
“عمرها 50 سنة” لعنة ألف ليلة وليلة التي تفادها سعدي – جوهر

-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
يبقى الإنتاج هو الفاصل الحاسم في نجاح أي تجربة إبداعية، فالنص الجيد لا يرى النور إلا بجهة إنتاج تحتضنه وتقدّمه للجمهور، وينطبق هذا تمامًا على مسلسل جودر بجزأيه الأول والثاني وشركة ميديا هب سعدي – جوهر، وقبل الرجوع إلى تاريخ إنتاج ألف ليلة وليلة علينا في البداية التطرق إلى جودر نفسه لنقارن الحاضر بالماضي من حيث الإنتاج.
مرحلة جودر ولعنة الماضي / الحاضر التي تفادها سعدي ـ جوهر

يثبت تاريخ إنتاج ألف ليلة وليلة دراميًا أنها كانت دائمًا بوابة واسعة لعوالم الخيال، وهو ما أدركه واستثمره أنور عبد المغيث بذكاءٍ شديد فقد كان ابنًا للمسرح وربيبًا للتراث الشعبي، ولذلك قرر أن يمنح بطل ألف ليلة وليلة بُعدًا جديدًا، بعيدًا عن الاستعراض، والتهريج الكوميدي، وحتى مشاهد الأكشن التقليدية، وجعل منه بطلًا شعبيًا أصيلًا.
اقرأ أيضًا
مسلسل جودر2.. حينما يكون النص هو البطل!
ونص أنور عبدالمغيث يتمتع بمعرفة دقيقة بأساطير السحر والخرافات وعوالم الشياطين، ما يعكس خبرته العميقة وإلمامه بتفاصيل هذا العالم السحري، لدرجة أنه لم يكن مجرد كاتب سيناريو لقصة جودر بل بدا وكأنه متخصص في ألف ليلة وليلة ذاتها، ومن هنا، خلق شخصية “جودر” بأسلوبٍ مغاير لكل ما قُدّم من قبل.

كان الجهد الضخم الذي بذله أنور عبدالمغيث من بحثٍ دقيق، وتفانٍ في رسم التفاصيل، وحتى معايشة ذهنية عميقة لعوالم ألف ليلة وليلة مهددًا بأن يضيع هباءً، لولا جهود شركة ميديا هب سعدي – جوهر، التي وجدت نفسها أمام تحديات كبرى استطاعت اجتيازها بجدارة.

تمثل التحدي الأول في الجمهور، الذي ظل أسيرًا لنوستالجيا ألف ليلة وليلة في الثمانينيات، بينما أصبح متخمًا بأعمال الفانتازيا ذات المؤثرات البصرية المبهرة، لكن جميعها إنتاجات عالمية مثل هاري بوتر، وسيد الخواتم، وصراع العروش.
لذا، كان لا بد من تقديم عملٍ مختلف، يمزج بين الأصالة والتجديد، بحيث لا يكون مجرد تقليدٍ للأعمال العالمية، ولا استنساخًا للأعمال المحلية، وقد نجحت الشركة في تحقيق هذه المعادلة الصعبة، من خلال ديكورات وجرافيك يعكسان روح الحكاية دون أن يفقدا هويتها.

أما التحدي الثاني، فتمثل في طبيعة النص ذاته؛ إذ لم يكن نص أنور عبد المغيث قائمًا على التسلية التقليدية، بل كان نصًا مغامراتيًا بامتياز، يتطلب إمكانيات إنتاجية ضخمة تلائم طبيعة الحكاية، دون الوقوع في فخ محاكاة الأفلام الأجنبية، فالقصة مصرية المنشأ والروح، وكان لا بد أن يكون الإنتاج بقدر هذا التميز.
التحدي الثالث كان في التفاصيل، حيث برزت الدقة في تصميم الملابس والديكورات، التي جاءت مقنعة وبعيدة عن الافتعال، لتصوّر العوالم السحرية الشرقية بروحٍ حقيقية، ولم يكن هذا الجهد جماليًا فحسب، بل لعبت المؤثرات البصرية دورًا حيويًا في سرد الحكاية، حيث تم تنفيذها باحترافية جعلت المشاهد أقرب ما يكون إلى السحر، فتحوّلت الشاشة إلى نافذة تطل على عوالم خيالية آسرة، تخطف الأبصار وتحمل المشاهد إلى قلب الأسطورة.

كثيرًا ما يقع بعض المخرجين والأعمال الدرامية في فخ توظيف الإنتاج الضخم لمجرد الاستعراض البصري المبالغ فيه، مما يحوّل المشاهد البصرية إلى بهرجة مفتعلة تخفي ضعف المحتوى. لكن هذا لم يكن الحال في “جودَر”، فقد نجحت الشركة المنتجة في اختيار طاقم العمل بعناية، مما جعل الإبهار البصري عنصرًا مكملًا وليس هدفًا بحد ذاته.
جاء التوظيف البصري متناغمًا مع منظومة متكاملة من التمثيل، والتصوير، والديكور، والمونتاج، والماكياج، والملابس، والإكسسوارات، مما انعكس إيجابيًا على إيقاع المسلسل، ليخرج العمل في صورةٍ متماسكة، تحقق التوازن بين العمق البصري وسرد الحكاية بأسلوبٍ شيقٍ وجذاب.

هذه الأشياء التي فعلتها شركة ميديا هب سعدي ـ جوهر، نوقن بها عندما نشاهد المسلسل، لكن لا يمكن تقديرها إلا بمعرفة الماضي لألف ليلة وليلة الذي كان في أغلب الأوقات يواجه مشاكل الإنتاج.
1969م .. بداية متواضعة وانطلاقة مؤثرة

شهد الموسم الدرامي الرمضاني لعام 1969م ميلاد قطاع أفلام التلفزيون ضمن مؤسسة التلفزيون العربي (التلفزيون المصري/ ماسبيرو)، ولأول مرة، تولّى هذا القطاع إنتاج مجموعة من الأعمال الدرامية، التي عُرفت آنذاك باسم تمثيلية أو مسلسلة.
وفي ذلك السياق، خرجت ألف ليلة وليلة إلى النور لأول مرة على الشاشة الصغيرة في نوفمبر من العام ذاته، بانطلاقة متواضعة لكنها مفعمة بالطموح.
في بداية السيزون الرمضاني قُدّمت ألف ليلة وليلة كسباعية تلفزيونية من تأليف أحمد رشدي صالح وإخراج شوقي شوقي، حملت عنوان حلاق بغداد، ولعبت بطولتها سهير المرشدي ومحمد الدفراوي، ووفقًا لتغطية مجلة آخر ساعة حينها، أُنتجت أربع حلقات أخرى، مستوحاة من بعض أشهر الحكايات، مثل الصبية والمارد، الملك يونان والحكيم دُوبَان، الصياد والعفريت، والجمال والثلاث بنات. ، شارك في العمل نخبة من نجوم الفن، من بينهم سهير المرشدي، محمد الدفراوي، عبد الرحمن أبو زهرة، صلاح قابيل، هالة فاخر، بوسي.
لم يكن إنتاج المسلسل سوى استثمار لنجاح سلسلة ألف ليلة وليلة الأدبية، التي أعدّها للنشر أحمد رشدي صالح وزيّنها برسوم حسين بيكار وتولت دار الشعب طباعتها، كما كان خطوة أولى نحو توظيف الاستعراضات في تقديم حكايات الليالي فيما بعد.
لكن رغم الطموح الفني، شكّلت الظروف الاقتصادية لمصر في ذلك الوقت عقبة أمام تنفيذ الخدع السينمائية، التي كانت ستمنح العمل بعدًا بصريًا أكثر تميّزًا، فجاءت الصورة تقليدية، وإن حمل الأداء التمثيلي طابعًا إبداعيًا مكّن المسلسل من أن يحجز مكانه في ذاكرة المشاهدين، بينما ظلّت النسخة الإذاعية لـألف ليلة وليلة متربعة في القلوب، بوهجها الخاص وسحرها الآسر.
لم يقم التلفزيون بعد عام 1969م بإنتاج ألف ليلة وليلة طيلة 15 سنة، إلى جاء أن عام 1984م والذي كان انطلاقة سلسلة مسلسلات ألف ليلة وليلة بشكل المترسخ في أذهان الناس تلفزيونيًا.
1984م .. انطلاقة بمشكلة

في الموسم الدرامي الرمضاني لعام 1984، خرج مسلسل ألف ليلة وليلة إلى النور بإنتاج مشترك بين مصر وسلطنة عمان، بعد أن حظي باهتمامٍ خاص من الجانب العُماني. غير أن طريقه إلى الشاشة لم يكن ممهدًا، فقد واجه أزمة إنتاجية حادة عام 1983، حين رفض التلفزيون العُماني دفع نصيبه من تكاليف الإنتاج، وفقًا لبروتوكول التعاون المشترك مع التلفزيون المصري.
كان السبب الرئيسي لهذا الرفض هو ارتفاع ميزانية المسلسل، التي بلغت 480 ألف جنيه، وهي التكلفة التي تكفّل بها القطاع الاقتصادي في التلفزيون المصري. وقد اعتبر الجانب العُماني أن هذه الميزانية تجاوزت الحد المعقول، مستشهدين بأجور الفنانين، حيث تقاضت نجلاء فتحي ثلاثة آلاف جنيه عن كل حلقة، بينما حصل حسين فهمي على ألفي جنيه للحلقة الواحدة، ما كاد أن يؤدي إلى أزمة كبيرة بين الطرفين.
ولمواجهة هذه الأزمة، قامت سامية صادق، رئيسة التلفزيون المصري، وحسين عنان، رئيس قطاع الشؤون المالية والاقتصادية باتحاد الإذاعة والتلفزيون، بزيارتين منفصلتين إلى سلطنة عمان لإجراء مفاوضات. وقد أسفرت هذه الزيارات عن التوصل إلى اتفاق يقضي باستمرار المشاركة العُمانية في إنتاج ألف ليلة وليلة، مقابل مشاركة مصر في إنتاج مسلسل الخليل بن أحمد الفراهيدي، بطولة أحمد مرعي وإيمان الطوخي، وكذلك مسلسل السندباد، الذي أدى بطولته الكويتي إبراهيم حربي، وشارك فيه نخبة من فناني عُمان ومصر، من بينهم: فخرية خميس، صالح زعل، عبد الله غيث، حمدي غيث، أمينة رزق، توفيق الدقن، أمين الهنيدي، حسن حسني، عبد العظيم عبد الحق، شيرين، ليلى طاهر، سميرة عبد العزيز، محمود مسعود، وسامح الصريطي.
كانت ميزة ألف ليلة وليلة 1984م أنها شهدت خدعًا بصرية قوية (بمقاييس عصرها)، لكن ظلت قائمة على الحكايات، إلى أن طرأ تغير كبير على ألف ليلة وليلة بعد ذلك الموسم مباشرةً.
فهمي عبدالحميد وقطاع الإنتاج والخلود الكبير

جاءت نقطة التحول والشهرة لحكايات ألف ليلة وليلة مع المخرج فهمي عبدالحميد بتقديمها في مواسم (1985م ـ عروس البحور)، و(1986م ـ وردشان وماندو) و(1987م ـ كريمة وحليمة وفاطيمة) و(1989م ـ الأشكيف وست الملاح) و(1990م ـ بدر باسم وجوهرة بنت السمندل).
كان الإنتاج في تلك المسلسلات أحد أبرز العناصر التي وفرت للمخرج فهمي عبدالحميد كافة الأدوات التي من خلالها أظهر ألف ليلة وليلة بشكل لافتٍ حينها بمقاييس كل موسم، ولقيت نجاحًا مدويًا خصوصًا وأنها أخذت أشكال الفوازير مع الاستعراضات، خاصةً وأن كاتبها طاهر أبو فاشا.
بعد رحيل فهمي عبدالحميد جاءت مسلسلات أخرى لألف ليلة وليلة، لقي بعضها نجاحًا مثل قصة علي بابا والأربعين حرامي لـ يحيى الفخراني ودلال عبدالعزيز، وبعضها فشل فشلاً ذريعًا مثل نسخة ليلى علوي، وبعضها سار على درب فهمي عبدالحميد في الخدع البصرية، لكن رغم الإمكانيات التي لقيتها بعض الأعمال لكن كان الإنتاج متباينًا بين صعود وهبوط، حتى عام 2005م إلى أن أعيد تقديمها سنة 2015م مع شريف منير ونيكول سابا لكنها لم تلقى النجاح المرجو، لحين إنتاج جودر.
عودة بـ جودر
نجح مسلسل “جودَر”، بفضل تماسك النص وجودة الإنتاج من شركة سعدي – جوهر في استدراج المشاهد إلى عوالمه الآسرة، رغم أن الحكاية مألوفة لدى كثيرٍ من قراء “ألف ليلة وليلة”.
غير أن العمل قدّم توليفة درامية مدهشة، شكلت عقدًا غير معلن بين المخرج والمؤلف من جهة، والجمهور المتلهف للحكايات من جهة أخرى، على وعدٍ بتقديم تجربة شيقة وممتعة، بعيدًا عن العشوائية والارتجال اللذين يطغيان على كثيرٍ من المسلسلات.
ولم يقتصر الإبهار على السرد الدرامي فحسب، بل امتد إلى المستوى البصري والتقني، حيث جاء التصوير، والديكور، والمؤثرات البصرية موظفًا بإبداعٍ دقيق لخدمة القصة، مما جعل العمل تجربة فريدة تستحق المشاهدة والتكرار.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟







