سعد إدريس حلاوة .. وثائق عن شهيد مصر المجنون الجميل الذي عارض التطبيع
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ثُوِّج سعد إدريس حلاوة على قائمة أول الذين أعلنوا رفضهم العلني للتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي قام كـ دولة بعد ميلاده بعامٍ واحد، وكان رفضه متمثلاً في عملية مسلحة غريبة.
قبل نكبة فلسطين بعام واحد ولد سعد إدريس حلاوة في 2 مارس عام 1947 م في قرية أجهور محافظة الدقهلية لأسرةٍ ميسورة الحال حيث كان والده شقيق عمدة القرية وترك له ولإخوته الستة 20 فدانًا وبيتٍ من فدان واحد.
سعد إدريس حلاوة .. حياة في فترة ساخنة
قُدِّر لـ سعد إدريس حلاوة أن يعيش كافة مواجهات الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كان في سن الـ 9 سنوات حينما بدأ العدوان الثلاثي على مصر، وفي عشرينيات عُمْره حضر نكسة يونيو وحرب الاستنزاف ووصلت إلى مسامعه جرائم إسرائيل في بحر البقر وأبي زعبل.
عاصر سعد إدريس حلاوة نصر حرب أكتوبر وأحس بأن الكرامة تسري في روحه، وبالتالي كان متربيًا على كره كل شيء له صلة بإسرائيل وعلى ذلك لم يكن سعد إدريس أن يتصور صلحًا أو سلامًا بين مصر وإسرائيل فأصيب بصدمة سنة 1977 عقب زيارة الرئيس السادات للقدس، وتفاقمت الصدمة مع توقيع معاهدة السلام عام 1979 حتى وصل لنقطة اللاعودة عام 1980 م.
عملية المجلس القروي في أجهور
كان يوم 26 فبراير 1980 غير عادي في مصر، ففي الصباح وبداخل قصر عابدين كان الرئيس السادات يعتمد أوراق 3 سفراء جدد أولهم مستر جريفريدا السفير الإيطالي، وثايو أفراهيم كانا سفير دولة ليسوتو الإفريقية، وثالثهم إلياهو بن اليسار سفير إسرائيل.
في ظهيرة اليوم اتجه موكب الياهو بن اليسار إلى مقر السفارة الإسرائيلية في الدقي ورُفِع العلم الإسرائيلي ليقابله الجيران من النساء المصريات بالصراخ.
تزامنًا مع صراخ نساء الدقي جارات السفارة الإسرائلية كانت هناك صرخة أخرى في الوحدة المحلية لقرية أجهور حيث خرج سعد إدريس حلاوة من منزله بموتوسيكل يقوده سليمان عبدالعزيز عبدالمؤمن سليمان، وحمل سعد شنطة سفر واتجه إلى الوحدة المحلية لقرية أجهور وترجل من الموتوسيكل حاملاً الحقيبة التي قال أن بها بضائع من بورسعيد ويريد من الحاج محمد نصيف منصور خاطر سكرتير المجلس المحلي للقرية أن يسمح له بالدخول لعرض البضائع على الموظفين.
اقرأ أيضًا
التطبيع من جديد
دخل سعد إدريس حلاوة بحقيبته واتجه للطابق الثالث وتكاثر الموظفون حوله ليروا البضاعة ثم استأذن أن يذهب إلى الحمام وحمل الحقيبة للداخل وما هي إلا دقائق حتى خرج من الحمام وهو يحمل رشاشًا آليًا مصوبًا على الجميع والحقيبة على كتفه ثم دخل للغرفة المطلة على فناء الوحدة المحلية وأعلن أنه احتجز 10 من موظفي الوحدة كرهائن لحين طرد السفير الإسرائيلي وإن لم يستجب السادات لطلبه سيقتل من يحتجزهم ثم يطلق على نفسه الرصاص وقام عبر ميكرفون الإذاعة المحلية للوحدة بتشغيل أغاني عبدالحليم حافظ الوطنية ثم مقتطفات من خطب الرئيس جمال عبدالناصر ثم هتافات ضد السادات والنظام.
تقييم تصرف سعد إدريس حلاوة
من الناحية العقلية وبعد مضي 40 عامًا يبدو أن تصرف سعد إدريس حلاوة غير مفهوم ليس فقط لأن من احتجزهم مصريين وليس لهم صلة بالموضوع، وإنما أيضًا بسبب شكل رفض التطبيع الذي قام به خاصةً وأنه مقترن بطلب طرد السفير، فلو أنه مثلاً حاول أن ينسف السفارة بكل من فيها لكان هذا العمل مقبولاً من حيث شكل الرفض والطلب، أو لو قام بعملية اغتيال لأي مسؤول في السفارة بطريقة تنظيم ثورة مصر لكان لاعتراضه معنى من حيث الطلب والغاية.
لكن بنظرة إلى أجواء عام 1980 وبيئة سعد إدريس حلاوة يمكن أن نفسر تصرفه، فهو ليس له أي نشاط حزبي أو تنظيمي حتى ينضم لجماعة مسلحة ويقوم بتنفيذ عملية ضخمة، إلى جانب هذا فإن سعد إدريس كان رد فعله فطريًا غير محسوب فأراد أن يسجل اعتراضه، فهو قد اعتبر أن الوحدة المحلية رمز من رموز مؤسسات الدولة التي يجب أن تنقذ مواطنيها الذين احتجزهم هو كرهائن قبل أن يقتلهم.
يؤكد ما سبق الإجابة على السؤال الأهم في تقييم تصرف سعد وهو: هل فعلاً كان سعد إدريس حلاوة ينتوي فعلاً تنفيذ تحذيره بأنه سيقتل الموظفين العشرة الذين احتجزهم كرهائن ؟.
الإجابة الصحيحة أن سعد إدريس حلاوة لم يكن جادًّا في تحذيره، أو بالأحرى سعد إدريس حلاوة لم يكن ينوي قتل أحد من الموظفين العشرة، لأسباب كثيرة عقلية ومادية، فالعشرة الذين احتجزهم من كبار موظفي الوحدة كلهم كانوا جيرانه ومن أهل بلدته وهم «عبدالغفار عبدالمنعم محمد ـ أمين الخزنة ـ، عبدالسميع إبراهيم أحمد السيسي ـ مشرف زراعي ـ، عبدالسميع إبراهيم البيدق ـ مشرف جرار ـ، إبراهيم محمد محمد أحمد ـ مساعد أمين الخزنة ـ، محمد نصيف منصور خاطر ـ سكرتير المجلس القروي ـ، إسماعيل محمد أحمد عامر ـ معاون المجلس ـ، محمد علي الشيخ ـ كاتب ـ محمد إبراهيم سليم ـ تومرجي بمستشفى أجهور ومنتدب بالمجلس القروي ـ، منصور عبدالوهاب منصور ـسائق جرارـ ، يوسف خالد يوسف ـ سكرتير مكتب تنظيم الأسرةـ ، حربي إبراهيم محمد صقر ـ كاتب حسابات المجلس القروي ـ».
كذلك فإن أسلوب سعد إدريس حلاوة في التعامل مع الرهائن لم يكن أسلوب شخص قاتل، فالعشرة أكدوا في تحقيقات النيابة أن نفس الحقيبة التي كان بها الرشاش، احتوت على كمية من البسكوت وكيس به عدد من أصابع الكفتة المحمرة إلى جانب كمية من فاكهة البرتقال فضلاً عن سبرتاية شاي وكيلو سكر وورقة شاي وزمزماية مياه، وكان يقدم لهم الطعام، بالتالي فإن هذه تصرفات إنسان ليس فيه نزعة القتل أو حتى جديّتُه.
شيئًا آخر ذكره الموظفين العشرة وهو أعجب من العجب ويثبت أن سعد إدريس حلاوة لم يكن ينتوي قتلهم، فأثناء محاولة فض اعتصامه وحينما أطلقت قوات الأمن وابلاً من الرصاص على المبنى كان يطمئن على أن الموظفين بخير ولم يصاب أحد منهم، فهذا التصرف ليس تصرف قاتل ولا تصرف جبان لأنه كان يستطيع أن يستخدمهم كدروع بشرية.
كيف قُتِل سعد إدريس حلاوة ؟
قُتِل سعد إدريس حلاوة في اليوم التالي وبالتحديد في الساعة 7 صباح يوم 27 فبراير عام 1980 م بعد 24 ساعة من تصرفه والمفاوضات معه، ففي عصر 26 فبراير توجهت قوة إلى الوحدة المحلية تضم ألفين جندي بقيادة اللواء النبوي إسماعيل وزير الداخلية وحسن أبو باشا مدير المباحث العامة، واللواء حسين السماحي مدير مصلحة الأمر العام، اللواء صلاح بهجت قائد قوات الأمن المركزي، الدكتور أحمد فهيم محافظ القليوبية، اللواء أحمد مختار مدير أمن القليوبية.
جرت مفاوضات مع سعد إدريس حلاوة لتسليم نفسه، بدأها أولاً المقدم وجدي بيومي الضابط بالمباحث الجنائية الذي جاء بوالدة سعد تقنعه بتسليم نفسه دون جدوى، ثم قام وزير الداخلية باستدعاء الشيخ نور حلاوة زوج خالة سعد وأمين الحزب الوطني في القليوبية والذي حاول مفاوضة سعد لكن الأخير قال له إنت من حزب البصمجية.
بقرار من الرئيس السادات أعطى اللواء النبوي إسماعيل وزير الداخلية أمرًا بالاقتحام صباح 27 فبراير فأصيب سعد وسقط داخل الغرفة وصاح أحد المحتجزين بسقوطه مصابًا لتقتحم أفراد من قوات الشرطة المبنى ويقوم أحد الضباط بإطلاق الرصاص عليه وهو مصاب.
الشقيق الخسيس لسعد إدريس حلاوة
اشْتُهِر عن سعد إدريس حلاوة لقب المجنون وهي تهمة مخزية للغاية لكن الأكثر خزيًا أن من أطلق هذا الاتهام هو أحمد إدريس حلاوة هو الذي قال عن شقيقه في محضر النيابة أن سعد مجنون.
في 27 فبراير 1980 أجرى عبدالرحمن فتوح حماد وكيل نيابة طوخ تحقيقًا مع أحمد إدريس حلاوة «مهندس بشركة بيبسي كولا ويقيم من منطقة مدكور بالهرم» وأفاد في أقواله أن أخيه سعد مجنون ويعاني من عقد نفسية لأنه فاشل دراسيًا ولم ين موظفًا مثل بقية إخوته وقد فُسِخَت خطوبته من فاتن بنت بنت عمي عبدالفتاح خلفاوي الشيخ لشك عمي في قواه العقلية.
تلقفت جريدة الأهرام هذه المعلومة فنشرت في 28 فبراير وصف المعتوه على سعد حلاوة في سياق تغطيتها القصيرة للحادث.
أخذت الأهرام بأقوال أحمد شقيق سعد لكن لم تأخذ بأقوال شقيقه الآخر سالم «مهندس البترول والذي يقيم في أجهور»، فقد قال في تحقيق مارس 1980 «سعد كان تاعبنا آه لكنه مكنش مجنون أبدًا» ولما سأله وكيل النيابة عن سبب فسخ الخطوبة من بنت بنت عمه وهل هي بسبب قواه العقلية قال «أنا اللي خطبت له بعد ما أخدنا رأيه وكان معايا المرحوم أبويا، وكان فيه حتة أرض متأجرة بينا وبين أبو خطيبة سعد وكانت المعاملة ماشية ودي لحد ما الجمعية التعاونية الزراعية قالت لازم المعاملة تبقى ميري ورسمي فحصل استشكال على الأرض فالحاج عبدالفتاح زعل وقرر إنه يفسخ الخطوبة»؛ أما شقيق خطيبة سعد فقال «سعد عمره ما كان مجنون، دا كان عاقل ومتدين وأخلاق، وبعدين أبويا مفسخش الخطوبة أصلاً هو زرجن بس عشان الأرض لكنه مفسخش لإنه كان بيتكلم بعد مشكلة الأرض في الشبكة !».
الانتقام من سعد إدريس حلاوة .. حيًا وميتًا
لم تنتهي مأساة سعد حلاوة بقتله، فإن المعاناة استمرت لتنال من شرفه وتؤذي أقاربه، فقد روج الإعلام أنه مجنون فكتب نزار قباني مقال مجنون مصر الجميل، كذلك تم اتهامه بالشروع في قتل يوسف خالد يوسف (والذي ذكر أن سعد لم يطلق عليه الرصاص بقصد القتل).
من حيث أقاربه فقد كان عمه الوحيد الحفناوي أحمد سليمان حلاوة هو عمدة القرية وقت وقوع الحادث وقد انتقمت منه الأجهزة الإدارية بفصله من العمودية وعدم التجديد له يوم 14 فبراير عام 1981 م.
فقد قرر محمود الشافعي أبو وافية «رئيس لجنة الشكاوى في مجلس الشعب وعديل الرئيس السادات» بعدم التجديد للحفناوي عم سعد بحجة أنه لم يكن إيجابيًا في العمل ولم يقدم المساعدة لرجال الأمن.
وفي 26 ديسمبر 1982 أقرت النيابة بأن سعد إدريس حلاوة قُتِل بعد إصابته وأغلقت النيابة قضيته دون إقامة الدعوى الجنائية لعدم معرفة الفاعل الأصلي من قوات الشرطة وألزمت الشرطة البحث والتحري عن القاتل.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال