تحريم التصوير 2) من المفسديون إلى شاشة تأخذنا للجنة
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
زي ما أتفقنا الحلقة اللي فاتت هنمشي في مسارين، الأولاني هنستخدم فيه مصطلح التصوير، والتاني هنستخدم فيه مصطلح التجسيد، لإنه عن تصوير الأنبيا والملايكة والصحابة.. إلخ، وإن وارد المسارين يتقاطعوا سوا.
الماضي القريب
أيام ما كنت أنا نفسي من جمهور نجوم الدعوة السلفية الصاعدين، محمد حسان ووجدي غنيم وفوزي السعيد ومحمد حسين يعقوب.. والشيخ جابر (مش فاكر اسمه كامل) وغيرهم. كانوا جميعًا متفقين تمامًا على تحريم الدين الإسلامي للتليفزيون، وكانوا من باب الاستظراف الإسلامجي بيسموه “المفسديون”.
وقالوا فيه قوالة.. لدرجة أن أحدهم، في جامع السُنية بشارع رمسيس، وصم كل شخص عنده تليفزيون في بيته إنه “ديوث”، كانت لفظة جديدة ع الودان وقتها، فأضطر لرواية حديث منسوب للنبي يوضح فيه معنى الكلمة وفي نفس الوقت يربطها بالتليفزيون.
عن عمار، رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال) رواه الطبراني وهو حديث حسن، ودي درجة أقل من الصحيح بكتير، ونقدر نعرف الفرق بين الصحيح والحسن من هنا.
نسبية البِدع
إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار
الجملة دي كانت بتستخدم دايمًا لختام أو بداية جزء من جزئين خطبة الجمعة، اللي في نهايتها الشيخ بيدعي على اليهود والنصارى وغالبية خلق الله. وكنت أردد بعد كل دعاء “آآآآآمين” بعلو صوتي المحبوس من بداية الخطبة. بس دايمًا كان فيه صوت في دماغي بيسألني باستغراب: هو الميكرفون اللي أتقال فيه الكلام ده والسماعات الضخمة اللي وصلته لحي الضاهر كله، مش دي برضه من مستحدثات الأمور؟
مع انتقالتنا من عالم التليفزيون الأرضي وهيمنة ماسبيرو على البث، ودخولنا عالم السماوات المفتوحة وانتشار الدِش فوق أسطح البيوت.. انتشرت معاه القنوات الخاصة، وهنا ظهر سيل من القنوات الدينية. قنوات نجومها مشايخ غالبيتهم حرموا التليفزيون ووصفوا اللي يشتريه بأشع الصفات.
الصحوة وحمى التحريم
حمى التحريم مصدرها مشروع الصحوة اللي تبنته المملكة السعودية، من سنة 1979 لغاية 2015، مشروع السعودية قبله ماكنتش بنفس التشدد، إنما شهدت صراع بين سلطة غير متشددة وبين أصوات متشددة بعضهم من العيلة المالكة.
فمع بداية ستينيات القرن العشرين بدء العمل في تأسيس الإذاعة والتليفزيون في السعودية بقرار رسمي، وفعلا بدء البث الفعلي بشكل أولي في الرياض وجدة تمهيدًا للتوسع التدريجي.
بس سنة 1965 الأمير خالد بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود قاد هجوم مُسلح على مقر تليفزيون الرياض، لإنه شايف إن التليفزيون بيعرض صور وأغاني وحاجات حرام. عشان يدفع حياته تمن لهذه الخطوة المتهورة، البعض بيقول إن الأمير أتقتل خلال محاولة الاقتحام.. والبعض بيقول إنه بعد المحاولة روح أتعشى مع المدام والأولاد، ثم الأمن راح البيت يقبض عليه.. وحصل بينهم شد وجذب فتم قتله وسط عياله الصغيرين.
على كل مش دي قصتنا، المهم إن السعودية شهدت خلاف هل التصوير حلال ولا حرام؟، وفضل الخطاب الرسمي شايف إنها حلال لغاية 1979، لما الثورة الإيرانية نتج عنها إعلان تأسيس دولة إسلامية شيعية في إيران ثم في نفس السنة احتل جهيمان العتيبي ورجالته الحرم المكي خلال موسم الحج، ولولا تدخل قوات أجنبية (الرواية الرسمية تنكر تدخل القوات الفرنسية) ماحدش عارف كان الموضوع هيخلص إزاي؟ ولا على إيه؟
واقعة من بعدها انتهجت المملكة نفس نهج الأمبراطورية الرومانية لما بطلت تحارب المسيحية وجعلتها دين الدولة، فمش بس خلصت من خطورتها على سلطتها.. إنما بقت بتستمد شرعيتها منها، واللي يعارضها بقى كافر، وبكده تم إطلاق يد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبقى التصوير حرام والاختلاط حرام ودرء المفاسد مقدم عن جلب المنافع، وماعدش ينفع نشوف هناك إعلان زي ده مرة تانية لمدة 3 أجيال تقريبا.
إعلان نفهم منه إن التصوير والاختلاط والاحتفال بليلة راس السنة كانوا حاجات مقبولة في السعودية نفسها، مصدر الإسلام، والأمر ماختلفش غير بعد أمور سياسية جعلتهم يتبنوا تيار متشدد أكتر.
التحرك في اتجاه معاكس
من ما سبق نقدر نفهم إن التصوير موضوع خلافي، لإن زي ما ذكرنا الحلقة الأولى مافيش نص قرآني أو حتى حديث متواتر بيحرم التصوير، والقاعدة التشريعية ثابتة: الأصل في الأشياء الإباحة.. ما لم يرِد نص بالتحريم.
عشان كده التوجه السعودي كان قابل للتغير سنة 1979 بدون خروج عن حدود الدين، لأن النظام أبو خلفية دينية حافظ على إنطلاق أحكامه من آراء فقهية مُعتبرة، الأول كان مستند على آراء فقهية تُبيح التصوير ثم أستند على آراء فقهية تحرمه.
والأمر فعلًا فيه كلام كتير وخلاف بين الفقهاء والأئمة، ومفَنَطِينُه إيشِي لُه ضِل (التماثيل) وإشِي عديم الضِل (الرسومات والفوتوغرافيا)، وحاجة أخر مخمضة.
الخلاف ده سَهِل حركة نجوم الحركة السلفية المصرية، اللي حرموا التصوير والتلفزيون في شبابهم، فلما كانوا مايقدروش يظهروا في التيلفزيون أتبنوا الآراء الرافضة للتصوير، ولما التكنولوجيا أتطورت وبقوا يقدروا يستخدموا التليفزيون كمنبر إضافي.. غيروا بوصلتهم وأتبنوا الآراء المتقبلة للتصوير.
وبكده قدروا يحاربوا التليفزيون طول ما همة براه ثم لما لقوا الفرصة يدخلوا بقوا نجوم قنوات فضائية بشئ وشويات وبعضهم فتح قنوات، ومؤخرًا بقوا يوتيوبر جامدين.. وبينشروا صورهم للتفاخر بأمجادهم المصورة.
بس عدم فهم الناس أو إدراكهم بوجود الخلاف ده صعب حياتهم، وده بسبب إن نجوم الميكرفونات زمان ونجوم الشاشات دلوقتي ماحدش فيهم كان واضح وقال إن المسألة خلافية، ولا إن اللي بيقولوه ده رأي يتبناه البعض ويرفضه البعض، إنما قدموه بوصفه “كلام الله” و”صحيح الدين”، فتسببوا إن ناس كتير حرقت ذكرياتها المصورة وناس غيرهم سابوا شغلهم أو غيروا مسار حياتهم أو.. أو.. أو.. إلخ.
وده لو حصل عن عِلم فهي مصيبة.. ولو حصل عن جهالة فالمصيبة أفدح، على كل فإن عدم الاعتذار وعدم تصحيح المعلومة وعدم تغيير طريقة الخطاب الأحادية اليقينية.. كلها مؤشرات ينفع الإنسان يسند عليها في محاولة فهم وأستنباط إجابة السؤال: هل ما حدث كان عن عِلم ولا عن جهالة.
ختام
حين ملأ الشيخ كشك الهوا بصياحه ضد الفن والفانيين، حرم الغُنا لكن ماحرمش الكاسيت لا هو ولا أي شيخ جِه بعده، زي ما برضه ماحدش منهم حرم الراديو، فتقريبًا وصف “بِدعة” بيطلق على التقنية اللي مش تحت أيدهم، لكن لما يعرفوا يستخدموها ويستغلوها لصالحهم.. تبقى حلال، زي ما حصل مع “المفسديون” اللي النهارده بقى حلو وبسمسم زي الميكرفونات.
كان من باب أولى “وأعقل” أن يتم إلصاق التحريم بالمُنتج مش بالوسيط أو الآلة المستخدمة، والرجوع لقاعدة: “حلاله حلال وحرامه حرام“.
لإن ده كان هيخليهم أكثر منطقية، فالسِكِينة ينفع نقشر بيها برتقانة لإنسان عاجز وينفع نقتل بيها وينفع القتل ده يكون دفاع عن النفس، فهل هي نفسها حلال أو حرام؟ ولا الفِعل المستخدمة فيه هو العُرضة للتحليل والتحريم؟.
تفكير عقلاني وبسيط كان قادر على تفادي تحول التليفزيون في الخطاب السلفي من “مفسديون” لما المشايخ ماكنش ليهم سلطة ع البث إلى “شاشة تأخذك للجنة” لما بقى عندهم قنوات فضائية.
بس نقول إيه، وقتها كانت السعودية بتصرف على قاعدة “درء المفاسد مقدم عن جلب المنافع”، مش على قاعدة “حلاله حلال وحرامه حرام”.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال