن الأزهر وتكون الدية أرغفة
بعد مضي 69 عامًا على الانقسام حول منصب المشيخة بين النفراوية والقلينية سنة 1709م تكرر الانقسام مرة أخرى بين الأزهريين على منصب المشيخة عام 1778م، وكان حسمه بالدماء أقوى من حسمه بتدخل السلطة الحاكمة.
بدأ المرض يزحف على جسد الشيخ التاسع للأزهر أحمد الدمنهوري، ورغب عبدالرحمن العريشي شيخ الأحناف ورواق الشوام في أن يتولى منصب المشيخة، فنجح في استمالة إبراهيم بك شيخ البلد، فأخذه معه للأزهر وجمع العلماء في صحن الأزهر وقال أن الشيخ الدمنهوري قد عينه وكيلاً عنه؛ ولما مات الشيخ الدمنهوري في 4 أغسطس سنة 1778م استمال العريشي الأمراء وبعض المشايخ لكي يكون شيخًا للأزهر.
قوبل تعيين العريشي برفضٍ كبير من الأزهريين الشافعية وكانت حجتهم في ذلك أمرين، أولهما أن الأحناف لم يتولوا منصب المشيخة وبالتالي فالمنصب هو من حق الشافعية، أما الأمر الثاني فكان عنصريًا، إذ اعتبروا العريشي آفَاقِيًّا (بمعنى يجوب الآفاق) وليس من أهل البلد[8]، وقيل أن معناه أفاق (بمعنى أنه تولى المنصب بالاحتيال)[9]، وطلبوا أن يتم تعيين الشيخ أحمد العروسي شيخًا للأزهر.
طبخة الانقسام بدأت في الجاهزية بمحوريّ (المذهبية والعنصرية) وبقي جزء من البهارات فكانت الشعوذة أحد مكوناتها وذلك عندما اعتصم الشافعي داخل مسجد الإمام الشافعي، وكان قائد الاعتصام هو الشيخ محمد الجوهري، فذهب مراد بك له ليحل الموضوع فقال له الجوهري أن البلد هي بلد الإمام الشافعي وقد جئنا له وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يُخْشَى عليك.[10]
لم يجد مراد بك مفرًا من أن يلبس عباءة المنصب للشيخ العروسي ودلالة لبس العباءة أنها بمثابة الزي الرسمي للمنصب، لكن إبراهيم بك وبعض أمراءه لم يقبلوا أن ينفذوا طلبات الشافعية فألبسوا عباءة المنصب للشيخ العريشي وبذلك صار للأزهر شيخين، وبالتزامن مع ذلك أوشكت طبخة الانقسام على الاستواء عندما دخلت العِرْقِيَّة في الموضوع بقيام الطلبة الشوام والمغاربة بالانضمام لمعسكر الشيخ العريشي وقاموا بتحذير الذين مع العروسي من استمرارهم على موقفهم ومنعوهم من دخول الجامع، وبقي الحال هكذا 7 أشهر.
الدماء هي من حسمت الانقسام ففي 17 إبريل 1779م اندلع خلاف بين الطلبة الشوام مؤيدي العريشي والطلبة الأتراك لسبب غير معروف في صحن الأزهر بين المغرب والعشاء، وتطور الخلاف إلى اقتتال أسفر عن قتل طالب أزهري من رواق الأتراك وحدوث إصابات بين الفريقين، فذهب الطلبة الأتراك لإبراهيم بك ومعهم عريضة تشرح الموضوع، فطلب الشيخ العريشي الذي كان شيخًا لرواق الشوام، فقال له أن القتلة هربوا وقدم له أسماءهم.
لكن إبراهيم بك لما تفحص الأسماء التي قدمها العريشي وجد أنها مزورة، فاستدعاه ليتحقق منه فلم يحضر، وهو ما أثار غيظ إبراهيم بك، فقرر عزله عن منصبه كشيخ للأحناف وبالتبعية كراغب في مشيخة الأزهر، ثم أمر بوضعه في الإقامة الجبرية، وإغلاق رواق الشوام ومنع طلاب بلدة المجدل وطبرية من دخول الأزهر وأن يُقْطَع 100 رغيف من متعلقات الشوام ويتم إعطاءهم للأتراك كدية للقتيل، وإزاء هذه القرارات مات العريشي من القهر في 20 مايو 1779م وصار العروسي هو شيخ الأزهر حتى وفاته في في 24 مارس 1794م.
العرق الصعيدي له نبض في العِرَاك الأزهري الأزهري
وتيرة الاقتتال الأزهري الأزهري بدأت في الخفوت بعد حادثتي 1709م و 1779م، ثم عادت في زمن الشيخ الباجوري سنة 1861م، عندما وقعت حادثة الصعايدة والشوام، لم يُقْتَل أحد في تلك الحادثة، لكن بسببها دخل لأول مرة جنود مسلمين للأزهر بأحذيتهم وأسلحتهم.
السبب في الأساس كان تافهًا، وتمثل ذلك في أن الشوام والصعايدة تزاحموا في الجلوس حول إحدى حلقات العلم، وأشعلت نيران الغضب بتفوه بعضهم على الآخر بكلمات عنصرية، جعلت الشوام يقوموا بحملة على الصعايدة بالنبابيت وضربوهم ليسوقوهم لرواق الصعايدة.
لم يقف الصعايدة مكتوفي الأيدي فحضر جماعة منهم إلى صحن الأزهر ليدافعوا عن أبناء عمومتهم، ووقع عراك المقاهي في صحن الأزهر وسالت الدماء بعدما قام الصعايدة بإدخال الشوام لرواقهم وإغلاقه عليهم، الأمر الذي استدعى الشيخ محمد الرافعي إلى الذهاب لكبار تجار الشام بمصر ليخبرهم، ثم ذهبوا جميعًا إلى خير الدين باشا ليحل الموقف، وكانت الوسيلة الوحيدة هي الاقتحام للأزهر.
ذكر محمد عبدالمنعم خفاجي تفاصيل ذلك الاقتحام فقال، أن عساكر الأرناؤوط والأتراك دخلوا الجامع الأزهر وتطاولوا على أي صعيدي أزهري، ولم يصمت الأزهريين على ذلك إذ رأوا أن موقف الأرناؤوط مناصر للأتراك لوجود صلة عرقية بينهم، فأخرجوهم من الأزهر؛ فجاءت قوة أخرى من عساكر الجهادية ودخلوا الأزهر بأسلحتهم وطبولهم وأحذيتهم وألقوا القبض على 30 صعيدي وأودعوهم في سجن المحافظة.[11]
حينها كان سعيد باشا في الحجاز لأداء فريضة الحج أو هكذا أوهم الناس كون أن تلك الزيارة كان لها غرض سياسي وهو مقاومة السلطان العثماني في فرض إرادته على حاكم مصر[12]، ولهذا السبب فإن وكلاء سعيد باشا لم يريدوا للمسألة أن تتفاقم ويظهر وجود نزاع تركي – مصري يزيد طين الخلاف بلة بين سعيد باشا والسلطان العثماني، فقرروا الإفراج عن الصعايدة بعد 20 يومًا من سجنهم؛ ولعل عصبية الصعايدة الأزهريين لبعضهم كانت شيئًا معروفًا في ذلك الوقت، وليس أدل من ذلك سوى أن طه حسين حكى عن ذلك في الأيام، وبَيَّن كيف أن الصعايدة قاموا بحمايته لأنه بلدياتهم.[13]
من سمات تطور الزمن وجود قانون، ولم يكن هناك قانون يحكم المؤسسة الأزهرية ليبعد عنها الخلافات الدموية، لكن محاولات سن القوانين التنظيمية للأزهر لاحقًا ساهمت في إبعاد الانقسام بالأيدي ولم تمنع الانقسام نفسه.
اقرأ أيضًا
تاريخ التعليم في الأزهر الفاطمي .. لماذا نتشكك من رواية تأسيسه لنشر المذهب الشيعي ونجاحه؟
فاختفت خصلة الدم بين الأزهريين في خلافاتهم، لكن لم تتوارى الانقسامات بينهم وبين بعضهم، وذلك بسبب حركات الإصلاح الفكري والتعليمي والمؤسسي داخل الأزهر؛ لكن تلك قصة أخرى.
[1] محمد عبدالمنعم خفاجي, علي علي صبح، الأزهر في ألف عام، ج1، ط/3، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة – مصر، 2011م، ص ص219–223.
[2] محيي الدين الطُعْمِي، النور الأبهر في طبقات شيوخ الأزهر، ط/1، دار الجيل، بيروت – لبنان، 1412هـ / 1992م، ص108.
[3] أشرف فوزي صالح، شيوخ الأزهر، ج1، ط/1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، 1997م، ص9.
[4] الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، ج1، ط/1، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة ـ مصر، 1997م، ص348.
[5] ابن عبدالغني، أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات الملقب بالتاريخ العيني، تحقيق: عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، ط/2، دار الكتاب الجامعي، القاهرة – مصر، 1995م، ص ص176–177.
[6] الزركلي، الأعلام، ج1، ط/15، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، 2002م، ص192.
[7] محيي الدين الطُعْمِي، النور الأبهر في طبقات شيوخ الأزهر، ص65.
[8] هذا التفسير منسوب لعبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم في تحقيقه لتاريخ الجبرتي، انظر:- عجائب الآثار، ج2، ط/1، ص76، هامش رقم 1.
[9] هذا التفسير منسوب لحلمي النمنم في كتابه الأزهر الشيخ والمشيخة، ط/1، مطبعة مدبولي، القاهرة ـ مصر، 2012م.
[10] الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج2، ص76.
[11] محمد عبدالمنعم خفاجي, علي علي صبح، الأزهر في ألف عام، ج1، ص173.
[12] عبدالرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ج1، ط/2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة – مصر، 1368هـ / 1948م، ص41.
[13] طه حسين، الأيام، ج2، ط/39، دار المعارف، القاهرة ـ مصر، 2009م، ص ص137–138.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال