رسالة اعتذار ومحبة للأستاذ عبد الله حلمي
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يقف الملك محمد منير على المسرح، الجميع في حالة انتشاء كاملة، تتداخل أصوات الآلات التي يحاول العازفين ضبط طبقاتها، يهمهم منير كعادته أثناء بدء أي أغنية، يدخل مباشرة في الكوبليه الثاني من أغنية “الجيرة والعشرة”، تزاحمه صوت آلة الكولة التي تتوحد معه في نفس الجملة التي يغنيها، يمنح العازف عبد الله حلمي نفسه مساحة ارتجال بعد قفلة كل جملة، تلك المساحة تسببت في تعثر منير فلم يكمل الغناء ليبتسم ويفسح المجال له كي يغني بالآلة بدلًا منه.
هذا المشهد تكرر كثيرًا سواء في الحفلات أو في اللقاءات التليفزيونية، مما جعلني أقاطع أي عروض حية لمنير، كنت أرى حالة من فقدان السيطرة على العازفين على خشبة المسرح، وأن كل عازف يفعل ما يحلو له وبالأخص عبد الله حلمي الذي تجد له صولو منفرد في أغلب الأغنيات، أدرك تمامًا أن أغاني منير بها كم ثراء موسيقي يجعل الوقوف خلفه بمثابة فرصة ذهبية لكل عازف جيد لإبراز إمكانياته، وأنا أدرك أن الارتجال يجب أن يكون محسوب و بالتربيط مع باقي الفرقة، لكن يبدو أني كنت كمن يريد تقييد حريتهم وإجبارهم على الالتزام بالجملة الأصلية دون أية إضافات وهو الأمر الذي يقتل أي إبداع ولا يفضله أي عازف محترف.
تمر الأيام ويدعوني صديق لحفل المطرب علي الحجار، كان تركيزي الأكبر على صولوهات عبد الله حلمي أحد الأركان الرئيسية في فرقته، عندما قدم على الحجار الفرقة تفاجئت بعدم وجوده على المسرح لظروف سفره فتم تعويضه بـ عازف كمان!
بتوالي الأغنيات وجدت أن هناك فراغًا قد تركه غيابه، فهناك أغنيات تعتمد على صولوهاته بالكامل ولا أحبذ أن أستمع إليها بصوت إليكتروني أو تعزفها آلة أخرى، حتى طلب أحد الحضور غناء أغنية معينة، حاول على الرفض متعللًا بأن الفرقة لم تعزفها في حفل من قبل، لكنه استسلم لرغبة الجمهور في النهاية، ظهرت الأغنية بشكل سيء كما كان متوقعًا وحاول العازفون تدارك الأمر ففشلوا واكتفي علي الحجار بكوبليه وحيد منها معتذرًا عن عدم استكمالها.
ينتهي الحفل ويظل محور الحديث مع الأصدقاء حول تلك الأغنية، حاول البعض التماس العذر للفرقة لأنها لم تتدرب عليها، والبعض شكر على الحجار لتلبية طلب الجمهور، لأخرج أنا عن صمتي وأقول لو عبد الله حلمي كان متواجدًا لغناها على كاملة دون أي مشاكل.
يفاجئ صديقي بتعليقي على الأمر، لأقول له هذه هي الحقيقة الموضوعية التي يجب الاعتراف بها، وأن عبد الله حلمي قادر على سند أي مطرب يغني أمامه ،بالإضافة إلي أنه يحفظ تقريبًا كل أغاني منير وعلى الحجار، ويملك القدرة على ملء أي فراغ موسيقى وتوجيه الفرقة بعزفه، ضيف على ذلك خياله الخصب في التقاسيم والارتجال، وتكنيك عزفه العجيب وقدرته على الاستمرار لفترة طويلة رغم أنه يعزف على آلة صعبة تتطلب جهدًا جبارًا في تنظيم النفس.
تدين الموسيقى المصرية لعبد الله حلمي بالكثير، فهو الذي قدم لها آلة الكولة التي كانت حبيسة الأفراح والموالد في القرى والنجوع، في ظل سيطرة الناي الشقيق الأكبر لها على الفرق الكبيرة، .لم يكتفي عبد الله حلمي بذلك فقام بتطوير تكنيكات العزف بل وتدخل في طرق صناعتها وانتقاء أعواد الغاب حتى صارت الآلة ملتصقة باسمه التصاق تام وصار يعرف ب “عبد الله كولة”.
أقرأ أيضًا … ماذا لو عاشت المطربة ذكرى في زمن محمد القصبجي؟
تربي عبد الله في بيت فني حيث كان والده أحد أشهر العازفين في كفر الشيخ، وكان يجيد العزف على العديد من الآلات، وكان حلم عبد الله أن يصبح مثله فحاول الأب توجيه للغناء حيث الشهرة والصيت الأكبر حتى وجده يمسك بأحد أعواد الكولة ويحاول إخراج صوت منها فبدأ رحلة تعليمه له.
بدأ العزف مبكرًا وهو لازال صبي خلف كبار المطربين الشعبيين وجاب معهم أماكن كثيرة، تلك المرحلة الهامة التي أثرت في تكوينه كعازف، حيث يجد العازف نفسه في الفرق أكثر من الأستوديوهات، حيث طور في تكنيك العزف على الكولة ونمى خياله الخصب في التقاسيم والارتجال، وهو ما جعل كبار الموسيقيين يدخلون تلك الآلة في موسيقاهم ويكتبوا صولوهات منفردة خصيصا له، مثل بليغ حمدي وعمار الشريعي وعمر خيرت يحيي خليل.
ارتبط عبد الله حلمي بالثنائي على الحجار ومحمد منير، حيث كان اللقاء الأول أثناء قضاء فترة التجنيد في الجيش المصري، فكان يعزف خلفهم في الحفلات التي تقيمها الشئون المعنوية للترفيه على الجنود في كل أنحاء مصر.
خرج الثلاثي بأحلام متشابهة في تطوير شكل ومضمون الموسيقى المصرية، وصاحبهما عبد الله في رحلتهم الطويلة سواء في التسجيل أو العزف الحي خلفهم، ولم استعجب من إصرار منير على أن يكون عبد الله هو الوحيد المصري الذي يعزف معه في برنامج “كوك أستوديو” لتكون الكولة الآلة الوحيدة الشرقية التي تصاحبه في أغنية “الليلة يا سمرا” مع فريق موسيقى الريجي The Wailers تلك الأغنية التي يضيف إليها لمسة مختلفة في كل مرة يعزفها، أو يصر الحجار على حضوره في أي لقاء تليفزيوني.
هناك لقطتان يجب علينا الفخر كوننا نمتلك عازف مثل عبد الله حلمي، الأولى في حفل مهرجان الدانوب مع محمد منير منذ لحظة صعوده على المسرح صنع حالة من البهجة والفرح بصولوهاته و تقاسميه التي أبهرت الجمهور الأوروبي، والثانية وهي الأهم اشتراكه بالعزف في ألبوم المطرب السنغالي ” Youssou N’Dour” والذي نال عنه جائزة جرامي عام 2004.
رغم مصرية آلة الكولة إلا أن عبد الله حلمي لم يكتفي بالعزف داخل ألبومات المطربين المصريين فقط، فعزف في ألبومات كبار مطربي الخليج الخليج مثل عبد الله الرويشد و راشد الماجد وكاظم الساهر وفي مسيرته الفنية ثلاثة ألبومات خاصة بآلة الكولة فقط بعنوان “همسات ودموع الكولة” هذه الألبومات تعتبر مرجعًا أساسيًا لكل عازف كولة في الوطن العربي.
عندما طلب مني أن أكتب بروفايل عن عبد الله حلمي، قلت لن يكون بروفايل بقدر ما هي رسالة اعتذار ومحبة لهذا الرجل الذي عرفت قيمته متأخرًا، وانتابني الحزن عندما علمت أنه يرقد حاليًا في المستشفى بعد عملية جراحية صعبة في الحنجرة, لعل الرسالة تصله وتكون سببًا في رفع روحه المعنوية وأن يتم الله شفاؤه على خير ليعود إلينا مرة أخري يفعل ما يحلو له.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال