رواية نورماندي .. سَجن الروح الحرة !
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تحذير: في المقال حرق لبعض أحداث رواية نورماندي ونهايتها
تخيلت للوهلة الأولى أنني أمام رواية رعب بالمفهوم المتعارف عليه، و صدّق الروائي” أسامة الشاذلي” هذا حينما كتب على عتبة نصه” رواية نورماندي” ” رعب أكثر من هذا” ، والحقيقة أن أحداث النص جسدت أبشع صور الرعب ، رعب الحرية !!.
حكّمت سيريالية الرواية أن يكون النقد أكثر سريالية؛ فالمفارقات السيريالية تملأ جنبات النص بداية من التاريخ المدون أعلى فصول الرواية مرورا بالجو العام المسيطر على سردية النص وصولا لمحاكاة يوسف السباعي في روايته ” نائب عزرائيل” حيث استدعاء الأرواح ليتمحور حولها العمل.
التكنيك الزمني في رواية نورماندي
بدأت الرواية باسترجاع داخلي للزمن حيث التاريخ المدون في أول فصول النص ” 15 ديسمبر” دلالة الشهر ذاته جاءت مفارقة لأحداث الرواية فمن جانب يحمل الشهر دلالة النهاية ، أعني نهاية السنة الميلادية، ومن ناحية أخرى يحمل دلالة شتوية عاصفة، تتماشى تمامًا تقنية الاسترجاع المكاني داخل بنية النص، فهذا الشهر يحمل نهاية “باسم” الشخصية المحورية التي تدور حولها الرواية ، فنهايته كانت مع بدايات اعتقاله!
ثم يسير بنا النص نحو شهر “يناير ” و الذي يحمل انطلاقًا وبداية جديدة، لكن بداية “باسم” كانت الانتقال ؛ الانتقال نحو الحياة الأخرى !، ونهاية اعتقاله .
ومن النهاية المؤلمة للشخصية المحورية للعمل وبدابة انطلاق روحه نحو فضاء الواقع التي كانت تريده ، وهي نهاية واقعية لمعتقل رأي أصيب بالسكتة القلبية جراء صعقه بالكهرباء إبان وجوده في هذا المعتقل، و في ضوء هذا سلط الروائي بصورة مباشرة ووصفية حقيقية ما يتعرض له معتقلي الرأي في السجون، وبت أتسائل من واقعية المشهد هل جرب “الشاذلي هذا” !!، هنا تحديدا بين عالم الخيال والواقع يمكن الإحساس وصراع الفنان نحو قضايا مجتمعه .
دلالة الرمزيات وكيفية معالجة القضايا
وامتلئت الرواية برمزيات تاريخية عديدة أفصح عنها النص في البداية ثم أجاب على معظمها في النهاية، وتتساءل هنا لماذا الرمزية التاريخية الذي لجأ إليها ؟ أجاب النص عن هذا حيث إن الشخصية المحورية في النص باحث هاوي في التاريخ .
البداية مع أول رمزية استخدمها الكاتب، وجاءت مركبة يلاحظها القارئ في الوهلة الأولى، والإبداع المتمثل في هذه الرمزية المركبة أنه جمع ثلاث رمزيات كلا منهم لا تمت للأخرى بشيء إلا في شيء ديني متباعد حتى؛ لكن بعد رسم اللوحة يبين مقصد الكاتب، والرمزية عبارة عن ملحمة جلجامش مع ظهور مارمينا ، ثم رمزية كيرشنا مجتمعين في لقاء السحاب ، ويكأن أنين كيرشنا على ناييها، تدفع الأسى المتمثل في ملحمة جلجامش، عن أم ” مار مينا وهي تضرع أمام العذراء لترزق بابنها !، لوحة تبدو متكاملة لتوصيف حالة باسم الحر حينما أحكمت حول رقابه خناق الاعتقال ومن ثم موته ، فروحه هي التي تشتكي !.
ثم أسقط الروائي ما حدث إبان العُهده الناصرية من اعتقالات للطلبة، و تظهر إحالات عديدة في هذا المشهد أعني مشهد اجتماع الأشباح في شقته الجديدة في الدقي، وكان أولها إحالة موجزة لأحد رباعيات ” صلاح جاهين “:
“ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح..
ما تخافش من جني ولا من شبح ..
وان هب فيك عفريت قتيل اساله ..
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح”
الإحالة هنا تمثلت في سردية المشهد فباسم أراد الأشباح، والمفارق أن الأشباح تلك طمأنته، والإحالة الثانية كانت إحالة أدبية تاريخية في أشعار الفاجومي ـ فؤاد نجم ـ “رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني.. يا مصر إنتي اللي باقية وإنتي قطف الأماني” ، و إحالة ثالثة نحو القضية نفسها ؛ فبعد نكسة 1967م ظهر خطاب ثوري يشحن النفوس بروح التمرد على الأنظمة القمعية الفاشلة، التي أشبعتنا شعارات ثم جعلتنا نتجرع ذل الهزيمة والمهانة، وظهر خطاب يساري يستلهم التجارب الثورية تلك ، ومن ضمن تلك التجارب المتمردة كانت تجارب التلامذة وكانت المواجهة القمعية في المعتقلات هي مصيرهم، وعالج الروائي هذه القضية في نهاية أحداث الرواية، لكن يأخذ عليه الوقوع في السردية المفرطة، ففصل تجمع الأشباح عالج القضية بفنية عالية دون اللجوء إلى السرد الحوار كان كفيلًا، كما وقع أيضا في فخ السردية في معالجته متلازمة Ganser .
ومن أروع الرمزيات التي عالجها بحرفية وتقنية عالية هي رمزية ” تحية كاريوكا” ألبسها ثوب الأمومة التي افتقدتها، وعوضتها فيه حينما وضع رأسه على فخذيها ليشعر بالاطمئنان ـ باسم ـ كما عوضتها في حياتها عن طريق كفالة يتيم، ولما كانت تحية مناضلة حرة دافعت عن رأيها في عهد الملك ثم رأيها في العهد الناصري ثم حقبة السادات ومبارك ، تلك الفواعل المتمثلة في رمزية واحدة كانت جزأ من ما يتجرعه أصحاب الرأي في وقتنا الحالي.
ورمزية أخرى تجسدت في استدعاء الشيخ عبد الباسط نفسه وصوته ؛ أرى أن الاستدعاء من أجل الونس المتمثل في صوت الشيخ وترجمه في لقاء القبر حينا وصوته حينما أدرك موته، غير أن أرى أن استدعاء الشيخ يمثل تلك الحلقة المفقودة بين عبثية كون الشخصية المحورية مسلم ولا يعرف شيء عن دينه، وجاء ذلك متفرق بين جنبات العمل ، فمرة يسمع الأذان ورد الفعل حينها الاطمئنان ، ثم في موضع آخر يقول لم يقرب الصلاة منذ عشرة أعوام ، وموضع آخر كانت علاقته مع الدين مع ما يسمى بالتصوف الشعبي المتمثل في الحشيشة وحلاقات الذكر!، فجاء ذكر الشيخ كنوع من العودة للإيمان القلبي .
وهناك أيضا قضية عالجها “الشاذلي ” ببراعة يُحسد عليها، وهي قضية ضياع الصحافة ، ولما كانت روزاليوسف أحد أقوى الصحف السياسية والفنية في خمسينيات القرن الماضي ، باتت حاليا شأنها شأن معظم الصحف إللم يكن كلها تسعى إلى الانتشار والنشر دون النظر إلى المحتوى المقدم أو معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية بموضوعية.
كذلك قضية السحر الأسود والتي جعلتني للحظات أظن أنه المحرك الأساسي لأحداث الرواية، هذا السحر الذي يلجأ إليه بعض الضالين ثم يقومون بدفنه في القبور ، وعالجها المؤلف أيضا بكل براعة.
وأخيرًا بالنظر إلى اسم الشخصية المحورية وتعريفها الوظيفي ضمن أحداث رواية نورماندي ، ففي ظني هي شخصية حقيقية تعمل في الميزان، أما روح تلك الشخصية فهي مقسمة على ثلاث أفراد أيضا في ظني فالباحث التاريخي معروف واسمه ويعمل في الميزان كذلك والشخصية الثالثة هي شخصية المؤلف ففي مواضع كثيرة في النص ظننت أنني أمام سرد أحداث وحقائق واقعية من حياة المؤلف بداية من تلاقي روحه مع والده مرورا بفكرة وجوده في دهب ذلك المكان الذي يحب اللجوء إليه، كذلك الأفكار التي طالما نادى بها، وأسقط أفكاره تلك على شخصية الزعيم محمد فريد الباحث الأبدي عن معنى الحرية
نورماندي اسم الرواية … فاترك دلالتها ومعناه لقارئ الرواية المليئة بالأحداث والمكثفة بإلقاء الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية التي نعيشها بشكل أول بآخر .
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال