“ثبات سعر بضاعة أبو جهل” تصحيح منشور مخالف للدين والتاريخ
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
دفعت الظروف الاقتصادية الحالية المتأزمة في مصر، مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي إلى كتابة مجموعة من التغريدات والتدوينات الغاضبة والساخرة، وكان من جملة المنشورات الغاضبة منشورًا حول بضاعة أبو جهل وثبات سعرها.
نص منشور بضاعة أبو جهل والداعي لتصحيحه
يقول نص المنشور المتداول «أبو جهل كان بيجيب بضاعة من الشام لمكة في 4 شهور وكان سعرها ثابت، لا وكان كافر».
الداعي لقيام موقع الميزان بتصحيح هذا المنشور أنه في حد ذاته كـ (منشور ساخر) لا شيء فيه، فهو من نوعية المنشورات الغاضبة التي تأخذ شكلاً من أشكال السخرية، وهي سمة يتسم بها المصريين خصوصًا مع الأزمات الغبية والمستفزة.
لكن المنشور (في نصه) يحتوي على أخطاء دينية وتاريخية نلخصها قبل تفصيلها بقولنا “أنه من الناحية الدينية قد أبطل الإسلام 90% من أنواع البيوع في مجتمع العرب قبل البعثة النبوية وكان من ضمن هذه البيوع أنواع فيها استغلال للناس؛ أما من الناحية التاريخية فليس صحيحًا على الإطلاق ما يقال، ليس لأن أبو جهل لم يأتي اسمه كقائد لقافلة تجارة الشام، وإنما لأن مسألة ثبات سعر البضاعة لم تحدث بتًاتًا”.
لماذا قصة بضاعة أبو جهل خاطئة
ابتداءًا فإنه لم يأتي اسم أبو جهل كقائد لقافلة تجارية في أي مرجع تاريخي تناول مجتمع مكة أو حتى الحجاز قبل الإسلام، لكن لنقبل بالمنشور على ظاهره، إذ أنه من المحتمل ذهابه لرحلة تجارية للشام لأن أمه أسماء بنت مخربة كانت تتاجر في العطور اليمنية وكان ولدها عبدالله بن أبي ربيعة (الأخ غير الشقيق لأبي جهل) يبعث لها بعطر اليمن من اليمن وكانت تضعه في قوارير وتزنها فتبيع نقدًا أو دينًا.[1]
في حال قبولنا أو رفضنا لمسألة أن أبو جهل كان قائدًا لقافلة تجارية، فإن هناك ثلاث أسباب تجعل القصة خاطئة وجميع هذه الأخطاء متعلقة بالتسعير، وأول هذه الأخطاء أن التسعير لم يكن بقرار فردي وإنما بقرار جماعي، ثانيها أن التسعير لم يكن يتم وفق قانون وإنما حسب رغبة التاجر في المكسب وفق ما يحدده حاجة الزبون للسلعة، ثالثها أن هناك أنواع للبيوع تستغل الناس وفيها ما أبطله الإسلام.
وقبل التفصيل في الأسباب الثلاثة يجب أن نشير إلى نقطة هامة وهي ماهية تجارة الشام؛ كانت بضاعة رحلة الشام التي تشتريها قوافل قريش معظمها استهلاكي تحتاج إليه القبائل والمجتمعات[2]، وكانت قافلة الشام متعددة في بضائعها مثل الزبيب والتبر والثياب والمصنوعات المعدنية، وكان بعضها غالي ومطلوب وأسعاره تحدد حسب الأماكن التي تبحث عنها؛ ولم تكن قريش تستورد التجارة لتقوم بتخزينها أو صرفها في أسواق مكة كون أن أسواقها قليلة، وإنما تصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو قليل أصلاً، أما غالب ما استوردته من بلاد الشام كانت تصدره لليمن وبقية بلدان جنوب شبه الجزيرة العربية.[3]
أما التفصيل المعلوماتي للأسباب فإن السبب الأول وهو أن التسعير لم يكن بقرار فردي وإنما بقرار جماعي؛ فتفصيله أنه لم يكن في مقدور أبو جهل (إن قبلنا أنه قائد للقافلة) ولا في مقدور أي شخص غيره أن يحدد سعر البيع في قافلة الشام وذلك لأن القافلة التجارية ليس لها صاحب واحد وإنما كان أصحاب رؤوس الأموال إما أسرة تجارية واحدة أو مجموعة أسر، أي أنها كانت تتسم بالصفة الجماعية لأنها كانت تحمل أموال لأشخاص عديدون منهم من يسافر معها ومنهم من يستأجر بديلاً عنه، ومنهم من يقرض ماله للتجارة على النصف ومنهم من يرسل تجارته نظير نسبة محدودة.[4]
أما السبب الثاني وهو أن التسعير لم يكن يتم وفق قانون وإنما حسب رغبة التاجر في المكسب وفق ما يحدده حاجة الزبون للسلعة؛ فلو مثلاً طالعنا تجارة السلاح سنجدها أنها من أربح الأعمال في السوق لإقبال الناس عليه، فكان يشتريه التاجر من صُنَّاعه أو من أسواقه، ثم يقوم ببيعه لمن يطلبه بسعر أعلى، فيربح بذلك كثيرًا من الفرق بين السعرين.[5]
أما السبب الثالث المتعلق بأنواع البيوع التي تستغل الناس وفيها ما أبطله الإسلام، فمثلاً كان هناك بيع اسمه النجش، ومعناه أن يجيء رجل ويزيد في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته[6]، بل كان البائع يأتي البائع بجماعة من أصحابه يتظاهرون بالشراء وبالتكالب على السلعة لرفع السعر، حتى يدفع الحاضرين على رفع السعر، فيرسو البيع عليهم، وبذلك يغش البائع المشتري وهو بيع نُهِيَ عنه في الإسلام.[7]
كذلك كان هناك بيع الحاضر (من سكان الحضر) للبادي (من سكان البادية) وله أشكال من ضمنها شراء سلع من الأعراب الوافدين على القرى وهم في طريقهم للسوق بأثمان بخسة، ثم عرضها في السوق بأسعار باهظة أو شراء السلع من الأعراب وهي في السوق ثم عرضها للبيع مرةً أخرى بسعر باهظ لكسب الفرق بين السعرين.[8]
ختامًا
الغرض من التصحيح
قلنا أن المنشور المتعلق ببضاعة أبي جهل في حد ذاته لا شيء فيه كمنشور ساخر، والسخرية سمة المصريين في الأزمات الغبية والمستفزة، لكنه كنص معلوماتي مخالف دينيًا وتاريخيًا.
اقرأ أيضًا
“حول أدلة وجودها بمصر” أسئلة قديمة جديدة قدمها فيلم رأس الحسين فكيف أجاب عنها
بالتالي ينبغي استدعاء شكل آخر للسخرية حتى وإن أرادت نفس الغرض، لكن بقصص حدثت بالفعل ولأن هذا يستدعي بحثًا ينوء به ذهن وسرعة رتم منشورات السوشيال ميديا، فالأفضل هو الألش بالنُكَت بدلاً من المعلومات المغلوطة دينيًا وتاريخيًا.
[1] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط/4، ج13، دار الساقي، بيروت – لبنان، 1422هـ / 2001م، ص293.
[2] فهد درهوم العتيبي، مكة وسيطرتها التجارية قبل الإسلام، المجلة الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، بيروت، ع37، سبتمبر 2022م، ص9.
[3] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج13، ص292.
[4] هاشم يونس عبدالرحمن، إبراهيم محمد علي، القافلة التجارية .. دراسة في النشاط الاقتصادي المكي قبل الإسلام، مجلة كلية العلوم الإسلامية – جامعة الموصل، مج6، ع11، يناير 2012م، ص9.
[5] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج13، ص308.
[6] المرجع السابق، ج14، ص78.
[7] المرجع السابق، ص84.
[8] المرجع السابق، ص83.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال